شعرية “المهزوز” بين الواقع، والوعي القومي
قراءة في رواية “المهزوز” للأديب نشأت المصري*
محمد الشحات محمد
* قد يحكمُ الخوفُ، وتنطلي أقاويل على البسطاء، فيفرح بعضُهم بانتصارات زائفة، بينما يُدركُ آخرون مسبّبات السَّعادة، وإن كانت في ثرثرة الأهرامات، أو ضحكة طفل .
* قد يبدو في الطوابير الكلُّ واحدًا، وتتداخل الحكايات المطروقة بكل أصناف الأدب، لكن يبقى جدارٌ نفسيٌّ، يُهدّدُ الترابط وتوحيد الهدف، ما يجعل بعضهم يحبُّ، أو يَكْره نفسه في الآخرين .
* قد يكون التردّد في اتخاذ القرارِ عيبًا، يخالف الثقةَ وروح المبادرة، لكنّه في أحايين كثيرة يكون سبَبًا في النجاة، ودافعًا للتمرّد على المألوفِ، وإن كانت الدّوافع وحدها لا تكفي للخلاص .
* قد نقتحمُ الأحداثَ، وتقتحمنا، وربّما رسَمت دهاليز العقل أثر هذه الأحداث، ووقْعَها علينا في لحظة تنويرٍ، سبَقَتْ – في الواقع- بدء التوسّع السّردي، وإكمال المشهد، سواء بالتداعي المعرفي، والفلاش باك، أو بالرمز والتخييل، ما يُدَعّمُ فكِّ شِفْرة العمل الإبداعيّ، ويطرحُ التساؤلات والرؤى .
– متى يكونُ الخوفُ رهان المستقبل، وكيف يكون العجزُ عن الفهم علاجًا للإنسان؟
– القدرة تُوجدُها الحرية، فهل يبني العبيدُ الحضارات؟
– لماذا تأخّر علم النفس عن مواكبة المُنجز الأدبي ، وأين نظرياتنا وفلسفاتنا الحديثة؟
– كيف يواجه السرد الشاعري قضايا المجتمع، وموسيقى الوجود التي لا تكلُّ من العزف؟
– أيكونُ الطيب “أهبل”، أم مُدهشًا في تدوير تصوراته الذهنية، وما مدى انفتاح قراءاته للواقع المعيش؟
** دارت هذه الإشكاليات، وغيرها في زخم رحلة القراءة مع رواية “المهزوز” للأديب والإعلامي “نشأت المصري”، من منشورات سلسلة روايات الهلال التي تصدر عن مؤسسة دار الهلال.
وللأديب “نشـأت المصري” مؤلفاته المتنوعة في أدب الطفل، والشعر، والقصص القصيرة، والروايات التاريخية، ويعتمد في إبداعه على تقنيات الرمز، والإسقاط، والمونولوج، وإن اختلفت مساحات السرد لحساب وصف المشاعر، وحوار الأشخاص؛ ما يدفع بالعمل الإبداعي إلى التفاعل مع الواقع، مثيرًا في المتلقي ميزة التفكر، ولأديبنا آلاف الحلقات الإذاعية، ويُعدُّ من المبدعين الموسوعيين القلائل، الذين لديهم القدرة على تمرير الشخصيات، ورسم الأمكنة في عباراتٍ وصفية مُركزة، سواء من خلال تبادل الضمائر/ الأدوار/ الأزمنة/ متغيرات ثوابت نقطة ما (شخصية/أحداث/أمكنة) بين الغائب، والمتكلم/ الفرد، والمجتمع/ البيت، والمدرسة/ الواقع، والمنشود، أو المُتوهم/ الاستحقاق، والرشوة/ المسجد، وحلقات الذِّكْر/ السوق، وإشارات المرور/ الأشياء المألوفة، ولا نعرفها..، وغيرها؛ وذلك من خلال تقنيات، وأفكار فلسفية ونفسية، وألوان ذكريات طفولة؛ تتناص في معظمها مع تفاصيل الطريق، وعيون النجوم ذات الشعر الأبيض..، لتكون “كل الاحتمالات واردة“، سواء بالحوار، أو المونولوج الداخلي، والتصوير/ الإسقاط المُقنع؛ بدهشته غير الغرائبية، واللغة الشاعرة، مما يجعل القارئ/المتلقي يلمس “المصادقة” في أسئلةٍ، ودهاليز أحلام؛ قد يحكمها الواقع، بين الموت والحياة ..
