مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

كيف يغير المتحف المصري الكبير خريطة السياحة العالمية؟

بقلم- د -إسلام جمال الدين شوقي

خبير اقتصادي

عــضــو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي

يفتتح العالم صفحة جديدة يوم السبت القادم 1 نوفمبر 2025، من تاريخ الحضارة الإنسانية حيث يستعد المتحف المصري الكبير لاستقبال زواره بـ 5,398 قطعة من كنوز توت عنخ آمون – معروضة معًا لأول مرة منذ اكتشافها. يمتد المشروع الأضخم من نوعه على مساحة 117 فدانًا، محاطًا بعظمة الأهرامات، مصممًا وفق معايير بيئية تُوفّر 60% من الطاقة و34% من المياه.

تتجاوز القصة الحقيقية الحجارة والذهب. يُعيد هذا الصرح تعريف معادلة التراث والاقتصاد: كيف يتحول الإرث الحضاري إلى منظومة اقتصادية حية تُدر دخلاً، تخلق وظائف، تجذب استثمارات، وتُعيد رسم خريطة السياحة العالمية.

متحف أخضر بعوائد اقتصادية مستدامة

إن الحديث عن المتحف غالبًا ما يتوقف عند الجانب الأثري والثقافي، لكن الصورة الأكبر أعمق من ذلك بكثير، لأن هذا المشروع الذي حصل على شهادة EDGE Advanced للمباني الخضراء، أصبح أول متحف أخضر في إفريقيا والشرق الأوسط، وهذا ليس إنجازًا رمزيًا، بل خطوة استراتيجية تضع الصرح في قلب التحولات العالمية نحو الاستدامة والاقتصاد الأخضر.

يحمل الموقع نفسه قيمة استثنائية حيث يقع بالقرب من أهرامات الجيزة – أحد أشهر المعالم في التاريخ البشري – وعلى مقربة من مطار سفنكس الدولي، مما يسهل الوصول إليه من أي مكان في العالم، ويحول هذا التموضع الجغرافي المنطقة بأكملها إلى مركز جذب سياحي لا يُقاوم، ويخلق فرصًا اقتصادية ضخمة تتجاوز بكثير مجرد بيع تذاكر الدخول.

يبدأ الأثر الاقتصادي المحتمل من هنا، لكنه لا ينتهي عند هذا الحد، فبالرغم من أن الإيرادات المباشرة من التذاكر مهمة، إلا أن القيمة الحقيقية تكمن في التأثير المضاعف على قطاعات أخرى: الفنادق، المطاعم، النقل، الخدمات السياحية، المحال التجارية، والاستثمارات العقارية في المنطقة المحيطة. تجري عملية تطوير شاملة للمنطقة بأكملها وفق مخطط يهدف إلى تحويلها إلى مركز سياحي وترفيهي متكامل، وهذا يعني منظومة اقتصادية كاملة تعمل حول المتحف كنواة مركزية.

الأرقام تتحدث: السياحة المصرية تستعيد زخمها

ويجب النظر إلى الأرقام الحالية لفهم حجم الفرصة الحقيقي، ففي عام 2024، استقبلت مصر نحو 15.7 مليون سائح، محققةً إيرادات بلغت 15.3 مليار دولار، وهذا رقم جيد بلا شك، لكنه لا يزال أقل من إمكانيات مصر الحقيقية، فمصر بتاريخها الممتد آلاف السنين وبتنوع معالمها السياحية، قادرة على جذب أضعاف هذا العدد.

إن افتتاح المتحف قد يكون نقطة التحول في إيرادات مصر السياحية نظرًا لأن هذا المشروع قد يساعد على جذب 30 مليون زائر سنويًا أو أكثر. هذا الرقم، وإن بدا طموحًا، إلا أنه ليس مستحيلاً. ففرنسا، على سبيل المثال، تستقبل حوالي 90 مليون سائح سنويًا، ويأتي جزء كبير منهم لزيارة متاحفها – وعلى رأسها متحف اللوفر الذي يستقبل وحده نحو 10 ملايين زائر سنويًا.

يستقبل المتحف البريطاني في لندن حوالي 6 ملايين زائر سنويًا، والمتروبوليتان في نيويورك يستقبل 7 ملايين زائر سنويًا، وتضع هذه المقارنة المتحف المصري في سياق واضح: إذا نجح في جذب حتى نصف عدد زوار اللوفر، فسيكون قد حقق إنجازًا كبيرًا، لكن المميز هنا أن المتحف يملك شيئًا لا يملكه غيره: الحضارة الفرعونية بأكملها، مع كنوز توت عنخ آمون الكاملة، وموقع فريد بجوار الأهرامات، وهذه عوامل تجعل منه وجهة لا تُفوت لأي مهتم بالتاريخ القديم في العالم.

