محمد حسن حمادة يكتب: المشهد الأخير في حياة السيدة فاطمة الزهراء رضي الله تعالي عنها بعدسة الإمام الغزالي
أتوقف عند المشهد الأخير في حياة ريحانة أهل الجنة بنت رسول الله صلي الله عليه وسلم وقرة عينه السيدة فاطمة الزهراء، سيدة نساء العالمين ، الحوراء ، الصابرة، الصديقة ، الطاهرة، اُمّ الحسنين، وغيرها من الكني والألقاب التي انفردت بها حبيبة أبيها ، واُمّ أبيها، فأبكي كثيرا وأتعجب من قوة الحب بين الحبيبين ماكان بينها وبين أبيها، ثم حبها لعلي كرم الله وجهه، وقوة إيمان السيدة فاطمة الزهراء رضي الله تعالي عنها وخاصة بعدما أبلغها أبوها وهو في سكرات الموت بأنها ستكون أول أهله لحوقا به، فماتت بعده بستة أشهر بالطبع كانت في حالة فرح فهي حِب أبيها ولن تطيق الحياة بعده علي الأرض ولكن لها في الأرض حبيبها وزوجها الإمام علي شقيق قلبها وتوأم روحها آثرته علي كل كنوز الدنيا رضيت بعلي ولم ترض بصداقه وكان أربعمائة درهم، فنزل جبريل ليخبر رسول الله صلي الله عليه وسلم أن الجنة صداقا لفاطمة فلم تقبل!!! ياالله الجنة صداقا لكِ وتأبين إذن ماذا تريدين؟
تريد شفاعة أمة محمد صلي الله عليه وسلم لأن قلب أبيها مشغول بأمته فعاد جبريل بصداق فاطمة كاغد والكاغد (رقعة من حرير ) مكتوب فيه: جعلت شفاعة أمة محمد صداقا لفاطمة”.
لم تفكر في المال ولا جني الأموال وهي من هي فاطمة بنت محمد وكفي لاأحد علي وجه البسيطة يدانيها في الحسب والنسب والشرف فهي بنت رسول الله صلي الله عليه وسلم ولكن هؤلاء ليسوا طلاب دنيا زاهدون في كنوزها وزخرفها ومتاعها فهم خير من خبر وفهم حقيقتها فاختارت بقلبها، اختارت عليا، اختارت الدين والفتوة والعلم والرجولة فلا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار تزوجته وأنجبت منه سيدي شباب أهل الجنة الإمام الحسن والإمام الحسين فلذة كبد جدهما وأبيهما وأمهما كيف ستفارقهما وتتركهما وكانا حدثين صغيرين؟
بل والأدهي والأمر أنها خبرت بمحنتهما من أبيها لله دركِ يابنت رسول الله كيف هزمتِ قلبكِ بل كيف قتلته؟
أمات بعد أبيك؟
لا والله فقلب الأم لايشيب وقلب الحبيب لايموت ولايهرم، كانت بنت رسول الله صلي الله عليه وسلم تستطيع عندما أفضي إليها أبوها بسر لحاقها به بعد موته أن تطلب منه أن يدعو الله لها أن يطيل في عمرها من أجل قرتا عينيها الحسن والحسين ولكنها لم تفعل، فالشوق للقاء ربها يطغي علي كل شئ علي النفس والروح والولد والحياة، فمن أحب لقاء الله أحب الله لقائة، أما الشوق لأبيها فلذلك قصة أخري ونحن نعرف ماكان بينها وبين أبيها من أنس وتعلق.
هنا يبرز الإيمان بالقضاء والقدر والامتثال والخضوع له بنفس طيبة راضية إنها أكمل وأجل مراحل العبادة، العبادة من أجل الرضا وليس من أجل العطاء فأين نحن منكِ يافاطمة؟
أيتها الشابة الأبية المسلمة كابدتِ مع القدر الأحزان فأي شابة تتحمل في شهور معدودة نبأ وفاة أبيها والعلم بموت ولديها في المستقبل وتعيش ستة أشهر وهي تعلم أن أيامها معدودة في الحياة!!!
