مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

سيكولوجية العنف المؤسسى للدموية الأمريكية

بقلم الأستاذ الدكتور – هشام فخر الدين:

 لاشك عزيزى القارئ أنه لا يمكن بحال عند مراجعة التاريخ الأمريكي الحديث، إغفال حضور العنف الممنهج كأداة مركزية في بناء الدولة الأمريكية، وتوسيع النفوذ، وضبط الداخل. حيث إنها نشأت عبر سلسلة من الحروب، وعمليات الإبادة، والإستعباد، والصراعات المسلحة، وأُحيطت هذه الممارسات بخطاب أيديولوجي يبررها بوصفها ضرورة حضارية أو قدراً مقدساً.

 

لذلك كانت هناك ضرورة لتحليل الدموية الأمريكية، ليس من منظور إنتقامي أو تعبوي، بل من خلال قراءة تحليلية تاريخية سيكولوجية، تجمع بين الحقائق التاريخية والتحليل النفسي لسلوك الدولة والمجتمع، في سياق تشكّل الهوية القومية الأمريكية كقوة عالمية لا تتورع عن استخدام العنف المفرط. حيث تنطلق من البنى العميقة لأنظمة القهر التى تستهدف الأرض والهوية والوعى. وما فعله المستوطنون الأوروبيون في أمريكا، وما يفعله الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، ليس حوادث معزولة، بل جزءً من نمط عالمي يتكرر حين يُفقد التوازن بين القوة والعدالة، وحين تُطمس أصوات الشعوب الأصلية.

 

وإذا كان التاريخ الأمريكي الحديث قد بدأ، ولو جزئياً، في الاعتراف بفظائع الماضي، فإن المسار في الحالة الفلسطينية لا يزال بعيداً عن الاعتراف أو التصحيح. لكن العدالة تبدأ من كشف التشابه، وتسمية القهر باسمه الحقيقي، دون خوف أو تحامل، لأننا لا نكتب للماضي، بل للمستقبل.

 

فــــــــــــــ تبدأ الدموية الأمريكية منذ البدايات الأولى للإستيطان الأوروبي في القارة الجديدة. فبين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، شنت الولايات المتحدة أو من سبقها من المستوطنين، عشرات الحملات الدموية ضد الشعوب الأصلية، أسفرت عن مقتل ما يُقدّر بـعشرة ملايين من السكان الأصليين، سواء عبر الإبادة المباشرة أو الأمراض أو التهجير القسري، فيما وصفه المؤرخون لاحقاً بأنها أطول حملة تطهير عرقي في التاريخ الحديث.

 

 

وقد تم ذلك كله في إطار القدر المتجلي ، وهي عقيدة دينية – سياسية، ظهرت في القرن التاسع عشر، رسّخت الإيمان بأن الأمريكيين البيض مكلفون إلهياً بنشر الحضارة عبر القارة بأى وسيلة كانت سواء بالعنف أو القتل والإبادة. فهذه الأيديولوجيا سمحت بتحويل العنف من فعل مدان إلى أداة خلاص، بل وقد غذّت صورة ذاتية عن أمريكا بوصفها دولة رسالية. فبينما كانت أوروبا قد بدأت نقاشات مبكرة حول إنهاء والخلاص من تجارة العبيد، كانت الولايات المتحدة حتى منتصف القرن التاسع عشر، تُمارس نظاماً عبودياً شديد الوحشية، استُعبد فيه ملايين الأفارقة، وورّثوا استعبادهم لأجيال لاحقة.

 

فالعنف في هذا السياق لم يكن فقط جسدياً (جلد، شنق، تعذيب)، بل أيضاً نفسياً، عبر تجريد الإنسان من هويته، وتفكيك أسرته، وفرض خضوع مطلق للمالك الأبيض. وقد كانت هذه البنية العنيفة مدعومة بالقانون، والكنيسة، والتعليم، والاقتصاد، حتى بات العنف جزءً لا يتجزأ من النظام الاجتماعي الأمريكي. وحتى بعد إلغاء العبودية رسمياً، استمرت الدموية في شكل آخر فى قوانين الفصل العنصري (جيم كرو)، والإعدامات الميدانية، والتمييز الممنهج، الذي لم تبدأ أمريكا في مواجهته بجدية إلا في ستينيات القرن العشرين، بعد تضحيات هائلة من حركة الحقوق المدنية.

 

 

قد يهمك ايضاً:

هل أخرجت حواء أدم من الجنة؟

ومنذ الحرب المكسيكية (1846–1848)، التي استولت فيها الولايات المتحدة على نصف أراضي المكسيك، مروراً بالحرب الفلبينية الأمريكية، والحربين العالميتين، وصولاً إلى فيتنام، والعراق، وأفغانستان، اعتمدت السياسة الخارجية الأمريكية على استخدام العنف المفرط لتحقيق مصالحها الجيوسياسية. وفي كل مرة جرى تبرير التدخل العسكري بخطاب الدفاع عن الحرية و نشر الديمقراطية، إلا أن الوقائع على الأرض تكشف أن النتيجة دائماً ما تسفر عن آلاف القتلى المدنيين، تدمير البنى التحتية، دعم أنظمة استبدادية، وزرع الفوضى طويلة الأمد، وتمكين جماعات إرهابية متطرفة من مقاليد الحكم فى تلك البلاد، فضلاً عن إشعال فتيل النزاعات الطائفية والحروب الأهلية بالوكالة.

