قراءة في نص الكاتب المبدع صابر الجنزوري ( شجرة التوت )
بقلم – محمود عودة
النص
شجرة التوت
توفت أمى ، كانت وصيتها ان تدفن فى مقابر العائلة بقريتنا حيث الأباء والأجداد هناك ينعمون بالسلام .
كان علينا أن نعود بها إليها ، العائلة كانت بانتظارنا ، جهزوا كل شيء ، فتحوا المقبرة ذات العينين ، واحدة للرجال بها أبى وأجدادى ، والثانية للنساء ، بها جداتى وعماتى ،مازالت أشجار الجميز العتيقة تقف شامخة على مداخل قبورنا .
انتهت مراسم الدفن التى شهدها كل ابناء القرية ،
فهم ينادون فى مكبرات الصوت بالمساجد عن اسم المتوفى وموعد الجنازة ، فيخرج الجميع إلى المسجد ينتظر قدوم الجثة ، ويشهدوا مراسم الدفن ويرددوا الدعاء للميت بعد دفنه ، ويذهب كل مودع إلى قبر عائلته يدعو لأمواته قبل أن يغادر حرم القبور .
تلقينا العزاء بدوار العائلة ، نزفت الدموع مرة أخرى بعد انهمارها لحظة دخول أمى إلى بيتها الجديد .
قدم لى إبن عمى أبناء العم والخال الذين لم أكن أعرفهم من قبل .
المدينة تحاول أن تخلعنا من جذورنا ، لكنها تفشل عندما نعود إلى القرية حتى ولو كنا جثثا محمولة على الأعناق فى نعش خشبي .
اصطحبنا إلى بيته ، لم يكن ذلك البيت الذي مرحت فيه أيام الصبا مع أبناء عمى ، ولم يكن ذلك المكان الذي شهد جولاتنا بشوارعه ،
كل شيء تغير ، بيت العائلة باعوه !
الحقل الذي كنا نلتقى فيه كل عام فى عيد الربيع به البيت الجديد، اختفى النهر خلف البنايات الحديثة ،
اقتلعوا الساقية والتابوت وحلت ماكينات ري مكانهما ، لطالما جلسنا فوق مدار الساقية على شاطىء النهر الذي اختفى وتوارى عن العيون .
سالت بن عمى عن شجرة التوت الكبيرة التى كان يتسلقها ويهز فروعها فتتساقط حباتها على حصيرة كنا نفترشها ، فنجمع الحبات ونتمتع بمذاقها الذي كان يمتزج بضحكاتنا وفرحتنا .
أتانى صوته حزينا : اقتلعناها يا ابن عمى!
أشار بيده إلى شجرة توت قصيرة ، هذه توتة أخرى !
نظرت إليها، لاحظت أن فصوص توتها مختلفة ، فهى فصوص طويلة مثل إصبع الكف ، الحبات الخضراء والحمراء معا .
استنكرت : إنها هجين !
أجاب بأسي : هى كذلك وليست بذورها من بذورنا .
سألت : ما أصلها ؟
قال : هذه توتة إسرائيلية !
خيم الحزن علينا ، كاد صمتنا أن يصرخ .
عند مغادرتنا ، أبصرت معولا فى حديقة البيت ،
توقفت أمامه ، التقطه ، استنهضت قواي ،
ضربت فى جذورهها الضعيفة الضربة الأولى .
القراءة
بدأ الكاتب سرد القصة بشكل طبيعي وروتيني نشهده كثيراً في المناسبات العديدة حزينة كانت أو مفرحة ، حرص البطل على الوفاء لوصية والدته قبل وفاتها بأن تدفن في مدافن العائلة في القرية التي تركتها منذ مدة وهذا يؤكد مدى حنينها في غربتها لقريتها التي شهدت طفولتها وصباها وربما فرحها وولادة ابناءها .. ويستمر الكاتب في السرد في الوضع الروتيني لمراسم الدفن في القرية، وقد حرص أن يشير ألى التحول الذي طرأ على القرية عندما ذكر أن معظم أهالي القرية حضروا مراسم الدفن ( فهم ينادون في المكروفون علن اسم المتوفي وموعد الجنازة ) .
