بقلم – الطيّب جامعي – تونس:
في أحد الأطراف المترامية للمدينة، و في حيّ من الأحياء المعدمة يسكن ” عبودة” أو “الكحلة”، كما ذاعت شهرته بين الأحياء المنسيّة، سمرته تميل إلى السّواد، و لربما هذا سبب كنيته، و لا يجد في ذلك حرجا، ثلاثيني،مفتول العضلات، مطرود من الخدمة العسكرية لقلة انضباطه و سوء سلوكه. فكثيرا ما كان يعاقر الخمر جهرا. خرج إلى غمرات الحياة سكّيرا عربيدا، مغامراته الماجنة على كلّ لسان. يرهبه الجميع حتّى “عطاء الله”.
غير أنّه كان يدهشك بتقلباته، فكثيرا ما ساعد المحتاج أو نصر المظلوم و أخذ بحقّه في ظلّ غياب السّلطة وتغافلها عن مثل هذه الأحياء، ربّما لأنها تمثل وجع رأس دائم . فأوكلت تسييرها إلى شيخ الخفر “عطاء الله ” الذي مدّ نفوذه بطرق شرعيّة و غير شرعيّة، فقد استعان بالصّعاليك و المخمورين و حتّى بالعاهرات للتلصّص على أخبار الخارجين على القانون، و ما أكثرهم !
في إحدى ليالي الشّتاء الباردات سُمِع دقٌّ خفيفٌ على باب “عطاء الله”، سرعان ما تحوّل إلى طرق عنيف متتابع تنخلع له القلوب. لم يجد “عطاء الله” الوقت الكافي حتى ليغيّر ملابس النّوم، نطّ إليه من تحت غطاء دافئ وزوجة قد كحّل الكرى عينيها. وصل الباب بعد أن أخذ منه السّعال كلّ مأخذ. و ها هو يفتح الباب على عجل واضطراب لم يعرفه حتّى في أحلك ظروف مهنته.
اللّهمّ اجعله خيرا … عبودة !!؟… ما الخطب؟ و ما لهذا الطرق العنيف؟ و ما أتى بك في هذه الليلة الحالكة؟… أسئلة كثيرة لهج بها لسانه. لم يترك له المجال للإجابة، بل لم يستطع للحظات أن يسمع منه، فقد خارت قواه، و ألفينا ” عطاء الله” على الأرض في غيبوبة. يتداركه ” عبودة”، يمسح على وجهه، ثم يُخرج قارورة خمر كانت مخبّأة بين ثنايا ثيابه فيرشّه بها. تدور مقلتاه في محجريهما، ثم يبدأ في الإفاقة تدريجيّا.
يتخطّى “عبودة” العتبة بسرعة إلى الدّاخل. و يستدير إلى عطاء الله. يلجلج لسانه بكلام كثير، بقي راسخا في ذهنه أنّه سيبت اللّيلة عنده يحرسه. انتفض عطاء الله مستفسرا:
– و ممّن ستحرسني إن شاء الله؟ أ ولا تعلم أن بيتي محروس ببعض الأعوان؟
– سأعينهم. أعرف جميع اللّصوص و السرّاق. و قد علمت نية البعض بمداهمة المنزل الليلة.
– شكرا. و لمَ هذا العناء؟ سيقوم الأعوان بالواجب، تعرف أنّهم مسلحون.
غيرأنّ “عبودة” يصرّ على موقفه و يلحّ ، يريد أن يردّ بعض الجميل لشيخ الخفر. فيجد “عطاء الله” نفسه مجبرا على قبول العرض. بات “عبودة” عنده صاحيا. لم يغمض له جفن، و لم يغادر البيت إلا صباحا بعد ارتفاع الشمس و وضوح الرّؤية. لكن… لم يأت في تلك الليلة أحد.
في اللّيلتين اللّاحقتين ظلّ “عبودة” يكرّر المشهد نفسه متذرّعا برغبته في حمايته من اللّصوص: عطاء الله ينصح و يرشد و ” عبودة ” يلحّ على البقاء و يصرّ. يخيّل إليه أنّه سمع فعلا بعض الأصوات و الحشرجات التي تقترب من المنزل، فترتفع حنجرته بالحديث إلى بعض الأعوان و القهقهة القاتمة بمناسبة و بغير مناسبة.
تمرّ الأيّام فتهدأ العاصفة. و لم يعد للّصوص أثر، و لم يجد “عبودة” بُدّا من التخلّف و عدم القدوم ليلا. سقطت كلّ الذرائع. و أُسقِط في يديه.
لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم كيف حصل هذا؟… و متى؟… و من فعل ذلك؟ … و لماذا؟ … بالأمس القريب كان معنا و هالات البشر على محيّاه كعادته… صاح أحد ندمائه:” بل كان معنا إلى الهزيع الأخير من اللّيل، ثمّ غادر كلٌّ إلى مثواه.
أسئلة كثيرة كانت تدور على ألسنة المتحلّقين حول الجثّة وقد كساها الدّم و أخذ يسيل على الأرض مشكّلا بركا صغيرة هنا و هناك. صُرع “عبودة”.
ظلّت الأسئلة تدور على الألسن أيّاما، و النّاس في دهشة ولا يجدون تفسيرا مقنعا. و لعلّ “عطاء الله ” كان أكثرهم استغرابا وتعجّبا. فهو يعرف “عبودة” جيّدا و يعرف جسارته و بطشه و موقعه بين أبناء الحيّ، و لا سيّما الخارجين عن القانون، فهم يقرؤون له ألف حساب، و يتحاشون غضبه.
و أخيرا … أحد خواصّه ” جاد” يتكلّم و يدلي بما عنده. فيعود “عطاء الله” بذاكرته إلى تلك اللّيلة التي طرق فيها “عبودة” الباب ذلك الطرق العنيف، فيجد التّفسير. ” عبودة” لم يكن قادما ليحرسه كما ادّعى، و لا ليردّ الجميل، بل جاء هاربا، يملأ قلبَه الرّعبُ كعصفور في فخّ . نعم ذلك الجسور يخاف على نفسه، و لأولّ مرّة أحسّ بمرارة بالنهاية المفجعة قادمة بخطى ثابتة لا رجعة فيها.
في ذلك المساء المشؤوم سكر “عبودة” أكثر من اللّزوم، و طوّحت به نفسه إلى ارتكاب ما هو أعظم من السّكر. في أحد المنعطفات الخلفيّة يلمح فتاة، و تلعب الخمرة بعقله فتسوّل له نفسه أمرا. و لم يكن يحتاج إلى أكثر من بعض لحظات ليتمّ الأمر تحت جنح الظّلام، ثمّ يغادر المكان و كأن شيئا لم يقع.
ولكن حظه العاثر قاده إلى العنوان الخطإ في اللّحظة الخاطئة: إنّها أخت أحد أخطر الصّعاليك. تفطّن إلى ذلك عندما ذهبت غمامة السّكر، و جاءه ” جاد” يعلمه بنيّة أخيها في الانتقام.
أدار عطاء الله المفتاح في قفل الباب. دلف إلى غرفته يريد النّوم و لسان حاله يردّد: “ربّنا يستر و يحسن الخاتمة”.