بقلم د إبتسام عمر عبد الرازق فراج
البيت هو اللبنة الأولى في صرح الأمة، وهو النواة التي تبدأ منها الحضارات. لكن البيت لا ينهض وحده، ولا تكفي فيه جهود أب وأم مهما بذلا، لأن البيت ليس جدرانًا وأفرادًا فحسب، بل هو منظومة متشابكة، يتداخل فيها دور الأسرة، والمجتمع، والدولة، والدين، والتعليم، والإعلام, وكما أن اليد الواحدة لا تُصفّق، فكذلك الأسرة وحدها لا تستطيع أن تُنشئ جيلًا متكاملًا إلا إذا وجدت سندًا من حولها.
كيف يرسم القرآن طريق التعاون والعطاء بين الناس؟ قال الله تعالى:
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
هذه الآية العظيمة ترسم مبدأً أساسيًا: أن قيام أي بيت أو مجتمع يحتاج إلى التعاون والتكامل، فلا يكفي أن يكون الأب صالحًا إذا كان المحيط فاسدًا، ولا يكفي أن تكون الأم حريصة إذا كانت البيئة لا تساعد.
وقال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [التوبة: 71]. أي أن المجتمع كله شريك في التربية والإصلاح، بعضه يسند بعضًا، فلا يعيش أحد بمعزل عن الآخر.
قال النبي ﷺ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» (رواه البخاري ومسلم).
وشبّك بين أصابعه ليدل على أن المجتمع مثل البناء المتكامل، إذا انهدم جزء منه، ضعف كله.
وفي حديث آخر قال ﷺ: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى» (رواه مسلم).
فالمجتمع كلٌ واحد، فإذا ضعف جزء، تأثرت البقية، وإذا قوي تكامل البناء.
دروس من سير الأوائل منها ما حدث بين الأنصار والمهاجرون حين هاجر النبي ﷺ إلى المدينة، لم يقل: “يكفي أن يؤوي المهاجر أبناؤه وحدهم”، بل أقام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فجعل لكل مهاجر أخًا من الأنصار يشاركه ماله وبيته. هكذا قامت أول “شبكة تكاملية” في الإسلام، وكانت البيوت على نور، لا بمعزل، بل بتكافل وتعاون
وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطوف ليلًا ليتفقد بيوت المسلمين، ويسمع بكاء الأطفال لأن اللبن قليل، فيأمر لهم بالرزق من بيت المال. هنا نرى أن الحاكم اعتبر أن مسؤولية إطعام الأطفال ليست على الأم وحدها، بل هي واجب المجتمع كله.
وفى عهد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه حين اشتدت حاجة المسلمين للماء في المدينة، اشترى بئر رومة من ماله، وجعلها وقفًا عامًا للمسلمين. لقد فهم أن المجتمع يحتاج إلى تكافل اقتصادي ليحمي بيوته من العطش.
وفى الواقع لا يكفي أن يكون الأب مجتهدًا إذا كانت المدرسة تُهمل غرس القيم.
ولا يكفي أن تكون الأم حريصة إذا كان الإعلام يفسد عقل الابن بمحتوى هابط.
ولا يكفي أن يكون الأبناء متفوقين إذا لم يجدوا دولة توفر لهم فرص عمل وبيئة عادلة
البيت لا يعيش في فراغ، بل في شبكة تكاملية:
• الأسرة تربي.
• المدرسة تُنمّي.
• المسجد يزكّي.
• الدولة تحمي.
• الجار يساند.
• والإعلام يوجّه.
حين تتكامل هذه العناصر، يخرج جيل يشبه جيل أكتوبر الذي حمل الوطن على كتفيه، فكان الجندي في الخندق، والفلاح في الحقل، والعامل في المصنع، والأم في البيت، كلهم يشكّلون لوحة تكاملية صنعت النصر, وهكذا البيوت اليوم، لن تكون على نور إلا إذا شعر كل فرد أن دوره لا يقف عند باب بيته، بل يمتد ليشارك في بناء المجتمع كله, .البيوت لا تُبنى بالأب والأم فقط، بل بتعاون المجتمع كله، فحين نتعاون ونتكامل، تتحول بيوتنا إلى قناديل نور، ونبني وطنًا قويًا قائمًا على المحبة والمسؤولية والرحمة
