بقلم الأستاذ الدكتور – هشام فخر الدين:
لا يخفى عليك عزيزى القارئ أن الحروب والنزاعات المسلحة، تشكل أحد أكثر السياقات التي تكشف عن هشاشة القيم الإنسانية، وازدواجية المعايير في تطبيق القانون الدولي. ومن أبرز الأمثلة المعاصرة لذلك، ما يتعرض له قطاع غزة من عمليات عسكرية إسرائيلية متكررة، يصاحبها سقوط أعداد هائلة من الضحايا المدنيين، ودمار للبنية التحتية، وانتهاكات صارخة لمبادئ حقوق الإنسان. هذا الوضع يثير جدلاً سياسيًا وأخلاقياً وقانونياً، ويتطلب كذلك مقاربة نفسية لفهم ديناميات العنف، والآثار النفسية العميقة على كل من الضحايا والمجتمع الإسرائيلي ذاته.
فمنذ عقود يعيش قطاع غزة تحت حصار خانق وحروب متكررة، إلا أن المشهد الراهن يكشف عن مستوى غير مسبوق من العنف، والانتهاكات لحقوق الإنسان. حيث يواصل الاحتلال الإسرائيلي استهداف المدنيين العزل بالقتل والإبادة والتهجير القسرى والتجويع، بينما يبرر أفعاله بذريعة زائفة عارية عن الحقيقة متمثلة فى “الأمن والدفاع عن النفس”. والأخطر أن هذه الممارسات تحظى بدعم سياسي وعسكري من الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية، وهو ما يعكس سياسة الكيل بمكيالين التي تهدم ثقة الشعوب في النظام الدولي والقانون الإنساني.
ومن الناحية القانونية تندرج الهجمات والبلطجة والإبادة الإسرائيلية في غزة تحت طائلة القانون الدولي الإنساني الذي ينص على حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة. فاتفاقيات جنيف الرابعة (1949) تؤكد على تحريم استهداف المدنيين وتدمير الممتلكات المدنية إلا للضرورة العسكرية القصوى. غير أن الممارسات الميدانية تشير إلى قصف المدارس والمستشفيات ومخيمات اللاجئين، وهو ما يتعارض مع تلك النصوص القانونية.
فمن الناحية السياسة نجد المحتل يقدم ويذيع مبرراته الزائفة الأمنية بضرورة “حماية الذات” ومواجهة التنظيمات المسلحة، إلا أن حجم القوة المستخدمة والنتائج المترتبة تتجاوز بكثير مبدأ التناسب، مما يجعل هذه العمليات أقرب إلى العقاب الجماعي منه إلى الدفاع المشروع.
وتعكس الأرقام المأساة بجلاء فآلاف القتلى والجرحى معظمهم من النساء والأطفال، ومئات الآلاف من النازحين، وانهيار شبه كامل للخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وصحة. هذه المعطيات تؤكد أن المدنيين هم المتضرر الأكبر من النزاع. وهنا تظهر إشكالية حقوق الإنسان، حيث تتحول القوانين إلى نصوص معطلة أمام قوة السلاح والدعم السياسي الدولي الذي تحصل عليه إسرائيل من بعض القوى الكبرى. كما أن حرمان السكان من الغذاء والدواء والحصار المستمر يمثل شكلاً آخر من العقاب الجماعي، وهو ما يتعارض مع حق الإنسان في الحياة الكريمة والكرامة الإنسانية التي نصت عليها المواثيق الدولية.
وتتمثل أبشع جرائم الاحتلال الإسرائيلي فى المجازر اليومية في غزة لا يمكن وصفها إلا بأنها جرائم حرب مكتملة الأركان. من قصف للمستشفيات والمدارس ومخيمات اللاجئين، وتدمير البنية التحتية، وحرمان السكان من الغذاء والدواء والماء والكهرباء، وكلها شواهد على سياسة العقاب الجماعي. حيث يحظر القانون الدولي استهداف المدنيين، إلا أن الاحتلال يتعمد تحويل غزة إلى “منطقة منكوبة” في انتهاك صارخ لكل المواثيق للضغط على دول الجوار بقبول الأمر الواقع وتقبل سياسة التهجير القسرى وإخلاء غزة لتصبح مستوطنة اسرائيلية خالصة ولكنه حالم لا يعلم مدى صلابة المواطن الفلسطينى صاحب الأرض والحق.
