مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

قصة قصيرة “الدّاموس”

بقلم – جاماى جواما:

لابدّ أن أحفر أكثر… عمّا قريب ستنفرج الأمور… أريد بيتا… أريد زوجة… أريد.. أريد.. أولادا يحملون اسمي…
لمَ لا نعيش مثلهم؟ كم كرهت هذه الأسمال البالية و يدي الممدودة إلى أمّي خلسة! أ لسنا مثل خلق الله؟ قطعة “لويز” أو قطعتان… أو حتّى رأس أحد التماثيل يغنيني… “حاليم” في الانتظار، و لن يبخل علينا بجزيل العطاء. ثمّ في شيء من الانكسار و المرارة يردّد:” مُرَابٍ عَفِنٌ، ولكن لا حيلة لنا، يبقى كاتما للسرّ”.
قطع عليه سيل الأسئلة صوته يتناهى إليه من الأعلى، و هو يشرئبّ إليه بعنقه الطويل و شاربيه المعقوفين يواريان أسنانا صفراء في تأفّف و ضيق بيّن:” هل تمّ الأمر؟”.
يمسح ” حمّودة” حُبيْبات العرق المعفّرة بالثّرى، و الّتي ما انفكّت تتصبّب فتغطّي عينيه، و تحجب عليه الرّؤية الغائمة أصلا في ذلك الجوف السحيق، في باطن الأرض الحبلى بالجوهر و الياقوت. فيردّ بامتعاض و اشمئزاز:” صبرا …أ لا تعرف الصّبر؟”، ثمّ بِهَمس كأنّه يخاطب نفسه :” جَشِعٌ … لا يعرف القناعة قطّ”.

منذ مدّة غير قصيرة انتشر في القرية النائية أخبار ” النّبّاشة” و ما يحصلون عليه من أموال طائلة. و كانت التّخوم القريبة من القرية مسرحا لهذه الأحداث التي يتناقلها النّاس سرّا خشية اتهامهم من قبل السّلطات بالاتّجار بالآثار أو السّكوت عنه.
تنتشر بعض شواهد القبور هنا و هناك و بعض الحجارة المنصوبة، و قد أكل عليها الدّهر و شرب. يزعم البعض أنّها بقايا مدينة قديمة تحتها تنام الكنوز بأمان بعد أن حصّنها أهلها من الأيادي العابثة. غيرأنّه بعد تراخي قبضة السّلطة ازدادت هذه الظّاهرة، و انشغل الكثير من العاطلين و غير العاطلين بهذه الحرفة الجديدة و منهم” حمّودة”.

قد يهمك ايضاً:

بفعالية ثقافية كبرى بالعاصمة الإيطالية روما وزارة الثقافة…

علي بن تميم سعدنا بالإقبال الجماهيري بمهرجان الظفرة للكتاب

“حمّودة ” واحد من ” النّبّاشة”، شاب في مقتبل العمر، يئس من التوظيف الحكومي، فعلّق الشهادة الجامعيّة في وتد النّسيان، و راح يلهث كغيره وراء الحلم : الكنز، الثراء… علّه يزيل دنس السّنين. منذ شهر و هو يحفر تحت أحد القبور. أحد ” العزّامين” أرشده إلى الكنز. غير أنّه يتطلّب الحفر إلى عمق معلوم و بعض البخور الذي يجلب من بلاد ما بعد البحر،و لذلك كان في كلّ مرّة يطلب إلى “حمّودة” المال لجلبه من هناك، فاضطُرّ إلى الاقتراض. و باعت الأمّ حليها، أمّا الأب فباع ما يملك من بقرات و بعض شياه، هي مكسب هذه العائلة الفقيرة المفقّرة كلّه، شأنها شأن الكثير من العائلات. ثمّ ما لبث أن طاف على أهل القرية يجمع المبالغ المطلوبة واعدا إيّاهم بالثراء، و النّاس عليه يغدقون بما وصلت إليه أيديهم.