من الطبيعي أن يذهب البطل بعد انتهاء مراسم الدفن من الصلاة والدعاء إلى بيت أبناء عمومته وأخواله وهو يراهم لأول مرة بسبب طول الغربة وانقطاع الصلة بين القرية والمدينة من خلال أهلها الذين هجروها ركضاً وراء الحضارة وبعداً عن التراث ويقف معهم في دوار العائلة وسط الحزن والدموع .
يحاول الكاتب أن يؤكد أن المدينة لم تقتلع أبناءها من جذورهم وهو هنا يناقض نفسه فلولا وصية والدته بدفنها في مقبرة العائلة حيث الأجداد والجدات لما عاد البطل إلى القرية .
اصطحب ابن العم السارد إلى بيته فلم يجد البيت الذي يتذكر فيه طفولته وصباه مع أبناء عمومته حتى الشوارع حوله اختفت، كل تراث القرية الساقية والتابوت، حلت محلها موتورات رفع المياه ودفعها، أراد الكاتب أن يضع الحداثة في كل ما يحيط به في القرية فلم يشعر أنها قريتة كما عرفها وإن لم يصرح به .
استمر الكاتب في ذلك حتى يصل بنا إلى عقدة النص ، انقلب السرد من الحدث الآجتماعي إلى الحدث السياسي وذكاء من الكاتب من خلال شجرة التوت التي كان يعشق ثمارها في طفولته للوانها الحمراء والبيضاء فسأل ابن عمه الذي كان يتسلق أغصانها ويهزها لتنهمر ثمارها على حصيرة تفترش الأرض أسفلها فنأكل متلذيين بطعم ثمارها .. جاء صوته حزيناً ليقول : اقتلعناها .. إلى هنا أيضاً أرى الحدث طبيعي مع كل المتغيرات في القرية ولكن المفاجأة في الحدث ليصل إلى الحبكة التي يريدها الكاتب، عندما أشار بيده إلى شجرة توت قصيرة قائلاً : هذه شجرة توت أخرى… استنكر الكاتب ثمار هذه الشجرة التي تشبه أصابع الكف الحبات الخضراء والحمراء وقال : انها هجين ، أجاب بأسى إنها كذلك وليست بذورها من بذورنا .. سألت ما أصلها .. قال هذه توتة إسرائيلية .. خيم الحزن علينا .. كاد الصمت أن يصرخ .. وقبل الوصول إلى الحبكة التي أرادها الكاتب لفت نظري عبارة بذورها ليست من بذورنا وهنا أرى الكاتب يقول: مهما حاولت الصهيونية زرع بذور التفرقة والتشتت في ربوع وطننا فلن تنجح ولا بد من العودة إلى أصولنا العريقة .
الحبكة … ” عند مغادرتنا أبصرت معولاً في حديقة البيت، توقفت أمامه، التقطته، استنهضت قواي، ضربت في جذورها الضعيفة الضربة الأولى .. انتهت الحبكة و القصة والسؤال لماذ اختار الكاتب شجرة التوت ولم يختار شجرة أخرى فالمعلوم أن شجرة التوت تضرب جذورها في الأرض ومهما كانت الشجرة ضعيفة في بداية زراعتها إلا أنها تقوى ويصبح قلعها من الصعوبة بمكان ثم لماذا اختار أبناء عمومته هذه النبتة الأسرائيلية هل لعدم وجود غيرها أم هو أنتشار الفكر الصهيوني في ربوع وطننا العربي كما أن شجرة التوت من الصعب إقتلاع جذورها وعندما يسقى مكان جذورها بالماء تعود إل الأنبات ويراودني سؤال متى تأتي الضربة الثانية .
كل التحية للكاتب العروبي الأصيل على هذا النص الرائع