عدالة الإسلام.. مقال للأستاذ عبد الرحمن علي البنفلاح
عدالة الإسلام
بقلم/ عبد الرحمن علي البنفلاح
قال تعالى: «من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» (الإسراء: 15).
هذا البيان المعجز والصريح يشير بوضوح إلى حرية العقيدة، وأنه لا إكراه في الدين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وأن الإنسان لن يحاسب إلا بعد أن يبلغه البيان، وهذا يقتضي أنه لن يصدر في حقه حكم، ولن تنزل به عقوبة حتى يعطى كامل الحرية مع العلم، هذا ما أكدته الآية الجليلة التي صَدَّرنا بها حديثنا، فلكل أمة نذير، ولكل أمة رسول يقدم بين يديه الحجج والبراهين على صدق دعواه، وأنه رسول من رب العالمين يحمل إلى الناس الشريعة والمنهاج.. الشريعة وهي القوانين الضابطة لحركة الإنسان في هذه الحياة، والمنهاج الذي هو أسلوب العمل وخطته، وصدق الله العظيم: «وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا» (المائدة: 48).
وهذا المنهاج وتلك الشرعة جاءا في كتاب ينطق بالحق، وهو مصدق لما بين يديه من الكتاب لجوانب الحق فيها، ومهيمن على ما حرف منها.
لقد حرم الحق سبحانه وتعالى الظلم على نفسه، وجعله بين الناس محرما، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل جلاله أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا..) رواه مسلم عن أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه.
إنه إعلان صريح، وبيان واضح، وعهد وثيق، ومن أوفى بعهده من الله تعالى، وهو تحريم مغلظ للظلم وما يمت إليه بسبب، فإن الظالمين- كما تكرر كثيراً في القرآن- لهم عذاب شديد، ولهم عذاب غليظ، وأليم، قال سبحانه وتعالى: «إن الظالمين لهم عذاب أليم» (إبراهيم: 22)، وقال سبحانه: «نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ» (لقمان: 24)، وقال جل جلاله: «فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين» (آل عمران: 56).
وهذا يعني أن الحق سبحانه وتعالى لن ينزل بعباده العاصين هذه العقوبات إلا بعد أن تبلغهم الحجة، ويبعث فيهم من يدلهم على الصراط المستقيم، والقرآن العظيم يزخر بالآيات والنذر حول هذه القضية المهمة، يقول سبحانه وتعالى: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنَّا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا» (الكهف: 29).
إنها حرية كاملة، وبيان واضح وصريح، ولم يبق إلا تحديد المواقف، وإعلان الإرادات، فللإنسان بعد العلم والبيان الحرية في أن يؤمن أو أن يكفر، وليكن الإنسان على ثقة تامة بأنه لن يحاسب ولن يجازى أو يعاقب إلا على فعل كان يستطيع أن يفعله ولم يفعله، أو على معصية كان يستطيع أن يمتنع عنها فلم يفعل، وذلك لأن الله تعالى ليس بظلَّام للعبيد، وأنه سبحانه رغم علمه بما يجترحه عبده من معاصٍ، بل حتى ما ينتوي عمله من هذه المعاصي، إلا أنه سبحانه لعدله المطلق، وللعهد الذي أخذه على نفسه بتحريم الظلم على نفسه، فإنه لا يحكم بعلمه بل بالدليل والبرهان، وهذا من مقتضى العدل الإلهي الذي قامت عليه السماوات والأرض، وصلح عليه أمر الوجود كله. ولقد جاءنا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما يؤكد هذا حين رتب المحاسبة والمجازاة على العلم، فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع بجواره وهو يعلم به). الألباني/ السلسلة الصحيحة/ الحديث صحيح.
الرسول (صلى الله عليه وسلم) حذر أشد التحذير من أن يبيت المسلم شبعان وجاره جائع بجواره، وربط المسؤولية في الجزاء والعقاب بالعلم، فمتى ما وصل إلى المسلم العلم بأحوال جاره وحاجته إلى العون والمساعدة وأهمل القيام بهذا الحق فإنه سوف يحاسب على ذلك، وفي هذا إشارة واضحة الدلالة على ما ينبغي على المسلم من حقوق لجاره، ومن هذه الحقوق أن يتفقد أحواله، حتى إذا علم حاجته سارع إلى نجدته، وهذا من عدل الإسلام، بل من فضله وعظيم كرمه.