الاقتصاد الأخضر: الاستدامة كميزة تنافسية

كان الحديث عن المباني الخضراء والاستدامة في الماضي يُنظر إليه كـ “رفاهية” أو “إضافة جميلة”، أما اليوم، فقد أصبح ضرورة اقتصادية، يبحث السائحون حول العالم خاصة من الأجيال الشابة عن تجارب سياحية واعية بيئيًا، وهناك شركات ومستثمرون يفضلون المشاريع التي تحترم المعايير البيئية، وتضع الحكومات سياسات تشجع على الاستدامة.

لقد دخل المتحف هذا المجال من بابه الواسع، فبحصوله على شهادة EDGE Advanced من مؤسسة التمويل الدولية (IFC) يعني أن تصميمه يوفر نحو 60% من الطاقة و34% من المياه مقارنة بالمباني التقليدية، وهذا ليس إنجازًا بيئيًا فقط، بل اقتصاديًا أيضًا، فتوفير الطاقة والمياه بهذه النسب يعني توفير تكاليف تشغيلية ضخمة على مدى عقود، ولن يكون المتحف عبئًا ماليًا على الدولة، بل أصلًا اقتصاديًا مستدامًا يحقق عوائد ويقلل التكاليف في نفس الوقت.

وتشمل تقنيات البناء الأخضر المستخدمة أنظمة متقدمة لإعادة تدوير المياه، استخدام الطاقة الشمسية، وتصميم معماري يضمن الاستفادة المثلى من الضوء الطبيعي، وهذا يقلل من الانبعاثات الكربونية ويقلل الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية. يأتي هذا في وقت يتحدث فيه العالم عن تغير المناخ والحاجة إلى الحد من الانبعاثات، ليصبح المتحف نموذجًا يمكن الإشارة إليه كمثال على أن المشاريع الثقافية الكبرى يمكن أن تكون صديقة للبيئة ومربحة اقتصاديًا في آن واحد.

ويعزز البعد الأخضر من جاذبية المتحف على مستوى عالمي، حيث تشير تقارير UNESCO إلى أن المتاحف التي تتميز بالاستدامة البيئية تجذب نسبة أعلى من السائحين الذين يبحثون عن تجربة سياحية متكاملة وواعية. وهذا يفتح الباب أمام تطوير برامج سياحية مستدامة، ورش تعليمية، وتجارب تفاعلية تربط بين التراث والبيئة بطريقة معاصرة ومبتكرة.

معادلة التشغيل الجديدة:

إن الحديث عن السياحة لا يكتمل دون الحديث عن فرص العمل، ويُعد القطاع السياحي من أكثر القطاعات توليدًا للوظائف، خاصة في الدول التي تعتمد على السياحة كمصدر رئيسي للدخل، فالمتحف بحجمه وموقعه وطموحاته، سيخلق آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة.

تشمل الوظائف المباشرة العاملين في المتحف نفسه: مرشدون سياحيون، موظفو استقبال، حراس أمن، فنيو صيانة، خبراء ترميم، إداريون، لكن الأثر الأكبر يكون في الوظائف غير المباشرة: سائقو سيارات الأجرة والحافلات، موظفو الفنادق والمطاعم، العاملون في المحال التجارية، وكالات السياحة، شركات النقل، موردو الخدمات اللوجستية. فكل سائح يزور المتحف يحتاج إلى وسيلة نقل، مكان إقامة، طعام، تذكارات، وكل هذه الخدمات تعني وظائف وفرص دخل لآلاف الأسر.

تشير الدراسات الاقتصادية إلى أن كل وظيفة مباشرة في القطاع السياحي تخلق ما بين 3 إلى 5 وظائف غير مباشرة في قطاعات أخرى. إذا افترضنا أن المتحف سيوظف 2,000 شخص بشكل مباشر، فهذا يعني خلق ما بين 6,000 إلى 10,000 وظيفة غير مباشرة، وهذا رقم محافظ جدًا، لأن التأثير الحقيقي قد يكون أكبر بكثير مع تطور المنطقة المحيطة وزيادة الاستثمارات فيها.

قد يهمك ايضاً:

أحمد سلام يكتب قراءة في صحيفة الشرع الإجرامية !

.د. أحمد رجب نائب رئيس جامعه القاهره يكتب.. المتحف الكبير…

الاستثمار العقاري: تحويل المنطقة إلى مركز حيوي

من بين التأثيرات الاقتصادية غير المباشرة البالغة الأهمية، الأثر على قيمة العقارات في المنطقة المحيطة بالمتحف، حيث تؤدي المعالم السياحية الكبرى تاريخيًا إلى ارتفاع كبير في أسعار العقارات حولها. ففي باريس، المناطق المحيطة باللوفر وبرج إيفل هي من أغلى المناطق في المدينة، أما في لندن، فنجد أن المنطقة المحيطة بالمتحف البريطاني تشهد طلبًا مرتفعًا على الفنادق والمحال التجارية والمكاتب.