كيف كان شعورها نحو ولديها الحسن والحسين وخاصة عندما تُقبلهما وعندما تحتضنهما وقد علمت بمأساتها وبمأساتهما أي إحساس كان يكابدها وهي تعلم بذهابها وبذهابهما ومظلوميتهما وماسيكابدانه من هذه الأمة وقد طلبت من أبيها أن يكون صداقها شفاعة أمة محمد صلي الله عليه وسلم فهل هذا رد للجميل؟
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
كيف سنلتقيكِ يافاطمة يوم الحشر العظيم وقد أوردنا ولديكِ موارد التهلكة؟
كيف سنلقاكِ يوم الحشر العظيم وقد قتلنا فلذتي كبدكِ؟
أنتِ تفكرين في أمة محمد ونحن نرد جميلكِ بكل خسة وندالة أي عار ورثناه إلي يوم الدين؟
لكن من حسن حظنا أن الأعين لن تلتقي فكما تقول الرواية:
يقال إذا كان يوم القيامة نادى مناد:
ياأهل الجمع غضوا أبصاركم عن فاطمة حتى تمر على الصراط، وإنما يسترها الله عن أعين أهل الموقف لأنها سترت نفسها عن غاسل الموتى فغسلت نفسها في حياتها.
حتي بعدما عرفتِ بما سيصيب قرتا عينيكِ لم تفكري في الدعاء علي أمة محمد التي لم تعرف قدر ولديكِ.
هذا المشهد الدرامي الأليم المؤثر والأخير لبنت رسول الله صلي الله عليه وسلم وقرة عينه يرويه لنا الإمام الغزالي في كتابه (سلوة العارفين) بطريقة تدمي القلوب وتثير الشجون والعبرات أنقله لكم نصيا كما ورد بالكتاب حتي تستشعروا قوة وجمال اللحظة وفي نفس الوقت هيبتها وجلالها لشابة وأم مسلمه وهبت نفسها وحياتها لله وللإسلام ولم تكن الدنيا مبلغ همها بل لم تعرها اهتماما وكانت خارج نطاق حساباتها، والآن أترككم مع نص كتاب (سلوة العارفين) بعدسة الإمام الغزالي الرقيقة المحبة لآل البيت رضوان الله عليهم جميعا:
“دخل سيدنا الإمام علي كرم الله وجهه ورضي عنه يوما على السيدة فاطمة وهي تغسل رأس سيدنا الحسن، فلما فرغت من ذلك مشطت رأسهما وغسلت ثوبهما وأخذت دقيقا وعجنته وخبزت خبزا ولم تتكلم مع الإمام علي فقال سيدنا علي: يافاطمة رأيت منك عجبا لم أره قبل هذا!!! فإنكِ غسلتِ رأسهما وثوبهما وخبزت خبزا كثيرا ولم تتكلمي معي !!!
فقالت السيدة فاطمة: ياعلي إني فعلت ذلك لأني أريد أن أذهب إلى ضيف حتى لايكون أولادي جائعين ولم أتكلم معك لأني أريد الفراق منك وأنشدت هذه الأبيات في حق أبيها عند الفراق.
إذا أشتد شوقي زرت قبرك باكيا،
أنزح وأبكى لأراك ما بي.
أياساكن الصحراء علمني البكا،
وذكرك أنساني جميع المصائب.
وإن كنت عني في التراب مغيبا،
فما أنت عن قلب الحزين بغائب.
ثم قال الإمام علي: يافاطمة متى ترجعين من عند الضيف؟؟
قالت لامرجع إلي يوم القيامة
قال سيدنا علي: ماهذا الكلام يافاطمة؟
الوحي منقطع ومن أخبركِ بذلك؟
قالت السيدة فاطمة الزهراء :
رأيت البارحة أبي رسول الله محمدا في المنام وقال لي: يافاطمة طال العهد وأشتد الشوق وأنا منتظركِ.
فلما سمع علي هذا الكلام من فاطمة بكى
وأنشد يقول شعرا:
لكل اجتماع من خليلين فرقة،
وكل الذي دون الفراق قليل.
وإن افتقادي فاطما بعد أحمدا،
دليل على أن لا يدوم خليل.
وكيف منامي العيش من بعد فقدهم،
لعمرك شيء ما إليه سبيل.
