مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

قد شغفها حبا وشغفته

بقلم محمد حسن حمادة:

عاد طارق إلي جلسته الأولي وهو يفكر بأمر هذا الرجل الغريب الأطوار لكنه لايستطيع السيطرة علي جسده ودخله الوسواس الخناس بأن هذا الرجل ربما  يكون قد سحره وحتي يتخلص من هذه الهلاوس والرعشة التي تملكت جسده دخل إلي المسجد وصلي ماتيسر له من الركعات ولم يتوقف عن الصلاة إلا بعدما دبت الطمأنية في قلبه فخرج من المسجد وعلي الفور اتصل بحبيته التي تأخرت عليه فاعتذرت له وطلبت منه اللقاء الخميس القادم في نفس المكان والموعد وعلي غير عادته لم يعاتبها حتي لم يحاول معرفة سبب اعتذار حبيبته فذهنه شارد في أمر هذا الرجل الذي بدا لطارق وكأنه خرج من كتاب الجبرتي (عجائب الآثار) كان طارق يعرف جيدا بيت السناري فله فيه مفارقات وذكريات فقد زاره قبل ذلك مع حبيبته السابقة (ديما) ذات الأصول السورية التي سكنت حي السيدة زينب بصحبة والدتها وأختها (ريما) الذين وفدوا إلي القاهرة هربا من جحيم الربيع العربي السوري في عام 2011.

ما أشبه الليلة بالبارحة فبالأمس القريب اتفق مع صديقه خالد أن يلتقيا في نفس المكان في محطة رمسيس ومن ثم سيتجهان لمنطقة السيدة زينب بعدما أصر خالد علي خطبة (ريما) رغم رفض والديه هذه الزيجة وفوض طارق للحديث مع أم العروسة وجس نبضها حاول طارق أن يثنيه عن عزمه والنزول علي رغبة والديه وعدم عصيانهما وحتي لايسبب له حرجا مع والديه وأسرته فقد كانت أسرة خالد تعتبر طارقا أحد أفرادها لكن خالدا وضع لطارق العقدة في المنشار وأقسم بأغلظ الأيمان إن لم يصاحبه إلي بيت (ريما) فهو من (سكة وطارق من سكة) فرضخا طارق لرغبة صاحبه.