إن المتحف، بموقعه الاستراتيجي بالقرب من الأهرامات، سيحول المنطقة بأكملها إلى مركز جذب سياحي واقتصادي، وهذا يعني فرصًا ضخمة للاستثمار في الفنادق، المطاعم، المقاهي، المراكز التجارية، والمشاريع الترفيهية، وسينظر المستثمرون المحليون والدوليون إلى هذه المنطقة كفرصة واعدة، وهذا سيؤدي إلى تدفق رؤوس أموال جديدة وزيادة في القيمة العقارية.

ولقد تنبهت الحكومة المصرية لهذه الفرصة، لذلك وضعت مخططًا شاملًا لتطوير المنطقة المحيطة: تطوير الطرق، تحسين البنية التحتية، إنشاء مناطق ترفيهية ومطاعم ومحال تجارية – كل هذا جزء من رؤية أوسع لتحويل المنطقة إلى مركز سياحي متكامل، وهذا النوع من التطوير له تأثير مضاعف: كلما تحسنت المنطقة، زاد عدد الزوار، وكلما زاد عدد الزوار، زادت الاستثمارات، وهكذا.

تشير الدراسات إلى أن تطوير مناطق سياحية ثقافية يزيد من معدلات إنفاق الزائرين بنسبة تتراوح بين 25% إلى 40% مقارنة بالمناطق التقليدية، ولن يكتفي السائح الذي يأتي لزيارة المتحف بذلك، بل سيبحث عن تجربة متكاملة: جولة في الأهرامات، عشاء في مطعم مصري أصيل، شراء تذكارات، ربما قضاء بضعة أيام في فندق قريب، وتعني كل هذه الأنشطة إيرادات إضافية وفرص عمل جديدة.

أكثر من سياحة: المتحف كمنصة ثقافية وبحثية عالمية

إن المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى يعرض آثارًا، بل إنه منصة ثقافية وسياحية على مستوى عالمي، ولقد كان الاهتمام الدولي بالمشروع واضحًا منذ بداية الإعلان عنه. زعماء دول، مشاهير، خبراء آثار، وملايين من محبي التاريخ القديم حول العالم ينتظرون افتتاحه بفارغ الصبر، حيث يمنح هذا الاهتمام العالمي مصر دعاية مجانية لا تُقدر بثمن.

يُعد الافتتاح نفسه حدثًا عالميًا، حيث تعني دعوة زعماء العالم وشخصيات مؤثرة تغطية إعلامية ضخمة، ما يضع مصر في صدارة الأخبار العالمية لأسابيع، إن لم يكن لأشهر، وهذا النوع من الدعاية أقوى بكثير من أي حملة إعلانية مدفوعة، لأنه يأتي من الاهتمام الحقيقي والفضول الطبيعي لدى الناس.

لكن التأثير لن يتوقف عند الافتتاح، فالمتحف سيصبح وجهة دائمة على قائمة أي شخص يخطط لزيارة مصر. بل سيصبح سببًا لزيارة مصر في المقام الأول. كثير من السائحين يختارون وجهاتهم بناءً على معالم محددة يريدون رؤيتها. برج إيفل في باريس، تمثال الحرية في نيويورك، سور الصين العظيم – كلها معالم تجذب الملايين سنويًا، أما المتحف المصري الكبير، مع كنوز توت عنخ آمون وموقعه بجوار الأهرامات، يمتلك كل المقومات ليصبح واحدًا من هذه المعالم الأيقونية.

ولا شك أن هذا الشغف العالمي بالحضارة المصرية القديمة ليس جديدًا فمنذ اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في عشرينيات القرن الماضي، والعالم مفتون بمصر القديمة. أفلام هوليوود، وثائقيات، كتب، ألعاب – كلها تستلهم من هذا التراث. ويمنح المتحف الكبير هذا الافتتان مكانًا حقيقيًا يمكن للناس زيارته وتجربته بأنفسهم، حيث يحول الصورة الرومانسية عن مصر القديمة إلى تجربة حقيقية، ملموسة، يمكن العيش فيها ولو لبضع ساعات.

مركز عالمي للبحث والدراسات

لا يتوقف البعد الثقافي عند السياحة، بل سيصبح المتحف أيضًا مركزًا عالميًا للبحث والدراسات الأثرية. الآلاف من الباحثين والطلاب من حول العالم يدرسون الحضارة المصرية القديمة، والآن، لديهم وجهة واحدة تجمع أكبر مجموعة من الآثار الفرعونية في مكان واحد، وهذا يعني ورش عمل، مؤتمرات علمية، برامج تدريبية، وشراكات مع جامعات ومعاهد أبحاث دولية.