ثم دعت فاطمة الحسن والحسين فأجلست الحسن على فخذها الأيمن والحسين على فخذها الأيسر فنظرت إلى وجههما وتبكي وتقول :
ياليت شعري من يغسل ثوبكما بعدي
ومن يمشط رأسكما بعدي، لو أدركت زمان محنتكما وقتلكما وبكيت لأجلكما.
ولما سمع علي من فاطمة هذا الكلام قال
الموت صعب ولكن موت الغرباء وموت الشباب وموت اليتامى أصعب ولأن فاطمة كانت في المدينة غريبة وشابة ويتيمة.
ثم قال علي: يا فاطمة فإني أوصيك بوصية إذا رأيتِ أباكِ رسول الله محمدا فأقرئيه مني السلام وقولي إني مشتاق إليك والأخرى إن لم تكوني راضية عني فلا تشتكي إلى رسول الله لأني رجل فقير !!! لم أعرف قدركِ.
والأخرى إذا رأيتني في عرصات القيامة وأنا في يد الزبانيه تشفعين لي.
فلما سمعت فاطمة هذا الكلام من علي فقالت: ياعلي ولي إليك وصية أيضا إذا مت فكفني وادفني بنفسك
والأخرى إذا رأيت غريبا ويتيما وشابا فاذكر غربتي وشبابي، والأخرى أن لاتصيح ولاتضرب الحسن والحسين ثم قالت :ياعلي قد جاء أبي محمد وأرى ملائكة السماء وملك الموت، ثم قالت ياعلي قم وأتنى بحقتي فجاء مع الحقة وقالت فاطمة : ياعلي إذا أردت دفني فأخرج من هذه الحقة كاغدا واجعله في كفني ولا تنظر.
قال علي: يافاطمة ما في الكاغد؟
قالت سرّ
قال بالله عليك أن تخبريني
قالت فاطمة :حين أراد النبي أن يزوجني منك قال يافاطمة هل ترضين أن أزوجكِ من علي على صداق أربعمائة درهم ؟
قالت: قلت رضيت عليا ولا أرضي بصداق أربعمائة درهم.
فجاء جبريل وقال :
يا رسول الله يقول الله تعالى جعلت الجنة وما فيها صداقا لفاطمة
قلت لا أرضى !!
قال وماذا تريدين؟
قلت أريد شفاعة أمتك لأن قلبك مشغول بهم ، فرجع جبريل ثم جاءني بهذا الكاغد مكتوب فيه “جعلت شفاعة أمة محمد صداق فاطمة”
إذا كان يوم القيامة آخذ هذا الكاغد أقول:
إلهي وسيدي هذا قبالة شفاعة أمة محمد ويقال إذا كان يوم القيامة نادى مناد :
ياأهل الجمع غضوا أبصاركم عن فاطمة حتى تمر على الصراط وإنما يسترها الله عن أعين أهل الموقف لأنها كانت سترت نفسها عن غاسل الموتى غسلت نفسها في حياتها.
وفي ذلك اليوم زينت الحسن والحسين وأرسلتهما إلى المسجد لأن النبي أخبرها أنكِ تلحقينني ثم قالت للعجوز التي كانت تخدمها لا تأذني لأحد بالدخول علىّ فإني أشتغل بالمناجاة والصلاة فغسلت نفسها وكفنتها وحنطتها بباقي حنوط رسول الله وغطت وجهها بكساء وجددت الإيمان فأمر الله ملك الموت أن يقبض روحها.
فلما كان وقت الضحى رجع الحسن والحسين ودخلا عليها وظنا أنها نائمة فقال الحسن للحسين:
أيقظها فإن وقت الصلاة قد دنا
فناداها يا أماه !!
فهتف هاتف
كيف تنادي الميت؟
فلما كشفا عن وجهها سطع النور منه وهي كأنها نائمة فبكيا وبكت العجوز وبكى الجيران وسمع علي الصراخ فخرج من المسجد مسرعا فوجدها ميتة ووجد خطا تحت وسادتها”
ياعلي أوصيك بالحسن والحسين فغسلها علي ثانيا فكان هو مخصوصا بذلك لأنه سمع النبي صلي الله عليه وسلم: يقول كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي
قال له ياعلي إنها زوجتك في الجنة لذلك غسلها و دفنها ببقيع الغرقد”.
فاللهم صل علي سيدنا ومولانا محمد صلي الله عليه وسلم وعلي آل محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.