التقيا الشابان بأم العروسة سيدة في منتصف الستينيات مازالت تحتفظ بمسحة من جمال قديم، استقبلت الأم الشابين بكل ود وترحاب تجاذبا الشابان معها أطراف الحديث، وبمجرد أن سأل طارق الأم عن مسقط رأسها  في سوريا تنهدت، ثم رجعت للخلف لتستلقي بظهرها علي الأريكة لتجيبه بنبرة حزن مغلفة بشموخ أنا حلبية من حلب الشهباء عاصمة الحمدانيين، مدينة الأسرار والآثار والمساجد والخانات والأسواق والأسبلة وممر طريق الحرير والبهارات والقطن والصوف والصابون مدينتي بطعم المكسرات والفستق مدينتي مدينة الرحالة والمستشرقين، مدينة حلب التي كانت تنافس اسطنبول والقاهرة ودمشق في الحسن والدلال، أبت أن تترك دمشق تحصد وحدها الإعجاب والثناء فغارت منها حتي أجبرت زوارها علي عقد مقارنة بينها وبين شقيقتها الكبري دمشق فنافستها في الحسن وعندما حددوا موعدا لعرسها تدللت واشترطت لمن يرغب الزواج منها أن يكون فارسا دمشقيا علي أن يقام العرس في نفس ليلة عرس شقيقتها الكبري دمشق، فتزينت وتكحلت بكحل بابلي حاروا في رسمها وعندما حاولوا وصفها قالوا خدودها أرمينية وتاجها عربي وقلبها مسلم طاهر وعطرها باريسي فواح برائحة (شانيل) في الصباح وبنكهة عطور (ديور) المعتقة في الظهيرة وبلمسة عطور( إيستس لودير ) الجذابة الفاخرة في المساء، مدينتي مدينة السحر والفنون والموسيقي فقبل أن يبلغ لنا الفطام رضيعا يرضع الطفل الموسيقى من ثدى أمه، ويفطم علي (القدود الحلبية) فَتَسْكُنه روح الموشحات الأندلسية، ثم تجشمت بشلال من البكاء ونهضت لتحضر لطارق ألبوم ذكرياتها المفعم بصور مدينتها العريقة التي اغتالها الإرهاب ودمرتها الحرب وغزاها (الشبيحة) واستوطنها الدواعش، وغرقت في نار الطائفية بعدما كانت موطنا لكل الأديان  والحضارات فهذه صورة تظهر فيها مع زوجها الذي قتل بالحرب وخلفيتهما جامع حلب الكبير المعروف بالجامع الأموي وصورة ثانية وهي بصحبة والدها وجدها وبعدما احتضنت الصورة بقوة، حدثت طارق عن أبيها المثقف، وجَدها الذي كان صديقا وفيا للشيخ عبد الله كُعيب إمام وخطيب جامع حلب الكبير هذا المسجد العتيق الذي كان يعانق جامع الأطروش ويناجي كنيسة السيدة مريم العذراء، ويهمس بأذن الكنيس اليهودي (حاخام موشى دباح) بحارة اليهود، وتستطرد ألحق جدي والدى بمدرسة رهبان، فأجاد الفرنسية بطلاقة كواحد من أهلها وأنا تعلمت في نفس المدرسة وأجيد الشعر بالفرنسية، أما العجب العجاب فقد أسند جدي تربية والدي لمربية يهودية حلبية، عاش الجميع معا جنبا إلي جنب كل بمعتقده وخصوصيته كل يؤدي صلاته حسب ديانته تجمعنا صلاة واحدة صلاة الإنسانية والتسامح والمحبة فاختلطت قصص الأنبياء والأولياء والصالحين بقصص القديسين والحاخامات وتزاوجت حكايات العذراء مع قصص عيسي وروايات محمد، مع أناشيد موسي عليهم جميعا السلام، في حلب تضافرت الديانات والرموز والحضارات والأعراق والأعياد، في نسيج واحد، ثم أخرجت صورة أخري وهي تبتاع حاجياتها من السوق المسقوف بحلب، وأخري في سوق العطارين والسقطية وخان الصابون حتي جعلت طارق وخالد يشمان رائحة توابل وبهارات حلب التاريخية بطرقها الملتوية الضيقة، وأسواقها المكشوفة التي تعد أطول أسواق العالم، أما الصورة التي توقفت أمامها مليا صورتها وهي تعزف علي العود (ببيت الدين) التاريخي الذي يقع في حي باب قنسرين على بعد أمتار من الجامع الأموي الكبير هذا المنزل الذي يعود تاريخه لأكثر من ستمائة عام ماضية ويعد أحد أشهر أبواب حلب القديمة بناه المماليك الذين حكموا حلب أيام الدولة المملوكية، وهي بصحبة  الموسيقى الفرنسي الشهير (جوليان فايس) الذي اعتنق الإسلام وغير اسمه ليصبح جوليان جلال الدين واشتري هذا المنزل ليسكن فيه فأصبح المنزل مكانا يلتقى فيه محبو حلب والموسيقى الصوفية من شتي بقاع العالم، وبمزيد من الفخر لمعت عيناها وهي تخبر طارق هل تعرف أن جوليان كان صديقي وقبيل وفاته دعوته لزيارة القاهرة وحضر بالفعل وجلس في نفس المكان الذي تجلس فيه ثم ضحكت وكأنها تذكرت شيئا وببراءة الأطفال تقول لطارق بعدما لمعت عيناها وكأنها تعرفه من سنين سأروي لك موقفا طريفا حدث من جوليان: أول مادخل حي السيدة زينب وقبل أن نصل لبيتي لابد أن نمر علي بيت السناري فوجدت جوليان يقف أمام البيت في خشوع وتضرع ويقراء الفاتحة فقلت له عفوا جوليان فهذه ليست مقابر فقال لي جوليان: أعلم ذلك وأعلم تاريخ هذا البيت جيدا فقد سكن فيه جدي الرسام الشهير (رينغو) أحد علماء الحملة الفرنسية فأنا أقرأ الفاتحة علي روحه الطاهرة قلت له يبدو أنك ورثت العبقرية الفنية من جدك (رينغو) فهيا ياحفيد (رينغو) العظيم حتي تشرف بيتي المتواضع” ثم أخرجت صورة أخري تجمعها مع الفنان السوري الشهير صباح فخري وهي خلفه في الكورال ثم أخذت تدندن له هذه الأغنية: “درب حلب ومشيتو، كلو سجر زيتوني، كلو سجر زيتوني، وحاج تبكي وتنوحي، بكرا منجي يا عيوني، باجر نجي ياعيون عيون عيوني”. ألا تعرفان هذه الأغنية؟