 

 

ويكفي أن نذكر أن الحرب في فيتنام وحدها ( 1955-1975) خلفت أكثر من ما يقرب من مليونى قتيل في الجانب الفيتنامي، مع استخدام أسلحة كيماوية مثل العامل البرتقالى، الذي ترك آثاراً بيئية ووراثية مدمرة. ولفهم هذا النزوع المتكرر إلى العنف والقتل والإبادة بدافع الكراهية والقدر المتجلى، من منظور نفسى اجتماعى نجده يبدأ من التفوق الأخلاقي المتوهم، والمتمثل في قناعة راسخة لدى قطاعات من المجتمع والنخبة الأمريكية، بأنهم يمثلون قمة الهرم الأخلاقي والقيَمي في العالم. وهذه النظرة تسمح بتبرير العنف بوصفه وسيلة لتصحيح العالم لا كعدوان وإرهاب وقهر مع توافر البيئة المساعدة على ذلك من خيانة وعمالة.

 

 ثم يأتى ميكانيزم آخر يتمثل فى إسقاط الذنب، وهو ميكانيزم دفاعي نفسي يتم من خلاله إسقاط العدوان الداخلي على الآخر. فتُصوَّر الشعوب المستهدفة دائماً على أنها مصدر الخطر أو الإرهاب، في حين تُبرأ الذات الأمريكية من مسؤوليتها. ثم يأتى العجز عن الاعتراف بالضعف حيث تقدم الولايات المتحدة نفسها دائماً بوصفها الدولة الأقوى والمنقذ للعالم، إلا أنها تُظهر حساسية مفرطة تجاه أي تهديد ولو رمزي، ما يدفعها أحياناً إلى ردود فعل غير متناسبة، مثل غزو دول بأكملها كرد على عمليات إرهابية محدودة. فضلاً عن التداخل عميق في الثقافة السياسية الأمريكية بين الهوية الدينية البروتستانتية والهوية القومية. وقد أدى هذا إلى إيجاد خطاب شبه لاهوتي مزعوم يربط بين مشروع أمريكا والإرادة الإلهية، مما يفتح المجال لتبرير أي عنف في سبيل تنفيذ هذه الإرادة المزعومة.

 

فلا تقتصر الدموية في التاريخ الأمريكي على الخارج أو الماضي البعيد. فمعدلات جرائم السلاح والعنف الداخلي في أمريكا هي من الأعلى عالمياً في الدول الصناعية. كما أن حالات العنف الشرطي ضد الأقليات، خصوصاً السود، لا تزال موثقة ومتكررة، رغم كل محاولات الإصلاح. فحوادث مثل مقتل جورج فلويد عام 2020، أظهرت للعالم أن البنية العنيفة لم تُلغَ، بل أعيد إنتاجها بأساليب قانونية وأمنية معقدة. وهي تعكس إرثاً لم تتم مساءلته بصدق، بل يُعاد تغطيته بخطابات الوطنية والأمن القومي.

 

فالدموية في التاريخ الأمريكي ليست مجرد سلسلة من الحوادث المؤسفة، بل مكون بنيوي في عملية بناء الدولة، وتوسيع نفوذها، وضبط مجتمعها الداخلي. ولئن كانت بعض المجتمعات قد مارست العنف في مراحل معينة من تاريخها، فإن ما يميز الحالة الأمريكية هو الدمج بين العنف والخطاب الأخلاقي التبشيري، بحيث لا يُنظر إلى العنف كشر، بل كضرورة حضارية. ومع تصاعد الأزمات العالمية، تبقى الحاجة ملحة إلى مراجعة هذا الإرث الدموي، لا عبر الإعتذارات الرمزية، بل من خلال تغيير فعلي في السياسات، والتعليم، والهوية القومية، بما يُعلي من شأن العدالة، لا القوة.

 

فالاعتراف بالعنف المؤسسي في التاريخ الأمريكي ليس مجرد عمل نقدي، بل هو شرط أساسي لنضج وعي الدولة بنفسها. فالدول الكبرى لا تُقاس فقط بقوتها العسكرية أو اقتصادها، بل بقدرتها على مواجهة ماضيها بأمانة وشجاعة، وتحويل التجربة التاريخية إلى رافعة أخلاقية، لا إلى تكرار حلقي للعنف بأقنعة جديدة. وإذا كانت بعض أصوات الداخل الأمريكي – من الأكاديميين والنشطاء وحركات العدالة الاجتماعية – قد بدأت بالفعل في مساءلة هذا التاريخ، فإن ذلك لا يكفي دون إرادة سياسية حقيقية لفك الارتباط بين الهوية الوطنية وميراث العنف، وبين الخطاب الأخلاقي والتفوق الإمبراطوري.

 

فالعلاج النفسي الجماعي للمجتمعات يبدأ دائماً بالاعتراف بالصدمة، ثم بمساءلة الذات، فبناء سردية بديلة قوامها المساواة والحق والكرامة. فهل يمكن للولايات المتحدة، كأمة، أن تتجاوز تاريخها الدموي وتعيد تعريف ذاتها في القرن الحادي والعشرين على أسس أكثر إنسانية؟ وتتخلى عن دعمها للمحتل الصهيونى ودعمها للعنف الدموى فى شتى أنحاء العالم ودعمها للفوضى وإعادة تقسيم الأمم والاستيلاء على ثرواتها ونشر الإرهاب والقتل والفكر المتطرف عبر عناصرها من العملاء والخونة . أعتقد أن ذلك سؤالاً سيبقى مفتوحاً لدولة تاريخها دموى ونشأتها كانت على القتل والإبادة.

 

 

 

 

التعليقات مغلقة.