“إنها الموسيقى، بكل ألوانها.. موسيقى الوجود التي لا تكلُّ من العزف”
* وفي رواية “المهزوز”، إذْ “لكل جميل ثمن“، تأتي التساؤلات –محاولةً للفهم- كمتواليات، تتوازى مع الأحداث، التي جاءت في 135 صفحة من القطع المتوسط، وإذا كان العنوان عتبةً من عتبات النص، فهل “المهزوز” في رواية “نشأت المصري” عنوان كاشف، يجعلنا نصل للنهاية بعد عدة صفحات؟ وهل النهاية التي وضعها الكاتب مدهشةٌ، أم مفتوحة، تترك للخيال مساحةً للتساؤلات، والمشاركة؟
هل نجح الكاتب في التوسِّع السردي، أم زجَّ ببعض الأحداث؛ لإكمال المشهد؟
لمَ بدأتْ فصول/مشاهد الروايةِ بوصف شاعري، بعد ترقيمٍ، دون عنوان (29 فصلا)، ولم تتنوع بين الحدث، والحوار مثلا؟
* لكل تجربةٍ إبداعيةٍ بصْمتْها، وللمتلقي النابه فكّ الشفرات، وكلٌ حسب تأويله، وإدراك علاقات التشابك، والانفصال، والدوافع/المحاذير، والمحطات/الهدف.
* ولأن الرواية اجتماعية نفسية في المقام الأول، وحيثُ أن “الأحداث التي نقتحمها، أو تقتحمنا، كبرت، أو صغرت قيمتها ومعناها، بلْ وإثبات وجودها، يتمثل في وقْعها علينا، وتأثيرها فينا“، ولأن “المهزوز” يسكُن في كثيرٍ من الأحداث الدائرة زخمًا وأثرًا، خصوصًا في الأدب العائلي/العالمي، فأحْسبُ أنه جديرٌ بنا التوقّف في هذه الرحلة/ القراءة عند بعض المحطات/ العلامات
أولا: الجمل الشعرية:
– “من المشاعر ما ينتحر بغير رجعة، ومنها ما يترسب في قاع النفس”
– “يا أمي، بداخلي زجاج كثير مهشم”
– “فكيف لسيف أكرم المكسور أن يلتئم؟”
– “فلماذا أُصِدِّع مشاعري؟”
– “استقبلته أضواء المدينة بلا قلب”
– وعلى لسان الجدة بعد وصف حالة يونس: “كذلك أكرم، يمشي على مسامير الاحتمالات”
– وحول ثروت: “يرتشي من النمل العابر”
– “الليل هو ليل النفس، يخفت نورها، وتتباطأ ردود فعلها، وفكرها”
– وفي طريقه إلى مقهى يونس، يقول أكرم: “فزاد المحبة لا ينفد ولا يبرد .. شأن رباعي الحب .. ”
– وفي وصف أكرم بالمسجد: “استمع إلى موسيقى ضوئية، تتخلل الروح والحواس والأنفاس”
– وهو يقرأ في المجلة الصفراء: “يمتطي حصانًا من الكلمات .. إن الحب أعظم من إية لعنة، وليست هناك سعادة حقيقية في الأنانية”
* ومن العبارات التي جاءت موزونة:
– “وجدارٌ يخرج فجأةْ”، “العجز عن الفهم علاجٌ للإنسانْ”، “أقصى الفرْح، كأقصى الحزنْ”، “وجه الشارع وجْه إناءٍ يغلي”
– “وأكرم غارقٌ في نار سلوى”، “لماذا أيها الناظر؟”
– “عيون النجوم تراه”
ثانيًا: الحكمة، أو القول المأثور للإسقاط على الواقع:
– “ما أكبر الفارق بين ترتدي بذلة جديدة، وأن تغير جلدك ذاته”
– “ليس الأكثر بريقا هو الأكثر أصالة”
– “ليت الناس يتفقون على حال واحد للشوارب”
– “من قال أن المشاركة في الأحزان، أهم من حضور الأفراح؟”
– “كيف تطلب من مريض هشاشة العظام أن يرفع أثقالا، هشاشة النفس أكثر خطرًا”
