بقلم – عبد الصاحب محمد البطيحي
أنا صاحبُ اسمٍ عُرفِت به منذ الولادةِ ، أحملُ الآن اسماءً عديدةً . أجوبُ الأماكنَ ،تصطبغُ بي الوانها، أترعُ من مآسيها ، لا ألبث أن أكون هجيناً من ركام ألم ، لونه يحاكي اللونَ الأحمر القاني . بيد أنني ، في واقع الأمر، نفحة من نسيم يتهادى بين الشامخات من قصب الجنوب ، تلامس موجات مياه الهور التي تراقص حزم أشعة الشمس ، تطوف البساتين ،تداعب سعف السامقات من النخيل ، تدغدغ أحلام اليافعين .
أنا أرنو الى فضاءٍ واسعٍ ، أمارس التجريبَ … والتجريبُ رحلةٌ مجسّاتُها تجوب متاهةَ المجهولِ التي يحكي عنها مَن به لوثة ، يخبر عنها ، يغدق في وصفها : ثعابينٌ برؤوسٍ متعددةٍ ، مقصّاتٌ ذات اشكالٍ غريبةٍ تلوّحُ بها أيدي نساءٍ بعيونٍ جاحظةٍ ،جمعُ تنانين مجنحةٍ تلفظ نيرانها، ولهبٌ يؤطره هبابٌ ساخنٌ كالحُ اللونِ .
أحاول ازاحةَ مَن به لوثة عن وصفِه الفاجعِ ، افترض انه يمر بلوثةٍ عابرةٍ ،غير انه يستغرق في هذيانِه . يحدث ، مرةً أخرى، عن أفواهٍ زاحفةٍ ، عن اشجارٍ مخضبةٍ بالدمِ ، وعن غيومٍ آتيةٍ محاكة بالسموم والسكاكين ، وكذلك عن ابخرة نتنة .
على الرغم من إيماءاته الماكرة أراني أحدثه عن تفاصيل متخيلة وأخرى دون ابتعاد عن الواقع :
في الحلم .. تتوالى الأحداثُ كرعدٍ شتائي صاخبٍ تضيعُ في طياتِه ملامحُ الصور، تتهالكُ الأشكال ،تبزغُ وجوهٌ متنافرةٌ جائرة ، يأخذ بي هاجسٌ ، يتناوشني المجهولُ ، يصافحني الهلامُ ، أغدو نثاراً تطيح ُبه أجواءُ الحيرةِ ،أضيعُ في دواخلي ، أبحث عن إجابةٍ ، أنكفيء الى مداراتٍ تتلوى في الأفقِ ، أغوصُ في عالمِ الشكِ ، يراودني تساؤلٌ غائمٌ ، ينجلي مع عمقِ التأملِ فيبدو بلا جدوى. أنتفضً ، أنتظر أحلاماً بلا كوابيس ، لكنني حالما أرنو ببصري الى الأعلى أرى سقفَ غرفةِ افتراضية ،ليس كما هي في حقيقةِ الأمرِ، تطوقني ، سرعان ما تتشكلُ جدرانُها حاجزاً من حجرٍ صلد .
السقفُ ينأى ..
الجدرانُ تهوى، بتوءدةٍ ورتابةٍ ..
يغلفني غثيانٌ ،
أغدو أرجوحةً ،
أبحثُ عن .. ماذا ؟
تراودني تهويمةٌ تهبطُ بي الى عالمٍ . . أشدّ ضراوةً
*
في اليقظة ..في مدينتي، اقصى الجنوب *1، استدعي خفايا الأمرِ، ألوذُ بالتماسكِ، لكنني أرى رجلاً منتصباً بزيه الزيتوني وشاربه الكث المتدلي كهلال منتكس، ها هو يحدّقُ بورقةٍ ترتجفُ بين يديه ، اخاله يعتلي هيكلاً تتداعى دعائمُه، يعلنُ مزهواً حكمَ النهايةِ الفاجعة ، كان بالأمس مذعورا، اثر انتكاسة ، ينزوي بعيداً عن لونه ، وها هو اليوم ينتقمُ ، يستديرُ ، يطلبُ من احدِهم مصاحبتنا الى الموقعِ… والموقعُ فسحةٌ ضيقةٌ مستطيلةُ الشكلِ لصقَ بناءٍ فارهٍ ، تمتدُ فيها مصاطب ، نجلسُ وأيدينا مقيدةٌ الى الخلفِ ،وهذا يسمعنا قبحَه، نجترحُ الألمَ ، أرى ذلك في الوجوهِ المتقاربةِ ، لكن توحدنا غرابةُ المشهدِ ، أنظرُ عالياً ، لا شيء سوى الفضاء الممتد . . وأنا أشعر بغصةِ الأمل الضائع .
