مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

قشور البحر : قصة قصيرة

 بقلم – صالح هشام :
تتعالى ضوضاء النوارس ، تتكثل و تشكل غيمة بيضاء منذوفة لا تتحرك ،تراوح مكانها ، وكأنها تلتصق بالفراغ، تركز عيونها الكبيرة السوداء، على رأس الأمواج المعممة بزبد يميل بعض الشيء إلى الصفرة ، و تتكسر على صخور كبيرة عالقة بخاصرة البحر ٠
ذلك الكسول مترامي الأطراف، يمتص زرقته من زرقة السماء القاتمة ،يتعب النظرإليه العين ، فتضيق الأحداق ! تأكل صخورحادة من أردافه الرخوة ٠٠ في كل حركة مد مرغ وجزر مزبد ٠٠ يتفل كتلا لحمية ،لأحبة كان لهم بيننا وجود و ذكريات ٠٠ذوقه لايستسيغ طعم كل جسم غريب ، يقذف الأجساد أنصافا أو أطرافا أو جذوعا بدون رؤوس، أو رؤوسا بدون جذوع ، أو بقايا عظام صفراء ، لم تفرغ من التهامها الديدان بعد !
نلوك حسرة بمذاق نقع مبلل ، ونتلمظ ملوحة غبن وظلم، فنصب عليه غضبنا ، نقذفه بالحجر، نرميه بشتائم بعدد حبيبات رمال شاطئه الناعمة :
– لكن ما باله هذا البحر ؟!
فماهو مجرم ، وما هو خطاف وما هو مغتصب حيوات ،وماهو تنور، تذبل حرارة لظاه ، وريدات جميلات رائعات، ضاقت بها أرض احتكرها اللصوص ،فلفظتها كتفلة أو علكة فقدت طعمها !
– ما ذنب هذا البحر ؟
هل أرسل يوما خيولا متعرقة ، لتجلب إليه هذه الجثث من بيوتها الآمنة،ولتعيث فيها القواطع خرابا وتدميرا !
مارس واجبا طبعيا ، فسترتلك الأجساد المرهقة ،أجسادا صفراء متعبة داوية ،عبث بنضارتها لصوص البلاد ، فجبر ما كسره الطغاة !
ارتمى في حضنه الهاربون من صقيع القتل،فأقبرأجسادهم الغضة الطرية ، وحفظها من أظافر الجوارح وعفن أشعة الشمس الحارقة !
تتكسر على الصخور الصلبة أمواجه، فيسحق ثقلها كل هارب من مصيرمميت ٠٠مصير مفعم بأزيز الرصاص الطائش ، وفوهات المدافع ،فتدنس الأقذار ذوائبه الغاضبة !
أجساد غضة تتمسك به ، كالمحار تلتصق بالصخور٠٠٠ تدغدغها قوة الموج ،فتنزلق ٠٠٠ تهوي وتركن إلى عمق مظلم مجهول !
تشرئب أعناق مكلومة وسط ضجة كبرى ،تحدثها النوارس كلما تشظت موجة على جلاميد الشاطيء !
هم يعرفونه بفطرتهم وتجارب الماضي :
– البحر شريف ٠٠كريم ٠٠يكره نبات العليق٠٠ يستهين بمن يستهين به ٠٠ يتفل من جسمه كل جسم غريب ،فتدحرجه رغوة الماء ، وترفض أن تأكل منه الملوحة !
على طول الشاطئ، يسيرون في صفوف طويلة ، يقتنصون رؤوس الأمواج ، بحذر وانتباه ٠٠ ربماكل تشظ يقذف جسدا أو بعض جسد ٠٠كان شكلهم يبعث على الضحك ويدفع إلى البكاء، وهم يوشوشون في آذان بعضهم البعض :
– هؤلاء المساكين ،ضحايا يندفعون هاربين ، من لعلعة الرصاص ، وشغب القتلة ، وصرير السلاسل تطوق أعناقهم ، ودحرجة القاطرات تحملهم مكدسين، إلى عفونة الزنازن كالبضائع !
هؤلاء المساكين ،كل يوم ،يهربون من حفرة ، فيسقطون في بئر ، يهربون من البئر فيستقر بهم المقام في عرض البحر ٠٠٠ يتمسكون بصوار رخوة واهنة ،لا تقوى على حمل نفسها ، فتدوس أشرعتهم المهترئة،مراكب تستقوي عليهم بمحركات قوية تقتات من خيرات بلدانهم ٠
تغمرهم سخرية بحارة عتاة قساة ،يعرفون من الإنسانية خربشات مرسومة ،على واجهات جرائد وصحف أرصفة صفراء!
في عرض اليم ، يفقدون المياح ، تتيه بوصلتهم ٠٠ فتزل بهم القدم في أحضان القرش !
يتركون لوحدهم ينزلقون ٠٠ ينزلقون ٠٠ فتستوي على رؤوسهم صفحة الماء ٠٠لا أمل في العبور٠٠لا أمل في العودة !
هو البحر لا جناح عليه ، تمساح يفتح واسعا ،ما بين الفكين ، وينتظر٠٠يأتيه رزقه من حيث لا يحتسب ، هم يذهبون إليه ٠٠ هم يقعون بين فكيه ، هم رزقه حلال من الله !