– “ما جدوى الغلق، وجزء من الزجاج مكسور”
– “الشفقة أكثر قسوة من المكاشفة”
– “العالم في عيني هو ما أراه، وليس ما هو كائن”
– “كثرة الثياب لن تحميني، سأتدثر بدفْء القلب”
– الحاجة نبيلة لأكرم: “النحلة لن تكون فراشة، اتخذ قرارًا، نحن نحيا مرة واحدة”
– في حوار خالد وميادة: “الذكاء حالة عقلية، ولا يحتاج إلى تصديق الأحداث عليه”،
وترد ميادة: “لسْت غبية ..، إنما أُسئُ الظن أحيانا”
ثالثًا: من الحوارات
– الناظر، وأكرم حول التلميذ مشعل
أكرم: كل إنسانٍ بداخله مشكلة دفينة، لا يُعلن عنها
الناظر: حتى أنت كذلك؟
أكرم في مونولوج داخلي مع نفسه: لماذا أيها الناظر تدوس على جرحي؟
الناظر: لا تفكر أستاذ .. إنها حالة مرضية مزمنة
أكرم في مونولوجه الداخلي: آه لو يدري هذا المُتعجل المُتهور، إنني أحتاج إلى أن أتغلب على نفسي أولا، ثم أبحث عن حلٍّ لغيري .. لكن لابد أن أكسب ثقته أولا
– مع التلميذ محمد عبد السلام (عدم الاندماج، والسخرية من رعشة عين التلميذ)
أكرم في داخله: آه يا محمد .. هل أغرق معك، لنصعد معًا .. إنني أغرق من سنوات،
محمد دون أن يدري، يزرعني في حقل الألغام
– مع فاطمة، بعد تعيينه كأخصائي اجتماعي بمدرسة إعدادية
فاطمة: “هذا هو مكانك الطبيعي، أنت تقلاأ وتفكر وتنصتُ جيدًا ..”
أكرم المهزوز في مونولوجه الداخلي: “لكنها لم تذكر أني أتردد في اتخاذ القرار”
– مع والد محمد عبد السلام
المهزوز في نفسه: هل يُواصل والد محمد ثناءه، أم يُسفر النقاش عن صدام محتمل؟
وبعد مخالفة مروان للمرور، يستمر المهزوز في هذيانه: “إنه سيحكي لزوجته المحتملة”، وكان هناك توازيا بين الصدام والزوجة والإرهاب (المحتمل)!
– أثناء شكوى الجار من المذياع العالي، وبعد تصرف مروان
المهزوز في نفسه: أين نظرياتنا في علم النفس، شيء مؤسف، ومؤسف أيضًا أن أُفكر في ذلك الآن، والمشكلة قائمة
- وفي حوار المهزوز مع ابنته ميادة، يقول: أمك صنعت جدارا نفسيا بيني وبينك، رأيتني بعنوان سلوى”
– بين يونس وأكرم ..
يونس: هذا قدري .. فإنني منذ هروبي نصف ميت
أكرم: وأنا بدونك ميت
– وحتى عندما يقرأ المهزوز، يهذي في مونولوجه الداخلي
(أ) في المجلة الصفراء: ” الحب أعظم من إية لعنة، وليست هناك سعادة حقيقية في الأنانية”
المهزوز في نفسه: “قارن بين هذا، وما قرأه عن الفلاسفة وعلماء النفس، وما توارثناه عن الفراعنة، والتراث ..، فلم يجد اختلاف حقيقيا في أصول الأخلاق”
(ب) في المصحف: “وأنجيْنا الذين آمنوا وكانوا يتَّقون”
في مونولوجه الداخلي يتساءل أكرم: “هل هو مؤمن حقًّا؟، وهل هو من الأتقياء حتى ينجو؟
رابعًا: الألوان
– الأبيض:
“ورقة بيضاء”، “حمامة بيضاء”، “ضفيرة فاطمة” رغم أنها لم تتجاوز الخامسة والثلاثين، “جلباب يونس” يوم الجمعة، “الفأر في المصيدة”، “جانبا شعر رأس أكرم في الغلاف”، بينما يتوسط “الصلع”!
