مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

قصة قصيرة “عروس النّهر”

بقلم – الطيب جامعي

كنت منهمكة في ترتيب أحد الأغراض في غرفتي الصّغيرة لمّا دخلت أمّي على استحياء. نظرت إليّ من تحت، تلعثمت، مهّدت و أطنبت التمهيد. ثمّ استرسلت في الحديث دون توقّف. ذكرت بأنّ “بو جمعة” التقي بأبي على انفراد هذا اليوم، و كان قد مضى على تلك الحادثة أربع سنوات، تزوّج خلالها ثلاث مرّات. و كان الزّواج يبطل في كلّ مرّة دون أن يدري الجميع السبب، إلّا أنا…
و كالدّيك المذبوح أنتفض، و ألفيتني أتمتم. ثمّ أصيح فزعة:” لا.. لا.. لا أريد أن أكون عروس النّهر… لا أريد أن أكون عروسا للنّهر…” تسمّرت أمّي و قد فغرت فاها، لا تدري ما بي. ظلّت صامتة، الله وحده يعلم كم من الوقت قد مضى علينا و نحن على تلك الحال من الهوان.

و تهاجمني الذّكرى. كانت طفلة غضة شديدة الحياء إلى حد الانكماش، جميلة جمالا طبيعيا لا تكلّف فيه. و كنّا و نحن صغار نحبّها حبّا لا ندري له كنها. فقط ، و بكلّ بساطة كنّا نحبّها… و كثيرا ما كنا نتسابق نحن الصّبية على حبّها و طلب الوداد و القرب منها. و ربما فهمت هي ذلك عنّا، و لذلك كانت سعيدة أيّما سعادة… وكنّا نحن أيضا سعداء…

تمضي الأيّام سريعا… و تكبر الفتاة… بدأت ملامح الأنوثة تبرز جليّا عليها، فأضحت مطمعا للكثيرين من أبناء الحيّ… غير أنه لم يدُرْ بخلدنا أن يصل الأمر إلى الكهول، بل حتى إلى من انحدر به العمر إلى أرذله…

استفقنا ذات يوم على خبر سرى في القرية و لا سيما بين الشبان: فاطمة، أو كما نناديها” فطّوم”، صديقتنا المدللة ستتزوج الأسبوع القادم. فزعنا و كدنا نجنّ، صديقتنا الأثيرة ستتزوج و تغادرنا؟! كنا لا نحتمل فراقها ليوم أو بعض يوم، فكيف نرضى بابتعادها عنا؟ لم نستوعب اللّحظة و لم نفهم لِمَ هذه العجلة، فهي لم تتجاوز بعدُ السّادسة عشرة، و كيف رضي أبواها بهذه الزّيجة؟…

ولكن ما أرهق أدمغتنا الصّغيرة تعرّفنا إلى هويّة العريس المنتظر: ” بو جمعة” كهل خمسيني، كلّ ما نعرف عنه أنّه من أصحاب الجاه، و أنّه فقد زوجته في ظروف غامضة. و قد تناهى إلى مسامعنا أن زوجته ملّت معاشرته، فلفّت ذات صباح غائم الحبل حول رقبتها، و تدلّت من غصن في شجرة قريبة. و آخرون يقولون بأنّه هو من كتم أنفاسها لمّا وجدها” باردة”. و كنا نتساءل ببراءة:” كيف تكون باردة في عزّ الصّيف القائظ؟ فأعراسنا، ولا أدري لمَ، لا تقام إلّا في الصيف، وهل وصلت برودتها برودة الثّلج؟ و كيف تكون باردة ولها من الأثاث ما يجعلها دافئة و لو بلغت الحرارة أدناها؟… أسئلة كانت ترهقنا، فننام و في أنفسنا ألف سؤال و سؤال دون أن نظفر بما يشفي الغليل.

قد يهمك ايضاً:

أشرف عبد الباقي بمسرحية جديدة بموسم الرياض

اختتام مهرجان “بين ثقافتين” بالسعودية

حلّ موعد الزفاف، واقتربت معها ليلة العمر. كنّا نحن المراهقات قد رسمنا في تلافيف مخيلاتنا صورة لهذا اللّقاء المنتظر بين الحبيب و حبيبه. و كنا نجهد في رسم ملامح الفارس المنتظر بما جادت به قرائحنا. و كانت “فطّوم” أقلّنا حديثا لحيائها المفرط. غير أننا كنا نرى في عينيها و شفتيها هذه الصورة حتى دون أن تنطق. و كنا لا نقسو عليها لمحبتنا الكبيرة لها، فنتركها تشاركنا أفكارنا بصمت. و كنا نعرف مرماها و طموحها لطول عشرتنا بها.
غير أنّه من المؤكد أن “بو جمعة” ليس هو الفارس المنتظر و إن كان له جبل ذهبا. إنّما هي رغبة الوالد الذي أراد أن يبيعها كما تباع الأنعام. ولكن ما العمل و قد عقد العزم على تزويجها، ففي قريتنا لا صوت فوق صوت الوالد. تقبّلت المسكينة الأمر مطيعة على مضض. أُعدَّت كل مراسم الزواج، و لم يتوان “بو جمعة” عن إغداق الخيرات على حبيبتنا و العائلة، حتّى أنّه تكفّل بكل المراسم.
أقيمت الأفراح… كنّا ننفرد بـ”فطوم” في خلوتها، نشاكسها، نقسو عليها أحيانا، نحرجها أحيانا أخرى، فلا تجيب عن ذلك إلّا بابتسامة غائمة غامضة… حين أتذكرها الآن تلتهب النّار بين جوانحي و أبقى أعاتب النّفس و ألومها حدّ التّقريع: لم نفهم ما تريد، و لا استطعنا طمأنتها أو تخليصها من هواجسها…

