بقلم – رحاب شينب:
حكت الأرض جسدها ثم حاولت اقتلاع شيء ما ، توقفتُ مراقبةً إياها و إذ بها تسرع في دورانها ، صارت تسرع و تسرع و في كل لحظة يبدأ حملها بالتحليق بعيدا عنها ، كل شيء اقتلعته .. البشر .. الحيوانات .. الأشجار .. البيوت .. الجسور .. المقاهي المساجد .. الكنائس .. السيارات و المقابر ، كان الصراخ يعلو في كل مكان ، كان الصراخ و النباح و الصهيل و الطنين ، رأيت أفلاطون و هو يحمل مدينته الفاضلة ، نيوتن و هو يركل تفاحته نحو الأرض ، السامري و قد تناثرت قبضته في الهواء ، وحده كوبرينكوس كان يقهقه قائلا : الأرض تدور الأرض تدور .
رأيت حجر رشيد ، حصان طروادة – مسلة حمورابي ثم اصطدمت بأحد الأقمار الصناعية ، انتبهت و قد شدّني أحدهم ، كان أخي بصوته العالي ، زبده المتطاير و عطره النفاذ باحثا عن جلٍ لشعره ، مددت يدي إلى الدرج ، ركلني طالبا مني إعداد فنجان قهوة و لم يتوقف عن الصراخ و شتيمة نساء البيت جميعا بينما ظلت أمي منزوية في غرفتها تمرر مسبحتها بين أصابعها و قلبها بين تنهيداتها .
بعد خروجه صار البيتُ كصندوقٍ فارغ يمكن أن يلقيه صاحب محل أفرغ ما به و لم يعد يعبأ به فتتلقفه ربة منزل لتضع فيه بعض الأغراض المستعملة ، مزهرية كُسِرت إحدى أذرعها ، هاتف أرضي ، أباجورة عاطلة ، كيبورد لحاسوب قديم، أو يمكن أن يأخذه العجوز الذي اعتاد جمع الخبز كل صباح ، أو ربما يكون رحلته نحو شاحنة القمامة .. ههه يا للخيال الذي يتلاعب دائما بعقلي ..
صندوق فارغ !!!!
وضعتْ أختي الآن أحمر شفاهٍ قاني اللون .. مططتْ شفتيها ثم أبرزتْهُما على شكل دائرة و التقطت صورة سيلفي لصفحتها على الفيس بوك .. لا أتذكر اسمها ربما كبريائي سر أنوثتي ، قلبي موجوع أو عنيدة و ما كيفي حد ، كانت صورتها فتاة بعينين زرقاوين و شعر أشقر ينسدل على الكتفين بينما غلافها لعاشقين يتبادلان القبل ، و قد أمطرت الفيس بوك بصور شفتيها ، أظافرها الملونة و ظهرها حين ترتدي فستان سهرة و قد طاوع شعرها حرارة الاستشوار لينساب لحظة شبق لأناقتها، بينما أختي الأخرى لم تتوقف عن السجود و قد تحصلت على وصفة للزواج ، اثنتا عشر ركعة حيث تسجد سبع سجدات بعد كل سجدتين ثم تقرأ الفاتحة ، خواتيم سورة البقرة ، المعوذتين و بعض الأدعية .
تشاجرتُ أنا و خيالي بخصوص الصندوق الفارغ ..
– ألا يجدر بك أن تشبه البيت بالكرة حيث الهواء محبوس بإتقان و كل شيء يدور و يدور من غير وجهة ، تذكرتُ حلمي و ضحكتُ كثيرا .
– لم أنتبه إن كان الناس عراة –
سؤال خبيث ، خبيث جدا يبدو أن خيالي يحاول أن يروضني و ها أنا فرس اعتاد قفز الحواجز ، كلما أقفز حاجزا يغويني الآخر ، جلس بقربي نابليون و هو يمرر أصابعه بين أكمامه و كأنه ينبهني أنه مرتديا ملابسه – بينما خيالي كان يقهقه عاليا – ، و قال : الخيال يحكم العالم .
كنتُ أعد نفسي للذهاب إلى المدرسة خرجت ُ إلى الشارع ، أغلق غالبية الجيران مربوعتهم للتأجير- حتى أخي- و قد أصبح شارعنا في لحظة طريقا مارة ، و أصبح بيتنا محل ملابس ، بقربنا محل لبيع الطعمية و الخبز الشامي و المخللات ، بجانبه كافي حيث يجلس بعض الشباب أصحاب الأظافر الطويلة و السراويل المتناصلة و الشعر الغارق في الجل ، مغسلة ملابس ثم محل سيارات ، كل المساحات للتقسيم الآن ، مخططات .. مخططات ، غزت الكاولينا البيضاء المساحات الخضراء بقربنا و لم يعد يغريني في هذا الشارع سوى شجرة عتيقة تذكرني بي ، أنا التي وصلت الأربعين من عمري، العانس الكبرى و الجدار المائل الذي تلقي عليه أخواتي سبب عنوستهن ، جميعهم يحبون الجدران و أنا لا يهمني لو ضاع الحائط و ظله لأبحث عن ظل رجل و كم أتمنى لو اختفت كل الجدران .
– هههههههههه
– اصمت يا خيالي
– انتبهي .. تخيلي لو اختفت كل الجدران
– قلت لك اصمت
– لا أستطيع إني اتخيل الآن .. الحياة دون رتوش
كم ستتغير الحياة دون جدران
الجلسات العائلية
غرف المعيشة
الحمامات
غرف النوم ههههههه
– قلت لك أصمت
– حسنا سأتوقف الآن .. فقط تخيلي حجرة المدرسات
– ههههههه ( أنا من ضَحِك الآن )
حجرة المدرسات صاخبة بالأحاديث الصباحية و ها قد حضرتُ أنا ، بسكويتتهن المحلاة بلذة الوشوشات و هنّ قهوتي المرة
لا يهم .. أحب القهوة المرة
أحب أن تنساب بين شفتي حتى أجلس في أقصى روحي أدخن سيجارة خبأتها ذات رغبة حيث وجوههن تتلاشى في دخان أفكاري ، فلا شيء يُجدي في حبكتهن الحوارية .. فساتين ، أقراط ، أساور، حقائب ،قاعات فخمة، حلويات، موالح ،حفلات خطوبة ،زواج ..هنا يكاد الخيال أن يفرغ ما في جوفه .
تماهيتُ مع ذبابةٍ كانت تتنقل من مكان إلى آخر و من نقطة إلى غيرها ، كنت انتقل معها بنظري ولم انتبه إلا و الحاجة مسعودة عاملة النظافة و قد نكزتني و نبهتني أن وجود حقيبتي على الأرض سيقطع رزقي
سمعتهن يتهامسن : ما فيش عريس
قفزت قفزة ديكارتية
قررت أن اتشبث بالذبابة
أدور في الغرفة مثلها
أدور و أدور
و اقتلع كل ما حولي
لا تجعلوا خيالكم يذهب بعيدا .