كلما هبت عاصفة البحر ،يتهددهم الانزلاق إلى القاع :
فتتمسك الأذرع بأجسادها ، وتعانق الفراغ، تطلب النجاة من موت يختلف عن موت الأسرة ، تتلوى عليهم الأمواج كأفعى تعصرفريستها ٠٠ وهم على الظهور يحملون أكياس وسخ الدنيا ٠٠ أكياس متاع تافه ، اختلسوه من تحت أنقاض بيوتهم المدمرة !
تتعالى الضوضاء ،وتعلق الأكف بسماء ، توقفت حركة نجومها في مدارها ٠٠كغصة في الحلق ٠٠ لا تتحرك ٠٠ لا تصعد ٠٠٠لا تهبط ،وتتحول سحبها نذفا مشنوقة في فراغ حالك !
فيتهاوى الصغير والكبير ، الشاب والعجوز ، وليمة دسمة للقواطع : تأكل الثمار وتقذف القشور، كلما حك البحر خاصرته على الصخور ، فيلتقطها المرابضون على طول الشاطئ !
هناك غير بعيد عن الحشود ، ثمة عجوز شمطاء ،تتفحص لعاب موجة كبيرة ٠٠٠ تفرك بين راحتيها قشورا تفلتها تلك الموجة٠٠ تشم المسكينة روائح قشورلن تخفى عليها أبد الدهر ٠٠ تعرف منها هديتها له يوم عيد مولده :
– حذاءا رياضيا مخططا كظهر النمر ٠٠ يحمل علامة النمر ، تغمرفردتيه بدموعها ٠٠ تقبلهما وتغوص في نوبة نحيب وعويل ، و هي تعدد جحم الخسارة :
-قرة عيني ،لن يعود رحمي شابا، بعد شيخوخة ؟
لن ألدك مرة ثانية ؟ يا ويح أمك يا ولدي ؟
حينها تدفعها قبضات قوية،وتبعدهاعن رأس الموجة،تلتفت ٠٠ تتذكرهم بسواعدهم القوية ،يذبحون و ينكلون بشباب مقهور،إنهم حماة اللصوص :
تبرق نجوم ملونة لا معة على صدورهم ،هم القتلة قادمون :
-أفسحي الطريق يا عجوز النحس ، أتركينا نجمع أشلاء الرجل ؟
تبتعد المسكينة، و تردد بلوعة، لن تطفأ نارها :
-يا لسخرية القدر، ترمونهم في البحر ، وها أنتم أنصاف عراة تخطفون بقاياهم من رأس كل موجة متشظية ، إنكم متعودون على جمع فتات الأمواج ٠٠فماذا يفيد كم جمع القشور ، بعدما ضاعت الثمار والأعمار؟!
يفتحون كيسا بلاستيكيا ضخما،مختوما بختم مخزني ، مكتوب عليه بخط عربي ردئ : (كل نفس ذائقة الموت ) خط ردئ جدا كرداءتهم ٠٠خط باليد منقوش على البلاستيك!
على عجل ،تشرع تلك الصدور الموسمة بالنجوم تلملم ما تقذفه أمواج البحر من قشور وبقايا :
– نعال٠٠صدريات٠٠٠ قبعات ، حفاظات أطفال ٠٠ بعض من أشلاء ٠٠٠ أغراض ليست ذات قيمة ، هذا كل ما لفظه عمق البحر، هذا كل ما جادت به القواطع ، تملأ الأكياس حتى التخمة ، ويهتز غبارالأرض ممزوجا برمال الشاطئ تحت أحذية عسكرية ثقيلة ٠٠ فيؤلم الجفون ويشتم رطبا في الأنوف ،يصرخ قائد القتلة :
-اتبعونا يا سادة إلى المخفرلاستكمال إجراءات تحديد الهويات و مراسيم الدفن !
تنفلت أصوات ساخطة من الجموع ٠٠لا تميزها آذان الطغاة : جلبة وضوضاء كقذائف قطع من المعادن في قاع بئر عميق ، أو كركرة مراكب تصطدم بالصخور وصاحوا جميعا :
– ماذا ستدفنون يا أولياء الأمر منا ؟ هؤلاء أموات لا هوية لهم ٠٠ لا أوطان لهم ٠٠ أحسن منهم كلابكم حظا ٠٠ قذفهم مد البحر و سيجرفهم جزره ، سيعودون من حيث أتوا !
نشكركم ، فقد نابت عنكم أسماك القرش في استكمال إجراءات الدفن وتحديد الهوية !
لا نريد دفن قشور لفظها البحر ، بعدما اغتصب ثمارها ٠٠٠ طلقتموها ٠٠٠ اتركوها ٠٠٠ فإنها تعرف دار أبيها !
وتتيه الأبصار في عرض البحر ، وهو يغط بين مد وجزر بين ضجيج وسكون !
وتبتلع كثبان الرمال أسمالا رثة بالية ، تذوب فيها أجساد واهنة ، أهلكها السقم ٠٠ و حسرة اليتم ، و الترمل في زمن اليتم والترمل !
بقلم الاستاذ :صالح هشام
الأحد 24دجنبر 2017

اترك رد