قصَّة قصيرة…شيءٌ ما
بقلم – عبد المجيد أحمد المحمود:
أما مواليدُ العقرب فالفَلَك اليوم يخبرُهم: صباحًا سيكون هناك بعض التعقيدات في العمل، عليك بالهدوء و ضبط النفس، أما في المساء فإنَّ الأمور ستتحسن، و سـتأتيك مفاجأة…..].
صرختُ: اللعنة على هذه الشاحنة الضخمة المقزِّزة، لم تمهلني ثانيةً فقط لأعرف تلك المفاجأة، لقد قَطَعت بهديرِها صوتَ المذياع…لكنْ لابأس أعتقد أنَّها ستكون مفاجأة سارة بإذن الله، فقد قالتِ المذيعة: إنَّ الأمور في المساء سوف تتحسن…حتَّى هذا الصباح الدافيء الذي أطلَّتْ شمسُهُ باكرًا، تُداعبُ آخرَ قطراتِ المطرِ المتساقطةِ على مهلٍ، توحي بيومٍ سعيد.
نظرتُ حولي في السيارة، و ضحكتُ مقهقهًا، و كأنني ممن يؤمنون بالحظِّ و الأبراج… كلَّ يومٍ تخترقُ أذنيَّ هذه التوقعاتُ البلهاءَ التي لم يسبقْ أن ألقيتُ لها بالًا أو اهتمامًا…ماذا دهاني اليومَ إذًا؟!
وصلتُ عملي متأخِّرًا، كانت وجوهُ المرضى في قاعةِ الانتظار كالحةً بعضَ الشيءِ، كنتُ ألمحُهم بطرفِ عيني و هم يرمقونني بنظراتٍ غاضبةٍ، فأوجستُ في نفسي خيفةً، و شعرتُ ببعضِ التَّوترِ و القلق.
و ما إنْ دخلتُ غرفةَ الفحصِ، حتى تعالى صوتُ الصرخاتِ في غرفةِ الانتظار، ما بينَ مريضٍ يعاني آلام السرطانِ المبرحة، و مريضةٍ داهمتْها هجمةُ مغصٍ مراريٍّ حاد، إلى مريضٍ لم يتحمل آلام صداعِ الشقيقةِ التي تصيبُهُ بشكلٍ دوري…إلى طفلٍ يعاني من هجمةِ ربوٍ شديدة، و بالكاد يستطيعُ التقاطَ أنفاسِه…
شعرتُ بهم جميعًا يستغيثونَ بي، و الكلُّ يصفُ ألمَه بأنَّه لا يحتمل و يطلب من الممرضة إدخالَه قبلَ غيرِه.
و زادَ الطينَ بلةً حينَ دخلتِ الممرضةُ إليَّ لتخبرَني بذلك الشابُّ الذي دخلَ توًّا و ارتمى أرضًا أمامَ المرضى و بدأَ يتلوَّى من ألمٍ شديد في الخاصرة…
و اكتملتِ الأمور حين دخل مجموعةٌ من الشباب عليَّ و هم يصرخون: بسرعة يا دكتور…هذا الرجل يلفظُ أنفاسَهُ الأخيرة، و عندما نظرتُ إليه كان الرجلُ مزرقًّا بشدة، و قد فارقَ الحياة، و لم تُجْدِ كلُّ إجراءاتِ الإنعاشِ التي قمتُ بتقديمِها لهُ قبل وصول سيَّارةِ الإسعاف…
عندها همستُ في سرِّي:
ـ آهٍ منك يا برجَ العقرب على ما يبدو ستحملُ ليَ الكثيرَ من المتاعبِ اليوم…معقول؟!
انهمكتُ في العملِ- الذي رغم تعبِه إلا أنَّني أجدُ المتعةَ و اللذةَ و أنا أمارسُه- و حاولتُ أن أساعدَ الجميعَ بأقصى سرعة لتخفيفِ آلامِهم.
كانَ يومًا حافلًا مرهقًا، إذ قلَّما تكونُ العيادةُ مزدحمةً بمثل هذه الحالاتِ الإسعافية…لكن هل من الممكنِ فعلًا أنْ تصدقَ نبوءَةُ الفَلَك؟!! تساءَلتُ و أنا أستعيدُ في مخيلتي الكلامَ الذي سمعتُهُ في المذياعِ صباحَ اليوم.
معَ أذانِ العشاء، كنتُ قد أنهيتُ فحصَ المريضِ الأخير، استلقيتُ على السريرِ مجهدًا و أغمضتُ عينيَّ قبلَ أنْ ينبهني صوتُ الممرضة و هي تحملُ فنجانَ القهوةِ، قبلَ أن تغادرَ العيادة…تمنيَّتُ أنَّها لم توقظني فقدْ كنتُ أغرقُ في حلمٍ جميل.
