عبد الرحمن البنفلاح: بالتسامح تكتمل الصورة الإنسانية التي أرادها الله للمسلم
سماحة الإسلام
بقلم/ عبد الرحمن علي البنفلاح
من سماحة الإسلام وفضله على العالمين قوله تعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين» (الممتحنة/8)، وهذا فيما ينبغي لنا تجاه الأمم المسالمة لنا التي لم تقاتلنا ولم تخرجنا من ديارنا، ولم تشارك أعداءنا في قتالنا وإخراجنا من ديارنا، وهذه الأمم المسالمة لنا نحن مأمورون أن نبذل لهم البر والقسط، وإذا حدث خلاف بيننا وبينهم في مسألة من المسائل، أو قضية من القضايا، فإن الإسلام من تسامحه مع الآخر وعفوه عنه لم يترك عواطفنا ومشاعرنا الشخصية تتحكم في سلوكنا أو تؤثر في تعاملنا معهم، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» (المائدة/8)، ورسم لنا حدوداً للخلاف ينبغي لنا عدم تجاوزها، ودلنا على ما ينبغي لنا تجاه المخالف لنا من هذه الأمم حتى تظل العلاقات معهم مستمرة، وتبادل المصالح قائمة، وبَيَّن لنا الأسلوب الأمثل لحل النزاع الذي قد يحدث بيننا وبين هذه الأمم المسالمة، قال تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين» (النحل/125).
ودعا الإسلام إلى حوار الحضارات أو الأديان، وألزم أتباعه تخير أحسن الأساليب في حوارهم مع الآخر المخالف لهم، قال سبحانه وتعالى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون» ( آل عمران/64).
هل هناك تسامح ورفق في الحوار وفي التعامل مثل هذا؟ بل لقد بلغ الإسلام المثل الأعلى وهو يربي أتباعه على اللين في مخاطبة الطغاة الذين بلغوا القمة في الطغيان والاستبداد، فها هو الحق سبحانه وتعالى يقص على رسوله محمد (صلى الله عليه سلم) ما حدث بين نبي الله موسى ونبي الله هارون (عليهما السلام) مع فرعون ليأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته العبرة والعظة من ذلك، يقول سبحانه وتعالى مخاطباً موسى وهارون (عليهما الصلاة والسلام): «اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى» (44) (طه)، ومعلوم أن كل كلام ليّن حسن، وليس كل كلام حسن لينا، والكلام اللين يناسب حال هذا الطاغية، فقد يكسر اللين من حدة طغيانه فلا يتمادى في الطغيان.
ومن تسامح الإسلام مع المخالفين له أن يكون مأوى آمنا لمن هم ليسوا على دينه، فيحسن إليهم، ثم يطعمهم ويسقيهم ثم يبلغهم مأمنهم، قال تعالى: «وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون». (التوبة/6).
ولقد بالغ الإسلام في تسامحه حين أنعم برعايته وفضله على من وقعوا في الأسر حين تضع الحرب أوزارها، وهذا على خلاف ما تفعله الأمم الأخرى التي تنتقم من الأسرى شر انتقام، ومثال على ذلك ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية في سجن جوانتنامو وأبي غريب من تعذيب وهتك للأعراض!!، يقول سبحانه وتعالى: «ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا (8) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا(9)» الإنسان.
والسؤال : هل المسلم زاهد في الجزاء والشكر، وهو الأحوج إليهما في مقابل ما يعطي وينفق؟! إنه ليس كذلك، ولكنه يطمح الى ما هو أعظم من شكر المسكين واليتيم والأسير وجزائهم. المهم أن يكون عمله خالصاً لوجه الله تعالى، ودونما رياء أو سمعة أو نفاق، أو حتى انتظار للجزاء والشكر ممن لا يملكهما.
بكل هذا التسامح تكتمل الصورة الإنسانية للمسلم التي أرادها الله تعالى له، وحدد بها سماته وشخصيته، وصار يعرف بها، بل ويسمو بها على أقرانه ممن قصرت هممهم، وتثاقلت خطواتهم على طريق البذل والعطاء، وصاروا غير مؤهلين للمشاركة في المسابقة الإيمانية التي نظمها الإسلام لأتباعه ورصد لها الجوائز العظيمة التي لم ترصد لأية مسابقة من قبل، قال تعالى: «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين (133) الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (134)». (آل عمران).
هذه المسابقة أهم شرط فيها هو التسامح الذي يبذله المشترك لمن تسبب في إثارة غيظه وغضبه، وأن يعلو على مشاعره، فيعفو عمن ظلمه وأثار غيظه، ولا يكفي هذا، بل عليه أن يسارع إلى الإحسان إليه، وهذه قمة التسامح وإنكار الذات، وتحمل ما يتطلبه كل ذلك من جهد ومجاهدة للنفس والهوى والشيطان.