في عالم المسرح المصري، هناك أسماء حفرت مكانها في تاريخ الفن، ليس فقط من خلال الأداء، ولكن من خلال الإصرار على تقديم محتوى هادف، راقٍ، ومختلف. ومن بين هؤلاء، يبرز اسم محمد صبحي، الرجل الذي جعل من المسرح قضيته الأولى، وسخر حياته للدفاع عنه وتطويره، حتى أصبح أحد أهم رموز المسرح المصري والعربي.
لكن ما يجعل محمد صبحي مميزًا ليس فقط أعماله المسرحية والدرامية، بل تجربة مسرح سنبل، ذلك المشروع الحُلم الذي عكس إصرار فنان على خلق مساحة إبداعية مستقلة، بعيدًا عن ضغوط الإنتاج التجاري، ليقدم أعمالًا تحمل رسالة، وتحافظ على القيم الفنية الحقيقية.
بداية الحلم.. لماذا مسرح سنبل؟
منذ بداياته، أدرك محمد صبحي أن المسرح في مصر يمر بتحديات صعبة، من تراجع الدعم الحكومي، إلى هيمنة المسرح التجاري، الذي ركّز على الكوميديا السطحية والاعتماد على النكات والإفيهات دون مضمون.
وفي ظل هذا الواقع، قرر أن يسلك طريقًا مختلفًا، وأن يُنشئ مساحة فنية مستقلة، بعيدة عن تحكم المنتجين وشروط السوق، ليكون مسرحه الخاص مكانًا لتقديم أعمال تحمل فكرًا، ورسالة، وتخاطب عقل المشاهد.
وهكذا، وُلدت فكرة مسرح مدينة سنبل للفنون والثقافة، ذلك المشروع الطموح الذي أصبح مع الوقت رمزًا للاستقلال الفني والتمسك بالقيم المسرحية الحقيقية.
ما هو مسرح سنبل؟
يقع مسرح سنبل على طريق القاهرة – الإسكندرية الصحراوي، بعيدًا عن قلب العاصمة المزدحم، في مكان أشبه بالمدينة الثقافية المتكاملة، حيث يتكون المشروع من:
مسرح حديث مجهز بأحدث التقنيات
أماكن لتدريب الممثلين والهواة
مساحات خضراء توفر بيئة إبداعية مميزة
أماكن إقامة للفنانين والمتدربين
المسرح لم يكن مجرد قاعة عروض، بل كان مشروعًا ثقافيًا متكاملًا يهدف إلى دعم المواهب الشابة، وتقديم أعمال راقية بعيدًا عن الضغوط التجارية.
التحديات والصعوبات.. رحلة لم تكن سهلة
مثل أي مشروع فني مستقل، واجه مسرح سنبل العديد من التحديات، أبرزها:
العزلة الجغرافية:
اختيار موقع بعيد عن القاهرة جعل البعض يعتقد أن الجمهور لن يتحمل عناء السفر لحضور العروض.
لكن محمد صبحي أصر على أن يكون المكان واحة فنية بعيدًا عن الضوضاء والتأثيرات التجارية.
الأزمات المالية:
كأي مشروع مستقل، احتاج المسرح إلى تمويل ضخم، ومع غياب الدعم الحكومي، كان على محمد صبحي أن يتحمل التكاليف بنفسه.
أحيانًا كان يضطر إلى تمويل المسرح من أرباح أعماله التلفزيونية.
مواجهة المسرح التجاري:
بينما كانت المسارح الأخرى تقدم عروضًا تركز على الكوميديا الخفيفة، كان مسرح سنبل يقدم أعمالًا فكرية، مما جعله يواجه صعوبة في جذب الجمهور العريض.
مشكلة التوزيع الإعلامي:
لم يحصل المسرح على نفس التغطية الإعلامية التي تحصل عليها العروض التجارية، بسبب تركيز وسائل الإعلام على المحتوى السهل والمربح.
أعمال خالدة قُدمت على مسرح سنبل
رغم التحديات، استطاع مسرح سنبل أن يكون منصة لأعمال مسرحية مميزة، أبرزها:
“وجهة نظر” (1989):
واحدة من أبرز مسرحيات محمد صبحي، حيث ناقشت بشكل جريء قضايا المجتمع، والسلطة، والفساد.
كانت المسرحية تجربة جديدة في المسرح المصري، حيث تم تقديمها برؤية إخراجية مختلفة تمامًا عن السائد.
“ماما أمريكا” (1998):
مسرحية سياسية ساخرة، تناولت علاقة الدول العربية بالولايات المتحدة بشكل كوميدي وذكي.
أثارت جدلًا واسعًا عند عرضها، وأكدت أن محمد صبحي لم يكن يخشى مناقشة القضايا السياسية الحساسة.
“خيبتنا” (2018):
بعد غياب طويل، عاد صبحي بمسرحية “خيبتنا”، التي ناقشت الأوضاع السياسية والاجتماعية في العالم العربي بعد الثورات.
كانت المسرحية بمثابة بيان فني قوي ضد التراجع الثقافي والسياسي في المنطقة.
تأثير مسرح سنبل على المسرح المصري
رغم أن المسرح التجاري ظل مسيطرًا على المشهد، إلا أن مسرح سنبل كان بمثابة نقطة ضوء أكدت أن المسرح الجاد لا يزال له جمهوره، إذا تم تقديمه بالشكل المناسب.
إعادة تقديم المسرح كأداة للتوعية وليس فقط للترفيه.
تشجيع الشباب على الانخراط في المسرح الجاد بعيدًا عن الإفيهات والابتذال.
إثبات أن المسرح المستقل يمكنه البقاء رغم قلة الدعم.
هل يستمر حلم مسرح سنبل؟
بعد عقود من العمل، أصبح مسرح سنبل جزءًا من تاريخ المسرح المصري، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يستمر الحلم؟
محمد صبحي قدم للمسرح المصري تجربة فريدة، لكنه لا يستطيع أن يحمل هذا العبء وحده إلى الأبد. المسرح يحتاج إلى دعم مستمر، وإيمان من الدولة والجمهور بأهمية الفن الجاد.
إذا أردنا أن نرى مسرحًا حقيقيًا في مصر، فإن الحل ليس فقط في دعم مسرح سنبل، بل في خلق المزيد من التجارب المشابهة، حتى يكون هناك حراك مسرحي حقيقي يعكس القضايا الجوهرية للمجتمع.
مسرح سنبل ليس مجرد خشبة عرض، إنه رسالة بأن الفن يمكنه أن يكون أداة للتغيير، وليس فقط وسيلة للضحك والتسلية. فهل نرى مزيدًا من التجارب المستقلة في المستقبل، أم أن المسرح الجاد سيظل مجرد استثناء في بحر من الكوميديا التجارية؟