بقلم – محمد المنصور الحازمى:
بعد غياب قسري؛ وقد يئست من لقائه ،اختفى ، بشتى الوسائل فشلت بإمساك خيط يقودها إليه؛ لم يخالطها شك أن لا تظفر برؤيته؛ ظلت متفائلة، ذووها أمعنوا سخرية من ثقتها بأنه البعيد القريب، هاجر بعد أن اسّوَّدت الدنيا بعينيه، وقد خسر تجارته؛ ضاق من تنكر صديق، وروغان مدينين، وبعد عقد من الزمن، خاض فيه كفاحًا مريرًا، عمل ، حمالًا في أحد الموانئ الأوروبيَّة؛ ثم عين حارسًا لمخزن ملحق بالميناء ،للملابس الشتوية الجاهزة، بنهاية العام العاشر، ومع تخلف مستوردوها، تراكمت وضاق المخزن بها نتيجة لإعراض المستوردين عن استلامها ،لارتفاع كلفة الرسوم الجمركية؛ وانخفاض القدرة الشرائية لدى غالبية الناس. انقضى فصل الشتاء الأخير.
أعلن الميناء عن بيعها بالمزاد ،فاتح إدارة المخزن برغبته الدخول بالمزاد؛ نبههُ مدي المخزن، أت لا يجازف بما جمعه خلال عشرة أعوام، حمالًا وحارسًا؛ موجهًا له سؤالًا عن كيفية تصريف الملابس القديمة، صمم، ونجح في المزاد وسط ذهول المتقدمين المحليين ،انصرفوا ، فيما ظل أحدهم ،عرض عليه أن يدفع له مبلغًا يفوق نصف ما دفعه، وافق على الفور.
في أحد الأيام ، سمعت زوجته طرقات متتالية على باب البيت، لم تأبه، كرر ثانية وثالثة،؛ اقتربت من الباب، نفذ اليها رائحة عطر ليس غريبًا ، نظرت من ثقب بالباب؛ من فرط حبورها، زغردت، ثم فتحت الباب، أطل بقامته المديدة ، وقد انخفض وزنه، وشحب محيَّاه، بيد أن ابتسامته كانت حاضرة لم تغب، أقسمت أن لا يحمل أمتعته سواها ، كان قد أنزلها سائق التاكسي أرضًا ، ادخلتها وأقفلت الباب، بسرعة البرق توافد أهلها وجاراتها، بين دهشة وذهول فرَّق أحد ذويها جمعهم، قائلًا : لقد جُنَت، ثم قفل يضرب كفًا بكف …
دلفا ،وبعد استراحة ، قدمت له وجبة خفيفة، طفق يحكي لها سبب غيابه وانقطاع تواصله؛ مستغربًا اقفالها الباب في وجوه أهلها وجاراتها، لم تنبس ببنت شفة، غادت لشؤون بيتها، فيما توجه لمهجعه ؛ خلد للنوم ؛ فيما ظلت وكأنه لم يعُد، لم يكن يعلم بما كان ذوها يجلدونها بسببه، حاولوا أن تتقدم للمحكمة بالطلاق منه، رفضت وعنفتهم، اغروها أن طلاقها سيكون فاتحة خير لها، وقد تقدم لها عدد من أغنياء المدينة ، ظلت تراهن على عودته.
مرت ثلاثة أيام وهي تغالب بكبرياء إرادة اللقاء به ، لم يتحمل ما وجده ، في ليلة مقمرة ، جلس في فناء البيت ، كعادته ؛ أحضرت لها قدحًا من الشاي ، وجلست أمامه والصمت سيد الموقف، بادرها قائلًا : توارت أصداؤك وانزوت أساريرك ،ما عدت سمحة رقيقة ؛ قاسية أم تتصنعين ترويض مشاعرك ؟ محال أن تهشمي قلبًا استحال عليه نسيانك ،أدمن أثيريتك وبوحك ؛ فما يئس ولا استكان؛ ظل كعادته يلتمس لك الأعذار فما عذرتِه أو لم تفهميه ؟ طباعك أخالُها تخاصمك ، الفظي المكابرة ، ليس بمقدوره أن ينتظر أكثر فأجيبيه ؟
قالت : لست أدري كيف أبدأ، وما ذا أقول ، عن عشر سنين عجاف، حكى لها حكايته ، وسردت صراعها مع ذويها ، وتصميمها المعمَّد بالتفاؤل ، تمنت عليه أن لا يقاطعها ، وقالت : كنتُ يا سيَّدي ، كالعمياء فأبصرت، أتلمس وسيلة لأعتذر عما حملني على اقفال الباب فور دخولنا، فكنت السبَّاق لترويض شفتين ترتعشان؛ لا تقوى على اختيار ما ترمم به ما اعتور من ذهول ؛ ها أنذا أقول لك : تغليت لأختبر قلبك وعقلك؛ فخاب عقلي أن يسكن هلوسات قلبي ؛ فكان عقلك وقلبك حاضرين كما هما .سيدي؛ فاتحها بأن اجازته قصيرة وما عودته إلا لاصطحابها وابنتيه ليكملا تعليمهما حيث يقيم ، شريطة أن لا تبوح لأحد بشيء عن غيابه ، وبأنه سيعود إلى حيث لانكران؛ وقبل أن يغادر بيوم واحد؛ ،سلَّم عمدة الحيِّ قائمة بأسماء المدينين مشفوعًة بعفوه عنهم ومتمنيًا عليه أن يبلغهم بعد سفره.