فهزا طارق وخالد رأسيهما بخجل للأسف لا ياسيدتي وبدهشة واستنكار أخبرتهما إنها أغنية (القدود الحلبية!) فسألها طارق وهو مستمتع بحديثها وما (القدود الحلبية؟) فأجابته وكأنها تستنشق رائحة الماضي مستحضرة زمن الفن السوري الجميل: هي خليط من الموشحات الأندلسية والأغاني الشعبية، تشبه لدينا في حلب نشيد (المارسيلييز) النشيد الوطني الفرنسي أصلها أندلسي ثم انتقلت إلى بلاد الشام ومنها إلي حلب التي عرف عن أهلها وسكانها منذ زمن بعيد أنهم يهتمون بالموسيقى والفنون، سميت (بالقدود الحلبية) نسبة إلى حلب التي اهتمت وتميزت بها، شدي بها عدد من المغنيين الحلبيين، كان أشهرهم وأبرعهم في غنائها صباح فخري، ومن غير فخري سفير الغناء السوري غني لحلب مثلما شدي لها فخري وصار صوتها وعنوانها ثم غنت لصباح فخري بصوت حزين مفعم بالأسي والحنين (يارايحين لحلب حبي معاكم راح، يا محملين العنب تحت العنب تفاح، كل مين وليفو معو وأنا وليفي راح، يارب نسمة هوا ترد الولف ليا).

أما الآن فقد كُتب على حلب أن تشهد علي ثورات الربيع العربي الذي أصبح بلون الدم القاتم ولم نجني منه غير الخراب والدمار والجثث التي تملاء الطرقات والحارات والمساجد والكنائس ولم يبق منها إلا أطلال وحطام وركام التاريخ والمذابح وحفنة من الملصقات التي خلفها المهاجرون مكتوب علي صدرها بمداد أسود بلون الموت ورائحة الجثث (سنعود قريبا يا حلب هكذا أخبرنا التاريخ).

لم يقطع حديث الأم إلا صوت ( ريما ) تطلب الإذن بالدخول لتقديم واجب الضيافة الذي كان مشروب( المتة ) المشروب السوري الشهير وخلفها أختها (ديما) تحمل (سرفيسا) به بعض (الحلوي الشامية) قام خالد بتعريف طارق (لريما وديما) وعلي غير عادة طارق وجد نفسه يتجه (لديما) ويسلم عليها بحرارة تشرفنا (يامزمازيل) فرصة سعيدة.

قد يهمك ايضاً:

أيها العابرون

عند وعدي

(ديما) بصوت خجل خافت باللكنة الحلبية التي تتميز عن باقي اللهجات السورية بالدلال / أنا أسعد يافندم.

 

نسي طارق أمر صاحبه وسبب الزيارة والمهمة التي وكله بها، فقد أصبح طارق في عالم آخر، مشغول بنداء قلبه الذي كاد يتحرر ويخرج من قفصه الصدري فنبضاته تزداد سرعة واضطراب وخفقان من فرط الجمال الحلبي الذي بهره واقتحم قلبه من أول نظرة التي كانت كسهم نافذ مصوب نحو قلبه فأردته صريعا علي الفور فمنذ هذه اللحظة تعلق قلب طارق (بديما) التي استحوذت علي قلبه وعقله فصوتها فقط كان يختصر الزمن والمسافات ونظرة عينيها كانت تختصر الحياة فتتلاشي أمامه الوجوه والوجود فلا يبصر سواها، أما قلبها فكان لهفته وفرحته وسعادته وحظه من الدنيا، بعدها تكررت الزيارات واللقاءات كانت (ديما) تعمل سكرتيرة بشركة سياحية كبري في وسط البلد، أعجبت بطارق وانجرفت هي الأخري لهواء طارق وبادلته نفس الشعور وأصبح لها وطنا، كانت تغازله علي طريقتها الخاصة فتقول له: سوريا ستنتصر وستطرد كل الجيوش التي استعمرتها لكن من المستحيل أن أطرد حبك الذي استعمر قلبي دون طلقة رصاص واحدة”.

ومن حين لآخر كان طارق يذهب لرؤيتها في (الأمريكين) ب7 شارع عماد الدين تقاطع شارع 26 يوليو في وسط البلد بعد انتهاء عملها وفي خضم نشوة طارق وإحساسه لأول مرة بأنه وجد ضالته وحلمه المنشود فأخيرا عثر علي فتاة أحلامه لم يمهله القدر للتلذذ والاستمتاع بهذا الحب ونشوته فدائما ما تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن.