– الأزرق:
“هل آن لهذا البرد الأزرق أن يتحول إلى دفءٍ أرجواني؟”
– الأصفر:
“قميص الشاب الأصفر الذي يمر، ويتبعه يونس لعبور الشارع”، وبالمثل “قميص أكرم على الغلاف”، “المجلة الصفراء التي يقرؤها أكرم في المسجد” رغم أنها تتكلم عن الحب، لا الغيرة!
– الأخضر:
“زي رواد حلقات الذّكْر”، ويقابله “لون فستان الابنة ميادة”، “الملوخية التي يحبها يونس”
– الأحمر:
“لون الدماء”، وإن كان مُغطَّى بالليل في حادثة الفلاح، لكنه ظاهر في حادثة يونس/ فهمي، لون عنوان الرواية “المهزوز”، والمُحاطُ بإطارٍ أصفر مهزوزٍ فعلاً
– البني:
“الحسنة في خد مروان الأيمن”، “لون القهوة”
– الفضي:
“لون السيارة التي صدمت يونس”، “لون النجوم”
– الأسود:
“لون السيارة الهاربة، حال مقتل يونس”، وتقاطعها مع لون “بذلة مروان، ونظارته، ونظارة أكرم”، “الظلام الدامس”
– الباهت:
“لون الشقة” بعد انفصال سلوى، لون “صمت خالد” و”إشارات نرمين”، و”مُحاولة الابنة ميادة وصف أبيها”
– لون الفراغ:
“ما كلُّ هذا الفراغ؟”، والبطل يصف الشارع من النافذة بشخوصه التي يألفها، ولا يعرفها!
خامسًا: التدوير الموضوعي لأهم الأحداث، وأثرها في تشكيل صفات البطل:
يقول أكرم المهزوز: إنني أنتشي، وأُصبح أكثر طولا وعرْضًا، وأنا أسمعُ أكرم بيه .. جميل أن أكون عنترة، أو محمد علي، أو هتلر .. الأمر لي، ومَنْ حولي مطايا“!
ومن هذه المقولة/ النفثة، نقرأ أهم الصفات، والعوامل/الأحداث المؤثرة في شخصية البطل المهزوز، ورد فعله في الواقع، مع طرْح بعض ما دار مُضمرًا في النفس، كما أدركته الرواية،
من هذه المؤثرات:
(1) الموت (مع افتعال عدم المشاركة): يبدأ بموت الأب، مرورًا بموت الجار الفلاح، ثم الأم، فالأخ، وينتهي بموت الابنة نرمين
(2) السقوط، وكل مساعدة بثمن:
– سقوط طفل التاسعة في بركة المدرسة، وقول زميله: “أنا سأساعده، المهم يسقط أمامنا”
– التغاضي –شكلا- عن محاولة صفعه، في مقابل ضمان عدم استمرار وحدة الابنة ميادة، والأم
– قبول الرشاوى نفسيًّا وماديًّا، والسقوط في بِركة السياسة ورجال الأعمال، في مقابل “الكرسي”
(3) ابتزاز العواطف، واستغلال الفرص؛ للقفز بأي ثمن، أو ستار:
– ابتزاز عاطفة الأم، وأموالها، بستار اليُتْمِوالإعاقة
– ابتزاز عطاء الأخ، بستار أنه يرد الجميل بالمدح، وإن كان كاذبًا ، مرورًا بابتزاز الناظر والطالبين بستار الحصول على النفقة، وكذا ابتزاز عاطفة وسلطة وزوجة مروان بستار أن أبا مروان مدمن، والبطل الخال يحل محل الأب، ويظهر الابتزاز عندما وافق على أن يحصل على الميراث كاملا –عدا ذهب الأم، أخذه الأخت فاطمة- مُبْتلعًا حقَّ أخيه المريض، بمجرد عرضه، بستار أن أخيه يتاجر في المواشي، بل فكر أن يبلِّغ عن مكان شقيقته فاطمة، للقبض على الأخ يونس، ثم ذكر اسم شهرة يونس بـ فهمي في المقهى، لينكشف الأمر، ويتم القبض على أخيه
(4) فرض تصوراته الذهنية على من حوله؛ لإيهامهم، ومن ثمَّ نفسه بأنه المستحق للأفضل
