بقلم – خديجة أجانا ..المغرب:
سؤال بادرتني به مضيفتي في برنامج”حوار مع مثقف” على إحدى القنوات الوطنية. ظننته مزحة لخلق نوع من الارتياح، أو لتخفيف بعض التوتر الذي غالبا ما يصاحب البدايات. تمعنتها جيداً، كانت هادئة، تشي ملامحها بأنها جادة، و تنتظر جوابي. للحظة ارتبكت.. بلعت غيظي، مسدت براحتي مقدمة فروة رأسي الجدباء وصولا إلى ذيل الحصان الذي يلم الشعيرات القليلة الناجية من الاكتساح في مؤخرة رأسي، و همست لها: هل نحن على الهواء؟ اهتزت ضاحكة حتى برز لي طرفا سلك معدني في جانبي فكها الأعلى يثبتان طاقم الأسنان، التي بدت لي، قبل أن ينفتح الفم عن آخره، بيضاء لامعة، و جزءا من جمال صاحبتها… حين هدأت، أجابتني: اطمئن يا أستاذ، ما زلنا على الأرض.. بادرتها: ما رأيك أن تعيريني باروكتك؟ لم أكن أعرف أن شعرها مستعار، لكن الطاقم أوحى لي بذلك.. احمرت وجنتاها، تململت في مكانها، التفتت يمينا و يسارا، و بعصبية صاحت :” أستاذ.. أستاذ..” تجاهلت صياحها، و ببرودة أعصاب، سددت ضربة أخرى: رموشك تزحزحت عن موضعها.. بهتت.. رفعت يدها المرتجفة إلى عينها تتفقد الرموش الاصطناعية.. في حين كنت أفكر في الضربة الموالية، في تفكيك أجزاء دمية رديئة الصنع، أو تعريتها تماما.. و بكل ما أوتيت من وقاحة هجمت بشراسة: نهداك، ما شاء الله، طبيعيان.. أم محشوان بالسيليكون؟ انتفضت واقفة تصيح في فريق العمل: ستوب.. ستوب.. ستوب..
هههههه.. اللئيمة، كذبت علي، كانت تستدرجني لغير ما دعيت له. كيف لمثقف كبير مثلي أن يجابه بمثل هذا السؤال؟ كنت عدت حديثا من المهجر بنية الاستقرار، و كنت، هناك، أسمع عن التقدم الذي أحرزته الحركة الثقافية في وطني، و عن الدور الذي أصبح يضطلع به مثقفوه في تسيير شؤونه و تحرير عقول أبنائه.. و سمعت أيضا أن الناس أصبحوا يتنفسون ثقافة، و يقبلون على اقتناء الكتب إقبالهم على الخبز… قلت: كفاني اغترابا، لأعد إلى وطني و أسهم بدوري في صناعة المعجزات.. لم لا، و في جعبتي كنوز أشهر أدباء، و شعراء، و نقاد، و فلاسفة الغرب على الإطلاق؟
مزهوا، كنت أغادر البناية حيث القناة إياها، أسترجع الضجة الكبيرة التي احدثتها عودتي إلى الوطن، و كيف تهافتت محطات على تغطية الخبر، بدءا من المطار إلى الفندق الذي أنزل فيه، و كيف انهالت علي دعوات استضافة في برامج ثقافية… و ضحكت ساخرا، ربما من سذاجتي، أنا الجاهل لحيل التضليل و التلميع المتبعة في الإعلام.. أو ربما من غباء و تفاهة مضيفتي.. ههههه لولا بقية من أدب، كنت سأستفزها بالسؤال عن سر انتفاخ خدها الأيمن عن الأيسر، و أنصحها بمراجعة خبير التجميل لإعادة حقن البوتوكس و… و كنت نزلت إلى انتقاد مؤخرتها المنفوخة بشكل مثير للاشمئزاز، و للشفقة أكثر، على الأقل بالنسبة لي، أنا العليم بأسرار الخدع التجميلية، و العائد من موطن اختراعها و تصديرها… فكرت جادا في الاعتذار عن تلبية الدعوات إلى حين معرفة مدى جدية أصحابها، و عمق تجاربهم، و مصداقية برامجهم و وزنها في المشهد الثقافي.. و لن يتسنى لي ذلك إلا بالاحتكاك بالناس، بالمثقفين من وزني، بمتابعة الأحداث عن كثب، و بالإنصات إلى ما يروج في الأندية و الملتقيات و الشارع…
في غرفتي، ليلا، وجدتني أنكب على تدوين ما حدث بسخريتي اللاذعة.. لا أدري كيف تذكرت روايتي الأولى “الأصلع و الذباب”، التي كتبتها منذ أكثر من أربعة عقود. كنت حينها في غمرة الشباب و الحماس، أسرح سوالفي على كتفي.. أتصيد شخوصي من الطبقة فوق السحاب، أصحاب المال و النفوذ، و محتكري المناصب الحساسة.. أصب عليهم لعناتي، و لعنات الكادحين أمثالي… آه.. كيف لم أفطن؟ أنا الأصلع، و هي ذبابة من فصيلة الذباب الذي سلطته على شخصية الأصلع في روايتي، و جعلته يعاني و ينتهي إلى الجنون.. هل أكون مستهدفا مثله؟ لا، إن صدقت أن أحدهم يستطيع أن يحاكي روايتي، و يطبق فصولها على الواقع، و علي أنا بالذات، حتما سأكون مجنونا.. هل تكون قرأت روايتي، و أحبت أن تمازحني بسؤالها ذاك؟ أستبعد ذلك، هذا الجيل لا وقت له لقراءة الروايات، كل قراءاته فيسبوكية، بضعة أسطر هنا، و مثلها هناك… قلت لنفسي: قم يا كبير، خذ حماما ساخنا، و نم.. دعك من شطحاتك المتشككة، و لا تنس أنك عدت لتكون النجم الساطع و…
كنت أتناول وجبة فطوري في مقهى قيل لي أن معظم رواده كبار مثقفي البلد، و كنت بين الحين و الآخر ألقي نظرة سريعة على الوجوه علي أعرف أحدا، أو يتعرف علي أحد، و أعود متحسرا لأنشغل بالكلمات المسهمة و المتقاطعة في الجرائد، دون اهتمام بما فيها من أخبار و مواضيع.. حين انزلقت عيناي إلى جريدة الجالس أمامي، أثارني خبر بالخط العريض المضغوط: كاتب “الأصلع و الذباب”، ضيف برنامج “حوار مع مثقف” يتحرش بمضيفته…