وتقدم عصابة الاحتلال إسرائيل للعالم رواية زائفة متكررة بأنها تدافع عن نفسها، غير أن أرقام الضحايا التي يشكل الأطفال والنساء غالبيتهم، تكشف أن الهدف الحقيقي هو كسر المجتمع الفلسطيني وإرغامه على الاستسلام. وهذه ليست مواجهة عسكرية متكافئة، بل عملية إبادة بطيئة لشعب أعزل على مرآى ومسمع من دول العالم بما فى ذلك الدول العربية.
وهنا تظهر ازدواجية المعايير الأمريكية والغربية، الأمر الذى يضاعف المأساة ليس فقط جرائم الاحتلال، بل الصمت الدولي المتواطئ. فالولايات المتحدة التي ترفع شعار الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في أوكرانيا وأماكن أخرى، تمنح إسرائيل غطاءً سياسياً ودعماً عسكرياً واقتصادياً هائلاً. ويرسل هذا الدعم رسالة واضحة مفادها أن حقوق الإنسان نسبية، تُحترم في أماكن وتُدفن في غزة.
وتقف الدول الأوروبية التي كثيراً ما تُدين انتهاكات مشابهة في مناطق أخرى، عاجزة أو مترددة أمام جرائم إسرائيل. وهذه الازدواجية لا تقتل فقط الفلسطينيين، بل تقتل أيضاً مصداقية المنظومة الدولية بأكملها، وتفتح الباب لتبرير العنف والتطرف حول العالم.
ومن الناحية النفسية، تُظهر سياسات الاحتلال زعماً زائفاً بما يُعرف بـ “نزع الإنسانية”، حيث يُصوَّر الفلسطينيون الذين هم أصحاب الأرض والشعب الأعزل، والذى لو تسلح بأسلحة خفيفة لأباد اسرائيل المحتلة عن بكرة أبيها وأنهى قصة خنازير صهيون، حيث يصور المحتل الشعب الفلسطينى كتهديد وجودي، فيُبرر استهدافهم بلا شعور بالذنب. في المقابل يعيش سكان غزة صدمة مركّبة من خوف يومي، فقدان الأحبة، عبر القتل والإبادة الجماعية وغياب أبسط مقومات الحياة. فالأطفال على وجه الخصوص يعانون من آثار مدمرة على شخصياتهم ومستقبلهم، مما ينذر بأجيال مثقلة بالندوب النفسية فى ظل صمت ودعم دولى للمحتل الصهيونى للضغط لتنفيذ التهجير القسرى، والقضاء على القضية الفلسطينية تماماً. وهذا العنف المستمر لا يضر الفلسطينيين فقط، بل يرسخ في الوعي العالمي شعوراً بانهيار العدالة، ويولّد فقداناً متزايداً للثقة في القانون الدولي.
فـــــــــــ غزة اليوم ليست مجرد ساحة حرب، بل مرآة تكشف زيف شعارات الغرب وأمريكا عن الحرية وحقوق الإنسان. حيث يمارس الاحتلال الإسرائيلي أبشع الجرائم الممنهجة ضد المدنيين، والولايات المتحدة وحلفاؤها يبررون ويدعمون. أمام هذه المأساة يصبح الصمت الدولي جريمة إضافية. حيث إن إعادة الاعتبار للقانون الدولي والكرامة الإنسانية، لن تتم إلا عبر مساءلة الاحتلال، وكسر سياسة الكيل بمكيالين التي جعلت من دماء الفلسطينيين أقل قيمة في نظر النظام العالمي. وإلا فإن العالم بأسره سيدفع ثمن انهيار منظومة العدالة، ليس في غزة فقط، بل في كل مكان.