– يبدأ بفرض تصوره عن قسوة أبيه الراحل، وتتبع ابن الفلاح القتيل له، ليجعل من نفسه مستحقًا للعطف مقابل اليتم، والتدليل مقابل القسوة، والنصرة والاحتواء، حتى لا ينالوا منه بالثأر
– تصوّره عن التلميذين، فمشعل قاسٍ وعنيف، عكس محمد عبد السميع المُعاق بِرعْشة عينه، أمَّا والد محمد عبد السميع قاسٍ هو الآخر، مُصَوِّرًا أنه مثل أبيه، ثم يجعل من الناظر “ المُعجل، المتعجرف، لا ينظر الأمور، ولا يستحق“، وإن كان تعامله مع التلاميذ يُذكِّرُه بطفولته، فيفرض عليهم ألا يتسامحوا
– يُصوِّر لنفسه أن “سحر” ستوافق على خطبته لأنه “المتعلم”، وعندما رفضت، يُصوّر أنها “تحب المال”
– يفترضُ أن زوج أخته، عندما يُصالحها، سَيُعامل البطل باعتباره ضيفا، وهو لم يسترح لضيافة مروان وزوجته له شهريًّا، فيُعمل محاولاته لإفساد العلاقة بين الزوجين المزمع تصالحهما، ولو يمدح الزوجة (أخته) كذبًا
– تصوَّر أن مدير مكتبه في الوزارة، والمستشار السابق فاسدان، وبتواطؤ من الوزير(غير المستحق تبعًل لتصوُّر البطل)، مما يجعله “يمسك مستندات ضده؛ لتهديده، والحصول على الكرسي”
– يفرض تصوره على مروان؛ ليتبنى مروان الشاب القاضي ذو الهيبة، قضية المهزوز، وفرضه على المجتمع، فالقاضي يلتوي مع مسؤولٍ كبير لتبرئة شقيق هذ المسؤول؛ مقابل منصب كبير لخاله المهزوز، وكذلك يتبنى القاضي رؤية الخال المُتوهمة، السفسطائية حول الطيبة، لاختزالها في المهزوز، فيقول مروان: “إنها عائلة طيبة وأصيلة، وإن كانت سيئة الحظ، في مجتمع يعتبر الطيب عبيطًا، أو مهزوزًا، ينما يرفع القبعة للجهلاء أصحاب السلطة”
هل العائلة، هي هذا المهزوز؟ وهل مَنْ في السلطة جهلاء؟ وماذا إذا كان مروان في ذات السلطة .. أيعترف أنه من الجهلاء؟!
(5) الإرهاب النفسي للآخرين، والانتصار المزيف لهزائمه
– يبدأ بتحريض أخيه الأكبر كي يقوم بتوصيله إلى المدرسة، ومِن ثمَّ إرهاب زملاء الدراسة
– عدم التسامح مع زوجته سلوى، رغم أن البطل مُقصِّرٌ في حقوقها الزوجية، وحقوق الأولاد، وكذلك عدم التسامح مع ابنته (وإن أظهر موافقته على أن تعيش معه)، وعدم تسامحه مع زميله وابن قريته أحمد عادل طوال الرواية، حتى بعد أن أُصيب الزميل بجلطة، وهدد البطل بعدم حل مشكلة إنسانية بسيطة لابن الزميل، مُصوِّرا لنفسه “العدوانية” عداء الزميل له، وتعاليه عليه، لمجرد أن الزميل رفض أن يأخذ ثمن ما اشتراه البطل، ولم يخطر ببال البطل أن أحمد عادل كان يتعامل معه، باعتباره يتيمًا، أو زميلا، بينما “المهزوز”/البطل كان يرى في أحمد عادل، ذلك الشخص الساخر منه، ثمَّ المستولي على سحر!
– اصطياد نقط ضعف، ومستندات ضد الآخرين ..
مُعتمدًا على سلطة ابن أخته القانونية، وسلطة المكر/ الطبع الذي نشأ عليه، ويجعله في نشوة، تلك الناجزة، المُسخِّرة، كأنها العامل المشترك بين شخصياته الثلاثة في قوله “جميل أن أكون عنترة، أو محمد علي، أو هتلر .. الأمر لي، ومَن حولي مطايا”، ولا يهم ظروف كل شخصية، أو مكانها وزمانها، إنما سلطة المكر؛ مُبَرِّرًا ذلك بحجة ألا تقع حياته في التناص مع حياة “تولستوي” الذي هرب من قصره، بسبب سلطة امرأته!
