بقلم – عبد الله بير:
” لا بد أن يأتي في يوم من الأيام ، يخرجني من هذه القذارة ” هكذا كان عزت يتحدث إلى نفسه عندما يكون وحيدا أو وهو يحفر الارض لأساسات دار ما أو ينقل قوالب إسمنتية وهو في اقصى حالات الإرهاق . كان هناك أمل يحاول أن يشرق بين طيات افكاره القاتمة .لم يتولد هذا الشعور لديه بعد الزواج و الأعباء الثقيلة التي رافقت زواجه ، إنما كان يرافقه في ايام العزوبية ايضاً . عاش عزت في اسرة فقيرة في ضواحي المدينة ، كان والده عامل بناء ، ولديه عائلة كبيرة تتكون من زوجة و أحد عشر طفلاً ذكوراً و اناثاً ، وكان تسلسل عزت من هذه السلسلة الرابع . دخل عزت المدرسة في السنوات الأولى من عمره ولكن تركها فيما بعد ليلتحق بوالده و اخوته الذكور في العمل . بعد أن تزوج عزت بفتاة تصغره بعامين ،ترك المنزل مثل باقي اخوته الأكبر منه ، لم يتجاوز عزت العشرين من العمر حبنما تزوج و ترك المنزل ليحمل اعباء الأسرة و الأطفال .استأجر عزت بيتاً أو شبه بيت, كان مكوناً من غرفتين ضيقتين و ملحقاتهما . كانت حياته هادئة في البداية حيث هو و زوجته وحيدان في البيت ، و ما أن مر عام حتى ملأ ضجيج أول طفل لهما البيت و تغير النظام كله ،زادت المصروفات و قل الخروج و السهر عند الأصحاب و الأصدقاء . بدأ يحس بأن حياته انقلبت رأساً على عقب . واستمرت سلسلة الولادات حتى الطفل الرابع ذكراً و أنثى ، ملئ البيت بالأطفال ، بقي عزت في البيت نفسه ، و مع توسع العائلة صَغُر البيت شيئاً فشيئاً ، حتى ضاق به ، لم يكد يعود إلى البيت من العمل مع والده مرهقاً و تعباً ، حتى تنهال عليه شكاوى الأولاد و البنات و الزوجة الكل يشتكي على الكل ، فوق ما كان يعاني من جسده كان يعاني من جيبه ايضاً ، لان العمل قل و الشتاء على الابواب ،فالعمل في هذه الايام يقل و المصاريف تكثر .كان كل فكر عزت يدور حول كيفية توفير قوت الشتاء و مواد التدفئة و ملابس للأطفال ، بدا يمد يده إلى مدخراته كي يعوض ما ينقصه من المال ، بقيت فكرة المنقذ لديه ثابتة و كانت بالنسبة اليه كعقيدة يؤمن بها و يردد مع نفسه دائماً في البيت و في العمل ” سياتي في يوم ما و يقول لي ، يا عزت انا صديقك القديم فلان ، ماذا تعمل الآن ؟ تعال عندي ، فانا غني جداً ، اعمل عندي و سأغير حياتك ، ساهب لك بيتاً و سيارة و ملابس جميلة و طعام راقي ، تعبت كثيراً ، تعال و استرح الآن “. وفي كل مرة يصحو من هذا الفكرة و والده يوبخه لكسله و لتباطؤه في العمل .
في احدى الليالي ، وبينما تشتكي له زوجته من سوء الحال و قسوة الحياة ، البنات بحاجة إلى ملابس جديدة و العيد على الابواب و البيت بحاجة إلى اغراض ، و هي ايضاً بحاجة إلى مستلزمات لاستقبال مولودها الجديد قال لها عزت :
– اصبري ، سيأتي ، حتما سيأتي ، لن يخيب ظني أبداً .
كان عزت في تلك اللحظة بين حالة الهذيان و الصحو و لم يكن يعرف ماذا يقول ، فقالت زوجته :
– مَن الذي سيأتي ؟ هل سيأتينا ضيوف ؟ ماذا تقول ؟
مع هذه الكلمات أفاق عزت و قال :
– ماذا؟
فردت زوجته :
– من الذي سيأتي ؟
فقال بهدوء و كان غارقاً في تفكير عميق جداً :
-لا شيء ، لا شيء ، إنها مجرد فكرة .
سكت عزت لبعض الوقت فردت زوجته مرة أخرى بأن و أولادها بحاجة إلى ملابس جديدة للعيد و مستلزمات و حاجات للبيت و عليه اعطاءها بعض المال ، لكن عزت هز راسه موافقاً وقال :
– غداً سأتدبر الأمر .
تمتم عزت يتكلم مع نفسه :
– نحن على أبواب الشتاء ، أرجو أن يأتي صديقي في هذه الأيام و إلا سيكون هناك مشاكل ، إلى ذلك الحين يجب أن أتدبر بعض المال لأتجنب الثرثرة في البيت .