ها هو يقتربُ ، يحملُ ماكينةً صغيرةً لم أرَ مثلَها من قبلُ ، يفتح فمي بعنفٍ أهوجٍ ،أحدقُ في وجهِه لأقرأ ما في سرِه ، يغمضُ عينيه ، يشيحُ بوجهه، يعودُ مغلفاً انكساراتَه ، يزمُّ شفتيه وهو يسحبُ لساني الى الخارج ، مبتسماً يدفع الأداةَ الى الداخل ، يطبقها عليه من الطرف القصي ، واللسانُ يصير هيأةً متدليةً في فضاءٍ ليس بالفضاء المناسب . همهمةٌ مكتومةٌ ، تنحبسُ الآهاتُ ، إذ يمارس الطقسَ بانتشاءٍ كما الآخرين من اصحابِه .
يتمتم وهو يصكُّ على اسنانه بغضبٍ فائرٍ :
أقطعُ اللسانَ الذي دعا الى الإطاحةِ بالسيد *2.
أردت أن أصرخَ بوجهه: سيدُك لا سيدي .
غير انني غدوت مبحراً بلا أشرعةٍ في عالمِ الألمِ .
طاف بي هاجسٌ : هذه لحظةُ انعطافِ قوى المجهولِ .
بعد حينٍ ، يتراجعُ ،بيد أنه يشارك أصحابِه العودة وهم يشدّون أيديهم على سكاكين حادة النصال ، تفيض لمعاناً تحت ضوء النهار ، يطوحون بها بعنفٍ وصخبٍ .
يقترب مني أحدهم ، كالح الوجه، صارم القسمات ، يمسك اللسان، يقطعه ، يرميه .. والألسن ترقد على الأرض لكنها لا تهمد .
*
بيد أنه يعاود فعلَه بعد اداء تعويذة ساحر فاقد الإرادة – بصحبة آخرين كأنهم أسلاف قوم ينحدرون من منابع كهوف “تورا بورا ” النائية *3، غاضت عنهم أحلام الطفولة – يحز رقبتي ، يسيح دمي ، يغمرني بياض يعقبه ظلام دامس ، أسبرُ غورَه . سرعان ما أغدو طيفاً يراقب . ها هو الرأس يتوج السكين ، يرفعه بنشوةِ المنتصرِ ،أراه بعين البصيرة يبتعد الى مركز الساحة ، وكذا أصحابه ، الرؤوس تعتلي السكاكين ، يتجمهرون ، يهتفون، يتسيدهم الوهم بالنصر ، يتشكلون على هيأة دائرة مغلقة في عمق غابة موحشة ، تصخب في أجوائها أصوات هجينة ، عيونهم شاخصة ، ربما يغمر قلوبهم شبح رعب قادم يخفونه بمكرٍ ، يلتحفون اللامبالاة، يدورون مطلقين أهازيج الفرح العابث ..
*
تنتفضُ الألسنُ من مراقدها بهالة من الضوء الساطع بعد حينٍ من الدهر، ترتفعُ عقباناً في فضاء متداخلِ الألوان ، ظلالاً لما كانت عليه في الأول ،تطوف الفضاءات ، تعانق شامخات النخيل ، تلامس البردي وموجات المياه الراقصات مع ضوء الشمس .
آخر الأخبار
مصرع طالبة بمركز طهطا بعد تناولها اقراص لحفظ الغلال
الإعلامى محمد فودة يدافع عن رامى صبرى وينتقد ويجز: المبدع الحقيقي لا يقارن بـ "فقاعة الهيب هوب"
صحة كفرالشيخ .. فحص ٩٠٦ مواطنين وإحالة ٤ لأقرب مستشفي بالقافلة الطبية في دسوق
السيد خيرالله يكتب: الويجز في الزمن المسخ
مجمع مواقف الغزل بطنطا " مأساة تبحث عن حل"
مدير فرع التأمين الصحي بالغربية : إفتتاح 8 عيادات مسائية و5 مكاتب إصدار بطاقات
ريال مدريد يهزم ليجانيس ويواصل مطاردة برشلونة بجدول الدورى الإسبانى
رئيس جامعة سوهاج يتفقد ٥٣ اختراع بمعرض المؤتمر الدولي الرابع للإبتكار بجامعة سوهاج
الجامع الأزهر يناقش مكانة القرآن الكريم وقداسته في الملتقى الفكري الأسبوعي..الثلاثاء
نابولى يلدغ روما بهدف نظيف ويعتلى صدارة الدورى الإيطالى
المقالة السابقة