(6) الانتقام الصامت، وكسْر الخواطر، مع إطفاء الحرائق بالمدح، ونسب كل جميل لنفسه:
– يبدأ باستكثار حب يونس لِلقراءة، وطلاقة لسانه، وقوة بنْيته، ولأن يونس يفهم ما يدورُ حوله، أطفأ نار “المهزوز” –مؤقتًا- بقوله: “أنت أفضل من كثيرين”
– كان لتفضيلُ سحر خطبتها من أحمد حريقٌ في نفسِ المهزوز، وأطفأته محاولة سحر تنظيف المكان، والتوسل مع زوجها المُصاب بِجلطة
– استكثاره نجاحات الآخرين عليهم، ومحاولة نسب تلك النجاحات لنفسه، وإن كان يفتقرُ إليها، فهاهو المهزوز ينسبُ نجاحات ابن أخته مروان لنفسه، رغم افتقاره لهيبة مروان، وكذلك ينسبُ نجاح تلميذه محمد عبد السلام، رغم الافتقار إلى طلاقة التلميذ، وشجاعته
– استكثاره زوار محمد عبدالسلام، وهو مريض، حتى تمنى لو كُسرتْ ساقه؛ ليزوره الناس
(7) تصدير الآخرين؛ لتنفيذ مؤامراته، ونزعاته التي يعجز عنها، والتغطية عليه
– حرَّض التلاميذ بعدم التسامح، وحل مشاكلهم بالعنف
– عيَّن مساعدين جدد له في الوظيفة الجديدة (مستشار وزير التربية والتعليم)، ليعتمد توقيعاتهم فقط، رغم إنه المُحرك الرئيسي لمتخذي القرارات، بدليل موقفه من حل مشكلة ابن أحمد وسحر
– لفت نظر الضابط الصغير والكبير في إشارة المرور، وكان يُمكنه الابتعاد كما أمره الضابط الصغير في بادئ الأمر، ويدخل من أي شارع جانبي كغيره دون ضجيج
– تصدير زوجته سلوى لمشكلات، ومتطلبات أولاده في المدرسة
– تصدير أمه لمواجهة أصحاب الثأر، وإنِ اتخذت الضعف والطيبة غلافًا، يدفع الجيران لحمايتها، أو الإشفاق عليها!
– تصديره “البسكويت” لمروان عندما وصل القاهرة؛ في إلهاء حتى لا يسأل عن أخيه يونس
– تصدير “الطيبة” عند خوفه من الأقوياء، ففي القرية كانوا يعتبرونه “عبيطًا”، وتعتبره زوجته “تافها وأهبل”، بينما يدّعي أن أهل القرية يعتبرونه طيّبا، وما إن لاحتْ له الفرصه، فانتقم منهم في أحمد وسحر، وكذلك انتقم من زوجته سلوى، عندما تمكن من نزع ابنته منها بعد الانفصال، كما أنه رفض تولي موقع أمين صندوق المسجد، ثم وافق بعد أن ضمن تصدر أعضاء المجلس للتعاون معه، ومحايلته، ليحتفظ بصورة غلافة “الطيبة”، وهم الأقوى بالأكثرية!