تتداركني أخيرا أمّي، تهدّئ من روعي. تمسح بأناملها على شعري ملاطفة… أنظر في عينيها، فلا أرى سوى نقاط تعجّب و استفهام. تريد أن تستخبر، ولكن لا تطاوعها شفتاها، فتصمت، فأجد الفرصة ملائمة لمواصلة التأّمّل و الاستغراق في نبش الذّاكرة…

النّاس في قريتي متعوّدون على قضاء حاجاتهم البشرية في الخلاء، في الهواء الطلق. بينهم و بين الطبيعة ألفة عجيبة، حتّى إنها تتقبل فضلاتهم دون تبرّم أو شكوى، و لذلك عندما افتُقِدت العروس “فطّوم” فجرا بعد ليلة العمر لم نرهق أدمغتنا بأسئلة فارغة، و لا وجدنا من يحاول إيجاد جواب لاختفائها. الكلّ مازال يجاذب أطراف النّعاس إلّا بعض الشيوخ الذين بدؤوا يتثاءبون استعدادا لصلاة الفجر.
مع تباشير الفجر الأولى، بدأنا نسمع همهمات هنا و هناك، و بعض الأسئلة التي أخذت تطفو على شفاه البعض، و لكن لم نهتمّ لذلك و لم نقلق. لا أدري من خطر ببالها هذه الفكرة عندما اُقتُرِح علينا أن ننفض الكسل و نغسل غبار الإرهاق في النّهر المجاور لقريتنا.

اتّفقنا نحن البنات الخمس الأقرب إلى قلبها أن ننجز هذه المهمة قبل أن يمتلئ النّهر بالزّوار من كل أطراف القرية، فاليوم على ما يبدو شديد القيظ على غير العادة، ريح السموم تهبّ منذ ساعات الفجر الأولى. تسلّلنا مثل اللّصوص خفية و قصدنا بغيتنا في نشوة غامرة و فرح لا يكدّره مكدّر.

و نحن نهمّ بالغطس استرعى انتباهنا شيء ما على بعد بضعة أمتار في العمق. أسرعنا و كلّنا فضول و هواجس. باقترابنا بدأت بعض الملامح في الانجلاء. و سرعان ما زعقت صديقتنا مريم: “عروس النّهر !!.. عروس النّهر!!.. ”
كنّا، و نحن صغار، قد سمعنا الكثير من الحكايات عن عروس البحر. و لكن لم يسبق لي أن سمعت بعروس النّهر و لا بهذا الوصف: فتاة بلباس أبيض شفّاف، لباس ليلة العمر…
يا إلهي .. إنّها و الله هي.. هي.. يا إلهي .. ما الخطب؟.. كانت منكفئة على وجهها، قلبناها على ظهرها. هالنا المشهد…

ترتفع وتيرة تهدّجي، و إذا بأمّي تخلخلني… ترشّ حفنات ماء على وجهي، فأنظر إلى عينيها، فلا أرى إلّا غيمة تحيط بي من كل الجهات و لا أكاد أتبيّنها… و أسمع بعضا من همهماتها:”ليتني ما حدّثتها بهذا الخبر.. ليتني.. يا إلهي…”.
ثمّ أعود من جديد إلى غفوتي.

دارت الدّنيا من حولنا… اضطربنا… كنت أكثر تماسكا. رأيت لفافة في قبضة يدها، سحبتها واجمة، و وضعتها في جيبي بينما أخذت بعض الصّديقات في الولولة و الصراخ و الرّجوع مهرولات إلى القرية.
الجمع غفير، و الكلّ يتكهّن بسبب الوفاة… سرى بعد ذلك في القرية خبر مفاده أنّ العروس أرادت أن تغتسل بعد قضاء حاجتها، فزلقت قدمها و وقعت في النهر..
أمّا أنا فلم أنسَ تلك الورقة. ظلّت الكلمات محفورة عميقا… عميقا في ذهني:”ذَكَرُ الحيوان أرأف بأنثاه منه و ألطف”.
لمّا أفقت قليلا صحت بكل جوارحي:” سأكون عروسا للنّهر قبل أن أكون عروسه”.

 

اترك رد