بقلم – خديجة أجانا ” المغرب”:
لوحة 1
أرسمني في غرفة قاتمة متعفنة الجدران، يجافيها الهواء كما الشمس … تلك المكبلة في سريرها، تدخل في نوبة هستيرية من الصراخ و البكاء تهتز لها قوائم السرير الحديدي فيرتج دماغي. تهلوس باسمه ليلا و نهارا، و تتوعده بالقتل. كلما ضجت مسامعهم من صراخها سارعوا لحقنها بمهدئ يلجمها إلى حين. أتظاهر بالنوم كلما سمعت وقع خطواتهم في الممر خوفا من تلك الحقنة التي تحول دون إكمالي اللوحة.
تلك الواقفة أمام النافذة، تقطع الغرفة جيئة و ذهابا مرددة :” سيأتي، سيأتي، لا بد أن يأتي، وعدني بذلك، سأنتظر …” حين ينال منها التعب، تتسمر أمام النافذة، أحيانا تصيح :”ها هو قادم، سأصلح مكياجي و تسريحة شعري و …” تجلس على سريرها، تخرج مرآة من تحت وسادتها، تنظر إلى وجهها فيها و تنفجر ضاحكة :” هههههه أنا أجمل منك أيتها اللعينة، كيف سرقته مني؟ ” ترمي المرآة، و تصفع بجنون خديها …
أنشغل بتعنيف ذاكرتي العنيدة التي تأبى أن تلفظ صورة تؤرقني، تضاعف علة دماغي و … لا أتكلم و لا أصرخ منذ التهم الخبيث ،في غفلة مني، حبالي الصوتية … أشغل عيني و يدي دون كلل؛ لا أكف عن مسح كل تفاصيل الغرفة بنظراتي الطائشة، و خربشة جدرانها المتآكلة … أعصر ذاكرتي عصرا، فتطرح مرغمة ملامح تلك الصورة، تتساقط على كفي بالتقسيط . أعيد تركيبها، أمسح بكم قميصي مساحة من الجدار، أحفر عليه بذيل شوكة مقصلة، أثبت الرأس تحتها و … أنام بهدوء.
صباحا، يفاجأ الطبيب المعالج ، ينظر إلى الجدار و يهمس للممرض :” تخلصت من علة عقلها، سأمنحها إذن المغادرة. ”
لا أحد ينتظرني، لا أحد . الرياح تعول في الخارج، و الذئاب تعوي … تلفظني البوابة، أجدني وسط غابة كثيفة، تلتف حولي الذئاب الجائعة … رحلت المدينة وأهلها من الناجين … أراوغ الذئاب، أفر لأحتمي بالمبنى ، أرتطم بالفراغ و بقايا سور …
لوحة 2
أرسمني في غرفة دار … تلك العجوز ، التي لا تغادر فراشها، تفتح معي تحقيقا عن سجلي المدني؛ عن الاسم و السن و الأهل و الزوج و الأبناء و … أكتفي بهز رأسي دون أن أشبع فضولها. تلتفت إلى تلك التي تجلس على كرسي متحرك طول النهار ، تغمزها و تسر إليها كلاما . تنظر إلي و تقول :” سيأتي عليها يوم و تنطق، اتركيها حتى تقنط. ” أفتح حقيبتي، أخرج مذكرتي، و أسجل فيها تاريخا و جملة مبتورة لا أريد أن تستقيم أجزاؤها حتى لا تعلق بذاكرتي.
تفتح باب الدار للزيارة عصر كل جمعة. يأتي بعض الأهل و المحسنين، يعودون النزيلات، و يوزعون عليهن بعض ما فاض به كرمهم من أطعمة و حلويات و مشروبات ، و كلام طيب و بعض حنان يفتقدنه …
يصادف ذاك اليوم يومي السابع في الدار . لم يزرني أحد . أقف خلف النافذة أرقب بوابة الدخول، أبحث بين الزائرين عن وجوه أعرفها … تعبت ركبتاي العليلتان من طول وقوفي .أستلقي على فراشي ، أواسي وجع ركبتي، و أخبئ دمعا انفرط على خدي. اقتربت مني إحدى المحسنات، ربتت على كتفي، و مدت إلي علبة حلوى و عصيرا. اعتذرت و ادعيت أني صائمة ، فنطقت إحدى النزيلات : ” هي تصوم منذ دخلت و لا نراها تفطر ، اتركي ذلك عند رأسها ، إذا أفطرت تناولته. ”
أنا لا أصوم ، لكني أحتج بطريقتي … ينخفض ضغطي و السكر كل يوم، أفقد توازني و وعيي، و أدخل في غيبوبة أتمنى أن لا أعود منها أبدا ، و لكني أعود ، أعود رغما عني لأكمل لوحة “أرذل العمر” في هذه الدار …
لوحة 3
أرسمني جثة متفسخة على فراش بارد ، يسرح الدود و يمرح فيها مشبعا جوع بطنه . تفوح منها روائح نتنة، و تنتشر لتزكم الأنوف …
يطرق الجيران أبواب بعضهم ، يتساءلون عن مصدر تلك الروائح. يطرقون بابي فلا أستجيب … يتذكر بواب العمارة ذاك المساء ،منذ أيام، حين دخلت ، على غير عادتي ، متعبة شاردة الذهن دون أن أنتبه إلى وجوده و أحييه …