ويعتبر هذا النشاط الأكاديمي ذا قيمة اقتصادية أيضًا، فالباحثون والطلاب الذين يأتون لفترات طويلة يحتاجون إلى إقامة، طعام، خدمات، وتجذب المؤتمرات العلمية مئات المشاركين الذين يقضون أيامًا في المدينة، وهذا نوع من السياحة لا يُحسب عادة ضمن السياحة الترفيهية، لكن تأثيره الاقتصادي كبير.

ويمكن أن يطور المتحف برامج تعليمية موجهة للمدارس والجامعات، ليس فقط في مصر، بل في العالم العربي وخارجه. رحلات مدرسية، جولات تعليمية، ورش عمل للأطفال والشباب – كل هذا يخلق علاقة طويلة المدى بين الأجيال الجديدة والتراث المصري، والطفل الذي يزور المتحف اليوم مع مدرسته قد يعود بعد سنوات مع عائلته كسائح.

من التذاكر إلى الشراكات: كيف يُموّل المتحف نفسه؟

تُعد الاستدامة المالية أحد التحديات التي تواجه المتاحف الكبرى حول العالم، وتعتمد الكثير من المتاحف على دعم حكومي مستمر لتغطية تكاليف التشغيل. لكن المتحف، بتصميمه الأخضر وموقعه الاستراتيجي وحجم الاهتمام العالمي به، لديه فرصة حقيقية ليصبح مشروعًا مربحًا يدير نفسه ماليًا.

إن الإيرادات المتوقعة من تذاكر الدخول وحدها قد تكون كافية لتغطية التكاليف التشغيلية، خاصة مع توفير الطاقة والمياه الذي يحققه التصميم الأخضر. لكن الإيرادات لن تأتي فقط من التذاكر، فالمتاحف الناجحة حول العالم تحقق إيرادات إضافية من مصادر متنوعة: متاجر التذكارات، المطاعم والمقاهي داخل المتحف، تأجير قاعات للفعاليات الخاصة، رسوم الجولات الموجهة، بيع حقوق التصوير للأفلام والوثائقيات، والشراكات التجارية مع علامات تجارية.

يحقق اللوفر في باريس على سبيل المثال، إيرادات سنوية تتجاوز 200 مليون يورو، ويأتي جزء كبير من هذه الإيرادات من مصادر غير التذاكر، أما المتحف المصري فيمتلك نفس الإمكانيات، بل ربما أكثر، نظرًا لحجمه وتنوع محتوياته وموقعه الفريد.

لذلك فإن الاستدامة المالية تعني أن المتحف لن يكون عبئًا على ميزانية الدولة، بل أصلًا اقتصاديًا يضخ أموالاً في الخزينة العامة عبر الضرائب والرسوم، ويُعد هذا النموذج الاقتصادي القابل للاستدامة هو ما يميز المشاريع الناجحة عن المشاريع الاستعراضية التي تكلف أكثر مما تنتج.

التراث كرافعة اقتصادية

إن المتحف المصري الكبير أكبر بكثير من مجرد مبنى يعرض آثارًا قديمة، بل إنه مشروع اقتصادي واستثماري متكامل، ونموذج عالمي للسياحة المستدامة، ومنصة ثقافية تضع مصر في صدارة الوجهات السياحية العالمية، من خلال دمج البعد البيئي، والاستثمار السياحي، والفرص الاقتصادية، تحول مصر هذا المشروع إلى رافعة استراتيجية تزيد من مساهمة السياحة في الناتج المحلي، تخلق آلاف فرص العمل، وتجذب استثمارات ضخمة في البنية التحتية والخدمات.

ويؤكد المتحف حقيقة بسيطة لكنها عميقة: الاستثمار في الثقافة والتراث ليس ترفًا أو رفاهية، بل استراتيجية اقتصادية ذكية، ففي عالم تتزايد فيه المنافسة على جذب السائحين ورؤوس الأموال، يصبح التركيز على الجودة، الاستدامة، والتجربة الفريدة هو المفتاح للنجاح، والمتحف يجمع كل هذه العناصر في مكان واحد.

ليس الافتتاح المرتقب مجرد حدث ثقافي، بل خطوة استراتيجية نحو اقتصاد سياحي مستدام يدمج التراث بالحاضر والمستقبل. إنه إعلان للعالم أن مصر عادت، ليس فقط بتاريخها العظيم، بل بحاضرها الطموح ومستقبلها الواعد.