احتسيتُ قهوتي بسرعة…لملمتُ أغراضي، و لم أفتح محمولي الذي اعتدتُ على الجلوسِ إليهِ ما يقاربُ ساعةً من الزمن، قبلَ أن أغادرَ العيادة، لأمارسَ هوايتي في كتابةِ شيئٍ من الشعرِ أو القصص، فاليوم قد تأخرتُ كثيرًا، و طريقُ العودةِ إلى بلدتي موحشٌ بعض الشيءِ ليلًا، خاصةً في ظلِّ انعدامِ الأمن، و كثرةِ قطَّاعِ الطُّرق، الذين أحمدُ الله دائمًا أنَّهم لم يعترضوا طريقي يومًا، و لمْ أصادفْهمُ البتَّة، لذلك لم أكنْ أعبأُ بتحذيراتِ أهلي و زوجتي لي من الطَّريق، و كنتُ دومًا أضحكُ كالمستهزئُ بكلامهم، و هم يستشيطون غضبًا، و أنا أحاولُ طمأنتَهم أنَّ الأمور بخير، و أنَّ القصصَ التي يسمعونَها هي مجردُ إشاعاتٍ كاذبة، لكن في الحقيقة كنتُ دائمًا أهجسُ في هذا الأمر، و كأنني كنتُ بطمأنَتِهم أواسي نفسي.
ركبتُ سيَّارتي، و فتحتُ المذياعَ لأستأنِسَ ببعض الأغاني في الطَّريقِ المعتمةِ، التي تخلو في هذه الساعاتِ عادةً من السيَّاراتِ المارَّةِ بين القرى.
عدتُ أفكِّرُ في المفاجأةِ التي يحملُها لي العقربُ اليوم، خطرَ في بالي الكثيرُ من الأحلام و الأمنياتِ التي كنتُ أتمنى أن تتحقق، و لعلَّ اليوم يكونُ بالفعلِ يومَ حظِّي، شعرتُ بالسَّعادة تغمرُني، استرخيتُ على الكرسيِّ و أطلقتُ عنانَ خيالي، و سرحتُ مع الأغنية الجميلة…كل المؤشراتِ كانتْ توجِّه نحو مفاجأةٍ جميلة.
وصلْتُ المنزلَ بأمانٍ، و كانتِ الأسرةُ مجتمعةً تنتظرُ قدومي، و صرخوا جميعًا في وجهي: لماذا لا ترد على الجوال؟ إلى متى ستظل هكذا مستهترًا يا أخي؟
أنا فعلًا لم أسمع رنَّاتِ الجوَّال، و لم أنتبهْ لهُ أصلًا.
استغربوا أنني كنتُ فرحًا رغم تأخري، و هم الذين اعتادوا على عبوسي و وجومي عند العودةِ من العمل، سألوني عن سرِّ ابتسامي، و عن تلكَ الفرحةِ الباديةِ على ملامحي…أقسمتُ لهم بأنَّه لاشيءَ هناك، بل إنَّني اليومَ عانيتُ في العيادة كما لم أُعانِ منذ مدَّةٍ طويلة، لم يصدِّقوني و ألحُّوا في السؤال، و لكن لا إجابة لدي.
في الحقيقة كنتُ لاأزالُ بانتظارِ المفاجأةِ السَّارة، التي وُعدتُ بها صباحًا.
تناولتُ طعامَ العشاءِ المتأخِّر، و جلستُ إلى زوجتي التي راحت تقسمُ عليَّ أن أخبرَها بسرِّ فرحتي، و أنا لا أملكُ سوى أن أضحكَ تارةً و أستلقي على ظهري تارةً أخرى، و هكذا حتى غلبَني النعاسُ، و بالكادِ استطعتُ أنْ أنهضَ إلى فراشي الذي ارتميتُ فيه كالقتيل.
في الصَّباحِ استيقظتُ بنشاطٍ و حيوية، على عكسِ ما أفعلهُ كلَّ يومٍ، و بدا و كأنني أنتظرُ شيئًا ما، لم تسألني زوجتي شيئًا، لكنها اكتفت برشقي بنظراتِ اتهامٍ غير مفهومة.
لم يحصل أيُّ شيءٍ أبدًا…لم تأتِ المفاجأةُ السعيدة…انتظرتُ إلى المساء، و لكن لاشيءَ أيضًا، و هكذا بدأتِ الأيَّامُ تتوالى، و أنا أنتظر.
لم أعدْ أستمعُ إلى فقرةِ(حظك اليوم) في المذياع أبدًا، و لمْ أعدْ أعيرُها أيَّ اهتمام، و لكنَّني لم أعدْ واجمًا كما كنتُ، و بمرورِ الأيَّام بدأتِ زوجتي تنسى الموضوعَ و تعتادُ على ابتسامتي الجديدة، التي صارتْ تقولُ لي إنَّها تعشقُها…
أما أنا فلازال ذلك اليوم عالقًا في ذهني و لازلتُ بشغفٍ أنتظرَ المفاجأةَ الموعودة.