مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

عندما لا تطير الفراشات ” قصّة قصيرة “

بقلم –  محمد المسلاتي – ليبيا
دخلتُ إلى المحل ، طالعتني مقتنيات ثمينة ، المعرض مكدّس بالأشياء المختلفة ، أنا لست من هواة المزادات، لكن اللافتة الإعلانية المعلقة وسط الشارع جذبتني للدخول ، تجولتُ ببصري أتأمل الموجودات مذهولًا ، حيوانات محنّطة ، أواني فضيّة ، وفخارية قديمة ، شمعدانات نحاسية، ملابس عتيقة، عسكرية ، مدنية، قبعات، جلود ، فراء ، قطع أثاث غريبة ،أوسمة، يبدو أنها كانت لملوك ، و أمراء، وحكام ، وأثرياء ، ومشاهير رحلوا، واختفوا من الدنياولم يتبق منهم سوى هذه المقتنيات المتنقلة من مزادٍ إلى آخر مثل غنائم سبايا لنساء جميلات معروضة للبيع في زمن غير زمانها ، ركّزتُ نظري، أحدق في اللوحات الفنية المتناثرة على الجدران ، لاحظ صاحب المعرض ذلك. ، اقترب مني مبتسمًا، فاركًا يديه ، قال :-
– هذه اللوحات تحف فنية نادرة!
– إنها رائعة .
أضاف وهويشير إلى لوحة كبيرة المقاس في الركن :-
– تعال، انظر إلى هذه اللوحة ، كم هي مميزة !
اتجهتُ نحوها ، حسبتها في البداية لوحة تشكيلية لأحد الفنانين مزج فيها ألوانه بإبداع عالي المستوى . لكن ما إن اقتربت منها، حتى فوجئت بمئات الفراشات ، زاهية الألوان ، محنّطة فاردة أجنحتها كفتيات عذارى صلّبن وهن يتوسدن أذرعهن الغضة، ثمة فراشات معلقة بأجنحة فرادية، خمنتُ ربما فقدت أجنحتها الأخرى عند مقاومة شباك صائديها، بالرغم من ذلك احتفظوا بها ، سرت في بدني قشعريرة الموت ، شممتُ رائحة خلطة تحنيط نتنة ، متسربة منذ عصور الفراعنة ، غابت عني كلُّ ألوان الأجنحة ، اللون الأحمر وحده يضبب بصري. ، كأن للفراشات المحنّطة نزفًا يسيل هذه اللحظة ، أو أنها وُئدت للتو! أشحتُ بوجهي بعيدًا عن اللوحة ، أكره الموت ، أمقتُ أن يخُمد وهج الحياة، حتى لو كان من أجل لوحات فنية، أو. لتقديمها قرابين بأي شكل من الأشكال ، التحنيط خدعة ساذجة بوهم الخلود، وأحيانًا يكون لُعبة لتأطير الجمال وحجزه في براويز محددة ، حتى الحيوانات المفترسة أيضًا، يزعجني تحنيطها ، أستهجن هواية الذين يقتنون الحيوانات ، والطيور المحنطة، .
واصل صاحب المعرض حديثه :-
– هذه اللوحة ثمنها أكثر من عشرين ألف دولار أمريكي، أنظر ، إنها تضم ما يزيد عن ألف فراشة ، أُصطيدت بأيدي مجموعة من أمهر صائدي الفراشات ، منتقاة بعناية من بساتين ، وحقول، وحدائق، وغابات متفرقة بمدن العالم ! وقام بتحنيطها ، وتشكيلها فنانون مهرة، إنها تحفة فريدة من الفراشات الحقيقية الملوَنة.
اختناق يكتم صدري، موت بطيء يعتريني ، مشيتُ جارًا نفسي بصعوبة إلى الخارج ،وأنا أتمتم :-
– ليست كما تقول ياسيدي .
قاطعني مستغربًا، وهو يسير بجانبي :- –
-أتقصد أنها مزيّفة ، صناعية، أقسم لك أنها فراشات حقيقيّة محنّطة، فراشات مئة بالمئة ؟
قلت بمرارة :-
– حتى وإن بدت في موتها لوحات فنيّة جميلة لكنها لم تعد فراشات ، فهي لا تطير . لا تطير .
تركتُ المعرض ورائي ، خطوتُ نحو الشارع الرئيس ، تنفستُ رائحة الحياة بضجيجها الصاخب.

اترك رد