في احدى ايام الشتاء الماطرة و البرد قارس ، كان عزت يجلس القرفصاء في احدى زوايا المقهى ، وكان الجو كئيباً في الداخل و الخارج ، ففي الداخل دخان سكائر ، وبخار اباريق الشاي ، وصيحات الزبائن الذين يلعبون الدومينو و لعبة الطاولة ، بينما في الخارج مطر غزير و ضباب كثيف و رائحة عفونة و رطوبة تملأ انوف المارين ، ولم يتوقف المطر منذ الساعات الأولى من الصباح لذلك كان هذا اليوم بالنسبة لعزت يوم عطلة ، وفي العادة يذهب إلى المقهى في مثل هذه الأيام لقضاء الوقت بعيداً عن ضوضاء البيت و الأولاد. القي عزت نظرة إلى الخارج من خلال الزجاج المغطى بالبخار و قال في نفسه :
– اليوم ، لم اذهب إلى العمل أيضاً ، متى سيتوقف المطر يا إلهي ، إن لم يتوقف المطر الليلة ، سأكون مضطراً أن استدين بعض المال و مرة أخرى سأكون مديوناً فوق طاقتي ، يا إلهي كن عوناً لي .
يحاول التخلص من رماد سيكارته و هو غارق في التفكير ، سمع صوتاً غريباً يناديه :
– عزت ، عزت
رفع عزت رأسه بهدوء و نظر إلى جهة الصوت ، فسمع مرة أخرى يناديه :
– عزت ، انت عزت أليس كذلك ؟
فرد عزت عليه :
– نعم ، انا عزت ، تفضل أخي ماذا تريد ؟
فرد صاحب الصوت :
– أنا صديقك عامر ، صديق طفولتك ، صديقك في المدرسة ، ألا تتذكر عامر البدين ؟
ما أن سمع عزت هذه الكلمات ، و كأنما انقشعت كل الغيوم التي في السماء و اشرقت الشمس ، وأنار وجهه ضياء غريب ، و اصبحت ابتسامته بارزة على وجهه ، و قام من مكانه و استقبله أحسن استقبال ، وهو يردد في نفسه :
– ألم أقل إنه سيأتي في يوم من الأيام . ها قد أتى .
اجلسه عزت بجانبه ،رحب به ترحيباً عظيما ، طلب له كوب شاي و اعطاه سيكارة ، سعد به عزت أيما سعادة ، أول ما سأله عزت كان عن حياته و اختفائه كل هذا المدة وقال :
– عامر البدين ، ولكن لم تعد بديناً مثل قبل ، اين كنت ؟ وماذا فعلت في حياتك ؟ ومن أين تأتي ؟
لم يدعه عزت ليجيب على هذه الأسئلة حتى انهال عليه بوابل أخر من الأسئلة ، وكان في نفسه رغبة قوية بان يقول له عامر ” قم يا رجل ماذا تفعل في هذا الوكر الوسخ ، قم دعني البسك الحرير ، واطعمك ما لذ و طاب ، تنام على ريش النعام ” و لكن كان عامر يضحك و هو يشرب الشاي ، لم يجيب عن اسئلة عزت و طلب منه أن يحدثه عن حياته ،فتحدث عزت عن حياته ، و المصاعب التي يواجها ، في سبيل إعالة عائلته ، وهو يتنظر مولوداً جديداً ، اما صديقه عامر فتحدث عن البلاد التي سافر إليها ، كيف يعيش الناس هناك ، ان الحياة في تلك البلاد صعبة للغاية ، ولا يستطيع المهاجر الاندماج سريعاً في تلك المجتمعات و يبقى غريباً عنها مدة طويلة ، ومَن لم يتحمل ذلك يعود إلى وطنه ثم قال :
– انا منذ عشر سنين سافرت إلى خارج الوطن ، مررت بدول كثيرة ، سافرت و معي مبلغ من المال ، ولكن لم اتزوج بعد ، افكر الآن في الزواج ولكن ، أولاً يجب علىّ أن استقر في البداية ، وأن أجد عملاً ، لأنني لن اعود إلى الخارج مرة أخرى.
ثم تحدث عامر عن أيام الطفولة و المدرسة وتصرفاتهم البلهاء في ذلك الزمن ، ثم اضاف :
– بحثت عنك كثيراً يا عزت ، حتى وجدتك ، لأنني في حاجة ماسة إليك ، لم أجد أحداً غيرك كي اهرع إليه ، تعرف أنني بعدت منذ زمن عن هنا و كل شيئ تغير ، و لم أعد أعرف الناس الآن لذلك لجات إليك ، في الحقيقة أنا مدين بمبلغ كبير صرفته في طريق عودتي من الخارج ، و لا املك فلساً واحداً الآن ، لذا رأيت من الأحسن ان ألجأ اليك لتساعدني ، اعطني مبلغاً من المال سارده اليك حالما أستطيع ، وخذني معك إلى العمل . فهل لك أن تساعدني في ذلك ؟