– تصدير “ثقافة القومية”؛ للنيْلِ من الآخرين، واكتساب ثقة المسؤولين؛ واغتصاب المنصات،
فهو إذْ يُصوِّرُ الناظر بالمتعجل، المتهور يقول: “لكن لابدَّ أن أكسب ثقته أولا”، وكذلك يرفع شعارات القومية في الحزب الذي انضمَّ إليه؛ طمعًا في مساندة الحزب له؛ لاغتصاب منصب الوزير، ذلك الوزير الذي شكك فيه بالتواطؤ مع المستشارين الفاسدين، ثم هو يُعلن قوميته، ودفاعه عن الفراعنة الذين بنوا الأهرامات، ومن ثم مَنْ حفروا القناة، بأنهم لم يفعلوا ذلك بالسُّخرة، إنما بأجور باهظة، وحقوق حصلوا عليها، فبكل حرية ومحبة بنوا، وحفروا، وأقاموا –وإن كانت رؤية وجيهة- الحضارات ..، هكذا يُعلن لمجرد “خالف تُعْرف”، وليس دفاعًا حقيقيًّا، فهو مَنْ يرى اغتصاب المنصات لا يكون إلا بالشعارات، والرشاوى، والضغط على الضعيف؛ ولو بعمل غسيل مخ للآخرين، وهل يُنكر أن الأهرامات، ماهي إلا قبور كانت للحكام؟ وإذا كانت المحبة، والحقوق من مسببات الحرية، فَلمَ كان يهرب مِن مواجهة متطلبات أسرته، وقريته، ولِمَ قبل رشوة رجل الأعمالِ لِلحزب؟ وِلمَ رفض حق سلوى في اختيار مَن تحبه، كما اضطر للموافقة على مَنِ اختارته ابنته ميادة، بعدّ ادّعائه أن “ثروت” ابن خالته الذي “يرتشي من النمل العابر” طلب لابنه يد ابنة المهزوز، رغم أنه كان يتمنى في نفسه أن يتزوجها مروان، مِمَّا جعل ابنته “تجبره” على الموافقة برجل من اختيارها هي، وإن جعلت منه رجل أعمالٍ كمصدر قوة، ثمّ لِمَاذا كان “المهزوز” يتردد في القرارات، ويُصدّر الآخرين، كواجهات؛ يحتمي بها؟
(8) المُكابرة، وإفساد مسببات السعادة عند الآخرين:
– مشاركته في حلقات الذكر، رغم أنه لا يتقن الأداء، ثم يُعلن أنه غير مقتنع بهم
– يتبع أفكار “سلوى”، ثم يغدر بها
– يعتبر مجاملة الزملاء، أو مروان له فرضًا عليهم، وإذا تجاهلوه “يتألم”
– طلبه خطبة “سحر” و”سلوى”، رغم عقدته من عيب نطق الـ”سين” بـ “ثاء”!
(9) تطبيق المشابهات بينه، وبين تلاميذه حسب تصوِّره الذهني
يرى المهزوز أبا “مشعل” ضعيفًا، ويأخذ الجيران حقوقه، مما جعل ابنه عنيفًا؛ لتوزيع الحقوق
- يرى أبا محمد عبد السميع قاسيًا، مما جعل ابنه محل سخرية الزملاء من رعشة عينه، لينطلق إلى الإعلام، والمُنشِّطات!
(10) التردد، والشك فيمن يقتربُ منه، وإلصاق التهم بهم، ولو في شكل أسئلة، وإن اعتبرها قرارات فاصلة، يُعامل بها الآخرين، طبقا لتوهمه، تغطية على تخاذله .
“إن أكرم يؤمن بالطبِّ الروحاني ..، عادة يكون أكرم مهتزًّا بين الفعل وعدم الفعل، إلا عند أمه ينتقي الأصعب ..”
ويقول أكرم عن نفسه: “أعرف أنني سأُقرّرُ، وأعتزم وأنتوي، بل وأُقسم أنني لن أتخاذل، ثم أنسى، وأتخاذل، وألتحف بالخجل”
وهذه الصفة مِنْ أسوأ صفات “المهزوز”، إذْ لا يشك، أو يتردّد للفهم، أو التريّث؛ حتى يصل بالبرهان إلى الحقائق، ، أو يأخذ الأمور على أحسنها، حتى يتبين العكس، إنما يشكّ لمجرد الشكِّ، ولعدم قدرته على المبادرة، أو تنفيذ قرارته –إذا وُجدت- إنما التخاذل، وإهدار قيم الجمال والخير في الآخرين ..
