مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

‘عاشقا القبر ”

كلمات- همسات المطر :
“همسة” اختصار لأسم جدتي همسات التي قضيت معها أيام طفولتي، وكان لجدتي ابنتين أمي وخالتي وولد وحيد، خالي احمد، بيت خالي يجاور بيت جدتي ، خالي كان رجل طيبا، وجه مضئ ببسمة حانية ودودة تطمئن كل من ينظر إليهن كما أنه ممن يبرون أهلهم، ويعرف فضل هذا البر، لذا كنت أراه دائما طائعا لأمه، لا أتذكر أنه قدي عصى لها أمرا حتى وإن كان فوق طاقته، ودائما ما كان يقبل رأسها ويديها سواء وهو داخلا للبيت أو خارجا منه، وقد تعلمت منه الكثير من طيب الخصال، وورثت عنه تقبيل يديها ورأسها, وكان بر خالي بأمه يجعل زوجته تستشيط غضبا، فلم تكن تطيق أحد من أهله ولا تطيق أن يذهب إلى أمه أو لإخوته, رغم أنهم لم يسيئوا إليها يوما ما، بل كانوا يتحملون منها رذائل كثيرة إرضاء لخالي، الذي كان حين يعود من السفر – وكان دائم السفر- لا يذهب الي بيته، بل كان يتجه من فوره الي جدتي ليطمأن عليها ويطمئنها بوصوله ويحصل على قدر وافر من القبلات وضمة حانية ودعوات صافية ثم يضع بين يديها من الخيرات التي جلبها معه, وهذا كان يصيب زوجته بالضيق متناسية تماما أن من أنجبته هي تلك المرأة صاحبة الفضل عليها لأنها هي من قدمته هدية اليها.
خالتي كانت تقيم في نفس البلدة، وتأتي لزيارة جدتي كل يوم، كي تصنع لها الخبز وتغسل لها ملابسها وتقضي لها كافة احتياجاتها وأمي كانت تفعل ذلك أيضا كلما تيسرت لها الظروف لأنها متزوجة في قرية أخرى، وكنت أتعلم منهما، وأقوم أنا أيضا برعايتها وألبي طلباتها وأعتبرتها طفلتي المدللة ونسيت أني أنا الطفلة, كنت أمشط لها شعرها ثم أصنع لها الضفائر وألعب معها , وتمر بنا الأيام سريعا، وكلانا قد كبر، فصارت هي عجوز وصرت أنا شابة، وتمت خطبتي لشاب نال موافقة الجميع بما فيهم جدتي، وسرعان ما تزوجت بعد شهور قليلة، لكني أبدا لم أنس جدتي “همسات” فكنت أزورها بشكل دائم لأنهل من حبها وحنانها وأهتم بشئونها، وسارت الأمور هكذا إلى أن جاءني أخي أحمد ليلقي على رأسي بالخبر الصاعقة، ماتت جدتك، قالها باكيا، لا أعرف كيف ذهبت إلى بيت جدتي، لم أدر بنفسي إلا وأنا في غرفتها وأرفع الغطاء عن وجهها، توقفت عن البكاء وتملكتني الدهشة حين رأيت وجهها الطيب وقد زانه نورا كأنه نور الشمس وبسمة ارتسمت على شفتيها وضحكة ملأت عينيها، تيقنت حينها أن هذا الضياء هو عمل جدتي الصالح فقد كانت تحسن عشرة الجميع وتعطف على المساكين وكانت عابدة، تقوم الليل وهي المرأة العجوز وتصلي الفجر في وقته ولا تفوتها صلاة الضحى وتحافظ علي أداء باقي الصلوات في وقتها, مسحت دموعي التي انهمرت على وجه جدتي وقبلت جبينها واحتضنتها، وأنا أردد كل نفس ذائقة الموت.

قد يهمك ايضاً:

أكرم حسني يستعد لمسلسل “الكابتن” لرمضان 2025

بمشاركة منعم سليماني.. عادل شهير يطرح…

ودفنت جدتي في البلدة التي تزوجت أنا فيها فكنت أزورها كل يوم وأحسست أن طفلتي المدللة التي باعدتني الاقدار عنها قد عادت الي مجددا، فكنت أذهب الي قبرها يومي الأثنين والخميس من كل أسبوع، فهذان اليومان هما موعد زيارة القبور، حتي عشقت القبر التي كانت تسكنه، وكنت في كل مرة أري طفلا في الثامنة من عمره تقريبا يجلس وحيدا أمام قبر على مقربة من قبر جدتي ، وكم هممت أن أذهب أليه وأتحدث معه، لولا وجود بعض الزائرين بالقرب منه، لكن في زيارتي الأخيرة كان الشارع هادئا، وحين اقتربت من قبر جدتي فوجئت به نائما وهو يحتضن القبر الذي كان يجلس أمامه، فلم أستطع حبس دموعي التي انهمرت بغزارة لرؤيته هكذا ولم أتمالك نفسي وهرولت نحوه مباشرة، وانحنيت بهدوء وربتت على كتفه برفق، ففتح عينيه التي كانت تشبه بئرا امتلأ بالحزن ونظر إلي بوجه ينطق بالألم، ابتسمت ابتسامة خفيفة لأبثه الطمأنينة
وسألته عن أسمه
فأجابني: أسمي خالد
فقلت له: يا خالد ما الذي أتي بك الي هنا وحدك، ومالي اراك لهذا القبر عاشقا؟ أوكأن القبر عاشقا أو محبوب ؟
فأجابني ماتت أمي وانا في السابعة وقام أبي برعايتي، وبعد عامين رحل أبي وتركني وحيدا وعشت ألم الفقد واليتيم، ولم أجد من يحن علي أو يمسح الدمعة من عيني، وعمي الوحيد استولى على كل ما تركه أبي، ماله وتجارته، وطردني إلى الشارع، في النهار أبيع المناديل في إشارات المرور لصالح المعلمة سماسم مقابل طعامي ونومي في بيت مهجور مع كثير من الأطفال الآخرين، ودائما آتي الي هنا لأني أشعر بالأمان وأنا بجوار قبر أمي وأبي، وأشعر بالحياة وأنا أتحدث أليهما وأتنسم عطرهما، وأحس أنهما يكلماني ويحتضناني وأشعر بحنانهما يخترق جدران القبر ليغمرني، احتضنه وأمطرت صفحة وجهه البرئ بعشرات القبلات وأمسكت بيدية وقبلتها ومسحت الدمعة عن عينيه واصطحبته معي الي البيت وصار ولدا لي، وأحسست أن الله وهبني اﻹبن الذي حرمت منه، لأنني عاقر، وبعد أن كنا عاشقان للقبور صرنا نعشق الحياه . .صفاء أحمد اسماعيل

 

اترك رد