سحابة البخور تغطّي فم “الدّاموس” و يصل مداها إلى “حمّودة،” فيأخذ في العطاس و السّعال إلى حدّ التّقيّؤ، فيصيح بالعزّام في الأعلى سابّا لاعنا حتّى يبعد الكانون:” لعنة الله عليك أيّها الـ… “، و يضيف في ما بينه و بين نفسه:” وقح … يخنق أنفاسي ببخوره و طلاسمه… اللعنة… اللّعنة…”.
في الخارج بدأ الهرج يصل إلى ” حمّودة” في الدّاخل، و لا يكاد يتبيّنه. النّاس في القرية يتداعون إلى ” الدّاموس” ينتظرون لحظة خروج الكنز الموعود. و العزّام ” الحجلاوي” يزجرهم للابتعاد عن مدخل “الدّاموس” حتّى لا يسدّوا منفذ الهواء إلى الدّاخل فتذهب جهوده سدى:” ابتعدوا… ابتعدوا … كتمتم نفسه… همّج …”

ها هو ” حمّودة” يحرّك الحبل المتدلّي حركات سريعة متتابعة، إشارة إلى أنّ المهمّة قد أنجزت. تتفتّح عينا “العزّام” حتى الجحوظ، و يتّسع منخراه كأنْ قد أصابه مسّ، ثمّ يتدارك الموقف. و بسرعة يزيد كميّة البخور. ينفخ بسرعة. تتكثّف غبارة البخور و تنتشر حتّى تغطي المكان. يلجلج لسانه بتمتمات و طلاسم يصل صداها إلى الدّاخل:” … بركاتك سيدي “الحفناوي” … بركاتك سيدي …”. غير أنّ حمّودة يتضايق من ذلك، فيرعد و يزبد:” اصمت أيّها الدّجّال”

الحشد في الخارج يزداد و الهرج يتضخّم، الكلّ يريد حصّته من الكنز، لم نر أفراد القرية قد اجتمعوا مثل اجتماعهم هذا اليوم. بدأ “الحجلاوي” يسحب حمّودة من العمق السّحيق و هو يلهث، يريد أن يتفرّغ لأمر آخر أكثر أهمّية سُحِب توا من “الدّاموس” قبل أن يظفر به أهل القرية. أحدهم ذكر أنّ “الدّاموس” في أرضه فهو أحقّ بالحصّة الكبرى.و ارتفع صوت أخر مؤكّدا أن الأرض لأجداده، و ارتفع آخر… و آخر… و الكلّ يدّعي ملكيّة الأرض و يطالب بالحصّة الكبرى…
مرّت بعض اللّحظات، و إذا بصرخة مكتومة ترتفع من إحدى الجهات. ثمّ أصوات و أصوات… طُعِن أحد الشّبان المندفعين. هاج القوم و ماجوا، و اختلط حابلهم بنابلهم ردحا… ثبّت “العزّام” الحبل المتدلّي في وتد قريب، فراح”حمودة” يتأرجح يمينا و يسارا قرب الحافّة. أمّا هو فيسرع وسط هذه الجلبة.
ثمّ يتفطّن القوم إلى غياب ” الحجلاوي” بعد أن استطاع بعض الحكماء تهدئة الخواطر رغم الجراح. يبحثون عنه ولا أثر. فيقرّرون فتح ” الخابية” التي أخرجت توّا من باطن الأرض. اتّفقوا على التعرّف إلى الكنز أوّلا ثم تحديد طريقة اقتسامه و توزيعه على كامل أهل القرية. وداعا للفقر، لا بؤس بعد اليوم…
بضربة رجل واحد تنفجر ” الخابية” إلى شظايا. يتداعى القوم ينهشون الشظايا بنظراتهم يبحثون عن أثر للكنز المرتقب. ثمّ تشخص الأبصار و كأنّ على رأسهم الطّير. لا شيء سوى رفات أحدهم وبعض الأغراض التي أضحت يبابا و لم يعد لها هيئة معيّنة، و رائحة الموت و العفن تزكم أنوف الجماعة.
يفيق الجميع على وقع ارتطام بدّد السّكون الجاثم عليهم. يتذكّرون ” حمّودة” المعلّق. فيهرعون إلى الدّاموس. و تنحبس أنفاسهم و هم يرونه يتخبّط في بركة من الدّماء. انقطع الحبل بفعل الاحتكاك بالحافة فتلقّفته بعض الصّخور في الأسفل. كم استغاث ! ولكن لا من مجيب . الكلّ كانوا منشغلين بالتعرّف إلى ما تحمله “الخابية ” من كنوز.
عند غروب الشّمس كانت الجماعة تعود إلى القرية حاملة نعشا و جراحا خلّفها تقاتلهم على كنز موعود و خيبة أمل بحجم الكون.
******
الدّاموس: دهليز / العزّام: دجّال / لويز: جوهر ، ياقوت و كل معدن ثمين / النبّاشة: من ينبش القبور و الأماكن الأثرية بحثا عن الكنوز./ الخابية: جرّة عظيمة.

 

اترك رد