* ولنطرح بعض أسئلة الشكوك من نفس القبيل:
– كيف عمل مروان بالقضاء، وعمُّه يونس قاتل؟ ما نوع الرشوة؟ أم أن يونس لم يَقتل أصلا؟
– كيف كان أبو مروان موظفًا مرموقا، وهو مُدمن، ويُعالجُ في مصحة؟
– مرّتْ في الرواية خمس حالات موت، لم يُفصح البطل عن دوره فيها، ومنها: كيف مات أبوه؟ وكيف ماتت أمه في الحج؟ كيف مات أخوه؟ مع إشارة الكاتب إلى هروب سيارة سوداء، ومرور شاب يرتدي قميصًا أصفر أثناء الحادث، وعلى حد جملتي أكرم المهزوز “وهنا وقفات”، و لمروان “والخامسة عند نقل الكلية”، ردًّا على مروان عندما قال: “اليوم أربع مناسبات”، ثمَّ كيف تم الحريق في منزله، ومَنْ كان المقصود (خالد، أم نرمين)، ومن الجاني، ولماذا حاول “المهزوز” لفت أنظار الضباط، والمارة؛ لوجوده في الإشارة أثناء الحادث، وهل مَن احترق منزله، وماتتْ طفلته، لديه من الفكر والوقت، مايجعله يتأمل المارة في الكلب والسيدة، إسقاطًا على آخرين؟
– لماذا قَبِل “المهزوز” كلام خالد (الصامت كأبي الهول، كما كان يُشبهه)، حول جوعِ الزوجة سلوى، ولم تقبله من ميادة، ثمَّ اتهمت خالد بأنه لم يتغير؟
ألم ير أن خالد يمثِّل التوازن، والصواب في حواره مع أخته ميادة، وأبيه المهزوز؟
كان خالد يُفعِّل فلسفاته هو على الواقع الذي يعيشه، ولم ينتحل فلسفات الآخرين، والأزمنة الغابرة.
– لماذا كان المهزوز متابعًا في رعب لصفحات الحوادث بالصحف، حتى كاد يُقرِّرُ الهرب إلى عمان بعد مقتل يونس؟
هل القاتلُ مروان “ذو العربة السوداء الهاربة”، أم أبناء الفلاح “في السيارة الفضية الصادمة”، وبمشاركة المهزوز “ذي القميص الأصفر”؟
– ما سرُّ إرسال المهزوز بخطاب إلى الشرطة، يُوضّح فيه عنوانَ القتيلِ الحالي (في المقابر)، رغم إجراء التحقيقات، والتصريح بالدفن رسميًّا؟
ولِمَ لا يُطرح سؤال: هل مات يونس (رمز العطاء والقوة) فعلا، مع موت نرمين (رمز البراءة)، وسبقهما الفلاح (رمز الحفاظ على أرضه، وأرض الآخرين، ولو عُرض عليه شراؤها، وهو مَن يعرف سرَّ موتِ أبي المهزوز)، وهل ماتت قيمُ “نبيلة” غدرًا؟
– الرواية من الأدب الذي يهتم بالعائلة، وشخوصها، المتناقضة أحيانًا، لكن إذا كان الكاتب حدّد نقطة انطلاقه لأسرة “مسلمة” من بلدته “دكرنس”، واستكمل الأحداث في القاهرة حيث عمل المهزوز، وتسكن فاطمة، وتجارة يونس/فهمي، والمقهى، والجيران .. أليسَ من الجيران، أو التجار، أو طلاب المدرسة، ورواد المقهى أحد مسيحي، أو حتى مُلْحد مثلا؟
وهل اقتنعت زوجة مروان (ناهد/نجلاء) بِمهارتِها في المطبخ، رغم تخرجها في الحقوق، وعمل زوجها في القضاء؟
** وإذا كانت “للرؤية قوانين ومتاهات ..” فإنه “لم تكن العين أبدًا كائنا محايدًا .. ليست كل الطرق مستوية، أو مستقيمة، نضطر أحيانًا أن نلتوي“، وأراني مضطرًا هنا إلى التقاط أنفاسي في هذه الرحلة المثيرة، الماتعة، وقد يكون هناك خيط، لأحداثٍ، تركها الكاتب في مساحة تخيلية للمتلقي، أو لتكون بداية أجزاء أخرى من “المهزوز”،
رواية تغوص في قضايا الأسرة، وعلى رأسها التفكك، وما يعانيه النشء في التربية، وأثر ذلك على القادم، كما تحفل بالمكاشفة؛ لمواجهة الفساد، وفيها دوافع لتجديد الخطاب الثقافي، والوعي القومي، بحبكة حكيم، وفكر فيلسوف، وطرح مجرّب، وجمال تصويري، مُكثف، ولغة شاعرة، تتّسع للتصورات الذهنية المتباينة في النفس البشرية، ودور الأدب الهادف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*) الدراسة ألقاها الشاعر محمد الشحات محمد في ندوة خُصصت لمناقشة رواية المهزوز بمعرفة شعبة السرد باتحاد كتاب مصر بحضور خيري حداد، د. عطيات أبو العينين، نشأت المصري.