 

في يوم إجازتها دعاها علي الغداء في المكان الذي تختاره في وسط البلد وقبل الموعد كان رابضا تحت بيتها في حي السيدة زينب، وعندما تأخرت عليه اتصل بها وأخبرها أنه ينتظرها في بيت السناري نزلت إليه وهي في قمة الأنوثة والشياكة تتدلل في مشيتها وتغتال بجمالها وقوامها الممشوق كالطاووس وماأن دخلت بيت السناري حتي سقطت مغشيا عليها وكأنها قد أصيبت بنوبة تشبة نوبة الصرع ولم تعد لطبيعتها إلا بعدما خرجت من محيط بيت السناري، فذهب بها إلي مستشفي الخليفة العام لكن أكد له الأطباء أنها لاتعاني من أي أمراض عضوية فعرضها علي عدة أطباء فشخصوا نفس التشخيص، اللافت أن نوبة الصرع هذه كانت تتكرر كلما مرت من أمام بيت السناري وعندما تغير وجهتها تظل علي طبيعتها حتي نصحه أحدهم بالذهاب لأحد المشايخ فيبدو أنها ممسوسة! وبالفعل ذهب لأحد المشايخ الكائنين بجوار مسجد الإمام الحسين فرقاها الرقية الشرعية، ثم أخذ سبع ورقات من السدر الأخضر ودقها بحجر ووضعها في إناء، ثم سكب الماء عليها بمقدار يكفي للغُسل، وأخذ يقراء آية الكرسي وسورة الكافرون والإخلاص والفلق والناس وآيات السحر الموجودة في سورة الأعراف ويونس وطه، وبعدما فرغ أكد أنها مسحورة بسحر أسود وعمل سفلي متقن وأن هذه الحالة فوق طاقته ونصحه بأن تبتعد عن البيت الذي تسقط أمامه فهو بيت الداء ومكمن سحرها!

 أشفق طارق علي محبوبته وتعاطف معها أكثر وقرر عدم التخلي عنها حتي تشفي من سحرها، لكن الطامة الكبري التي غيرت كل حساباته كانت في هذا اليوم العاصف الذي استخرج فيه شهادة وفاة لقلبه وهو علي قيد الحياة، عندما خرجا من كافيه (الأمريكين) وتصادف وقت أذان المغرب فوجد (ديما) قد اكهفر وجهها ومال إلي الحمرة الشديدة وهي تغمغم وتتمتم بهذه الكلمات عندما نطق المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وهي تردد بكل حواسها:  أقر كما أقر السيد (سلمان) حين أذن المؤذن في أذنه وهو يقول: شهدت أن لا إله إلا هو العلي المعبود، ولا حجاب إلا السيد (محمد) المحمود، ولا باب إلا السيد (سلمان الفارسي) ولا ملائكة إلا الملائكة الخمسة الأيتام الكرام، ولا رب إلا ربي شيخنا وهو شيخنا وسيدنا (الحسين حمدان الخصيبي) سفينة النجاة وعين الحياة، وعندما وصل حوقل المؤذن حي علي الصلاة، حي علي الفلاح، فقالت: حي على الصلاة حي على الفلاح تفلحون يامؤمنون، حي على خير العمل بعينه الأجل، الله أكبر والله أكبر، قد قامت الصلاة على أربابها وثبتت الحجة على أصحابها، الله مولاي يا (علي) أسألك أن تقيمها وتديمها ما دامت السموات والأرض، وتجعل السيد (محمد) خاتمها، والسيد (سلمان) زكاتها، و(المقداد) يمينها، و(أبا ذر) شمالها، نحمد الله بحمد الحامدين، ونشكر الله بشكر الشاكرين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، أسألك اللهم مولاي بحق قداس الأذان هذا، وبحق (متَّى وسمعان) والتواريخ والأعوام، بحق (يوسف) ابن من كان، بحق الأحد عشر كوكبا الذين رآهم (يوسف) بالمنام تحل في دياركم البركة بالتمام، يا مولاي يا (علي) يا عظيم”.

وما أن سمعها طارق تردد هذه الكلمات والدعوات حتي أسقط في يده وقامت قيامته وانعقد لسانه وتجمد بنيانه وضاع بيانه وأخيرا استجمع شجاعته بعدما خرج من صدمته وسألها هل أنتِ شيعية؟

فأجابته بكل شمم نعم شيعية علوية نُصيرية!

 

التعليقات مغلقة.