مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

لسانٌ لا ينكسر: العربية في مواجهة الغزو الثقافي

بقلم -حسن غريب :

ناقد باحث 

 

في اليوم العالمي للغة العربية، لا يصبح الاحتفاء فعلًا حقيقيًا إلا حين يتجاوز طقوس التمجيد إلى وعيٍ نقديٍّ بدور اللغة بوصفها خط الدفاع الأول عن الهوية والمعنى. فاللغة العربية الفصحى لا تُستهدف لذاتها فحسب، بل لأنها الوعاء الذي يحمل الذاكرة، ويصوغ الوعي، ويمنح الأمة قدرتها على الاستمرار في التاريخ.

 

إن الغزو الثقافي والفكري لا يدخل الأبواب صراحة، بل يتسلل عبر تفاصيل الحياة اليومية، في الإعلام، والتعليم، وأنماط الاستهلاك، حتى يُقنع أبناء اللغة بأن الفصحى عبءٌ قديم، وأن التخلّي عنها شرطٌ للحداثة. وهنا تكمن خطورته؛ إذ لا يفرض نفسه بالقوة، بل يعيد تشكيل الذائقة ويزرع الشك في القيمة الذاتية للغة.

 

ومع ذلك، فإن العربية الفصحى لم تكن يومًا لغة ماضٍ منغلق، بل كانت دائمًا لغة قادرة على التجدد، وعلى استيعاب العلم والفلسفة والشعر والسرد، متى وُجد الوعي الذي يحررها من الجمود دون أن يفرّط في جوهرها. فالمشكلة ليست في اللغة، بل في طرق التعامل معها، وفي الخطاب الذي يُقدَّم بها أو يُقصيها عمدًا.

 

إن مواجهة هذا الغزو تبدأ بإعادة الاعتبار للفصحى لغةً للتفكير اليومي، لا لغةً للمناسبات فقط. 

تبدأ حين نكتب بها بصدق، ونتحاور بها دون تكلّف، ونُنتج بها معرفة معاصرة لا تستعير وعيها من الآخر، بل تحاوره من موقع الندّية. 

قد يهمك ايضاً:

أحمد سلام يكتب مصير” مفتي البراميل” !

ثقافة الهزيمة والانكسار: حين يتحوّل العجز إلى وعي جمعي

فالفصحى حين تُحسن استعمالها، لا تنفصل عن الواقع، بل تمنحه عمقًا ومعنى.

 

ولا يمكن إغفال دور التعليم والإعلام في هذه المعركة. فتعليم العربية القائم على الحفظ والتلقين يصنع نفورًا لا انتماء، بينما التعليم الذي يربط اللغة بالخيال والإبداع والحياة يصنع وعيًا لغويًا مقاومًا.

 أما الإعلام، فهو إما أن يكون شريكًا في حماية اللسان العربي وتبسيطه دون ابتذال، أو أداةً في تهميشه وتشويهه.

 

ويبقى المثقف في قلب هذه المواجهة؛ إذ لا يملك رفاهية الحياد. 

فكل نص يُكتب بالفصحى بوعي وجمال، وكل قراءة نقدية تُنجز بها، هو فعل مقاومة ثقافية في وجه التفكيك والاغتراب.

 إن الدفاع عن العربية ليس شعارًا، بل ممارسة يومية، ومسؤولية أخلاقية، وخيار حضاري.

 

وفي اليوم العالمي للغة العربية، ندرك أن اللسان الذي لا يُدافع عنه ينكسر، واللغة التي لا تُحمل بوعي تُمحى. أما العربية الفصحى، فستظل—ما دام فيها من يكتب بها ويؤمن بها—لسانًا لا ينكسر، وحارسًا للهوية، وشاهدًا على أن المعنى لا يُهزم مهما اشتدّ الغزو.