كتبت- حياة الحفيان ، تونس:
لم نخلق لنكون ذوي عقل و وعي تام بل خلقنا لنحاول الظفر بقليل من الوعي وقليل من الفطنة حتى نميز بين الصح والخطأ وخاصة حتى نوفق بين متطلبات الذات و مقتضيات المجتمع ولأن وعينا الأخلاقي والاجتماعي وعي نسبي فإننا ملزمين كنا أو مخيرين أن نرتكب اخطاء كانت أو زلات أو هفوات أو ربما تجاوزات كما يحبذ البعض أن يسميها، فالكل فينا معرض لارتكاب الأخطاء نساء كنا أو رجالا، سجينات أو سجناء كلنا واحد أمام القانون غير أن نظرة المجتمع ليست واحدة فكما يقال في بلدي “الحبس للرجال” نعم هكذا يقال هنا وذلك يعني أن السجن ليس عيبا على الرجال بل إن السجن وضع لأجل الرجال، ولكن إن كان “الحبس للرجال” فهل هذا يعني أن الذين لم يدخلوا السجن ليسوا برجال، وأن السجن عيب وعار على النساء فحسب؟
وهل أنه بمجرد انتهاء فترة محكومية السجينة فإنه بإمكانها الزواج والإنجاب داخل مجتمع يحيى فيه السجين لانه رجل وتدفن فيه السجينة لأنها إمرأة؟
أو لم يدعنا ديننا الحنيف إلى التوبة والتسامح أم أن التوبة والتسامح حكر على الرجال؟
أو لم يدعنا الله إلى رحمة بعضنا البعض “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” ام أن الرحمة من حق الرجال فقط؟
تساؤلات عديدة سأحاول الإجابة عنها في هذا التحقيق الذي سوف أجريه مع إحدى السجينات والتي تمكنت من إقناعها بقبول الحديث معي بعد محاولات عدة ولأني وعدتها بعدم ذكر إسمها الحقيقي سأسميها بإسم منال*
-منال في البداية أشكرك جزيل الشكر لأنك قبلت الحديث معي، في الحقيقة سوف لن أعود بك إلى فترة السجن بقدر اني أود إستفسارك عن فترة ما بعد السجن، فترةالحرية
-ظننت ان فترة السجن اصعب غير أن فترة ما بعد السجن اصعب واقسى بكثير،
-تقولين أن فترة ما بعد السجن أقسى واصعب هل بإمكانك تفسير ذلك؟
– حينما أنهيت فترة محكوميتي بقيت متسمرة أمام السجن لا أعرف إلى أين أذهب أو إلى من ألجأ
– لم تعرفي إلى اين تذهبين! لم ذلك أليس لك عائلة؟
-بالطبع لي عائلة، عائلة لم تزرني ولو لمرة واحدة، كما أني عندما كنت داخل السجن كانت تصلني بعض الأخبار وأهمها أن عائلتي قد تبرأت مني ولا تريد أن تعرف عني شيئا
-حسنا، إلى أين ذهبت حينها؟
-لم يكن لي خيار اخر، فقد ذهبت إلى منزل إحدى صديقاتي
-هل حاولت الاتصال بعائلتك بعد ذلك؟
نعم فعلت فقد اتصلت بأختي الصغرى والتي كانت تكلمني خلسة
-ماذا أخبرتك أختك؟
-اخبرتني أن أبي قد تبرأ مني كما انه قد حرم ذكر إسمي داخل المنزل
-ألم تحاولي الاتصال به وإخباره أنك نادمة وأنك في حاجة ماسة إليه؟
-بالطبع فعلت ذلك، اتصلت به في احدى المرات غير أنه عندما سمع صوتي أقفل الهاتف
-هل تلومينه؟
– لا يمكنني لومه أبدا فكيف لي ان ألومه والجيران تأتي بسيرتي في كل مناسبة، فالناس لا يقولون منال فعلت بل يقولون ابنة فلان فعلت، لذلك لا ألومه بل ألوم نفسي
-قلت الناس يأتون بسيرتي في كل مناسبة هل تلومينهم، هل تلومين المجتمع؟
-المجتمع قضبان من نوع آخر
-كيف هو هذا النوع الآخر ؟
-المجتمع لا يرحم، إنه ينهي حقك في الحياة فأنا “حية ميتة” حياتي انتهت كل شيء انتهى، لا عائلة، لا عمل، لا زوج، لا سند، لا شيء معي غير الدموع
-قلت لا عمل لك ألم تحاولي إيجاد عمل ما حتى تستطيعين البدأ من جديد ؟
-كيف لإمرأة مثلي أن تجد عملا، فكلما ذهبت للبحث عن عمل إلا و طلبوا مني بطاقة السوابق العدلية عدد ٣، فما من أحد يقبل تشغيل إمرأة من ذوي السوابق العدلية
-كيف تنظر منال اليوم إلى المستقبل؟
-عن أي مستقبل تتكلمين، المستقبل أخرجته من قاموس ذاكرتي منذ أن دخلت السجن، فكيف لإمرأة منبوذة أن يكون لها مستقبل!
-هل تتهمين المجتمع بتشويه مستقبل السجينات؟
-المجتمع لا يشوه مستقبلنا فحسب بل إنه يحولنا إلى منحرفات
-هل يعني هذا أنك تتهمين المجتمع بصناعة نساء مجرمات حتى وإن كن بريئات؟
-نعم كذلك بالضبط فالمجتمع يصنع منا مجرمات ومنحرفات فنحن لا ندفع ثمن أخطأنا لفترة معينة بل ندفع ثمن أخطائنا مدى الحياة وحتى بعد الموت ذلك أنه كما يقال هنا “العار أطول من الأعمار” هذا العار الذي يلازمنا ما ينفك يصنع منا مجرمات فندخل دوامة الإنحراف من الباب الأول وذلك فقط لنعيش
– قلت “ندخل الإنحراف لنعيش” هل لك أن توضحي هذه الجملة؟
-بما أن العائلة والمجتمع قد تنكرا لنا على حد سواء فإننا بالتالي لا بيت لنا ولا عمل لنا سوى …
-سوى ماذا؟ قوليها
-سألطفها قليلا، بعد تعرض السجينة للرفض من أقرب المحيطين بها تجد نفسها وحيدة دون عائل أو سند خصوصا أن الجميع يرفض تشغيل إمرأة كانت في إحدى المرات سجينة فلا تجد أمامها حلا سوى إمتهان بعض المهن الرخيصة لتوفير مكان يأويها ولقمة عيش تكفيها
-يعني تقرين بأن المجتمع هو المسؤول الأول عن كل هذه الانحرافات؟
-نعم هكذا تماما، صدقيني فالمجتمع هو المذنب الأول
-اعذريني ولكن عرفت ان أخاك قد دخل السجن هو الآخر و لأكثر من مناسبة، فهل تنكرت له عائلتك وقامت بطرده من المنزل كما فعلت معك؟
-(ضحكت ساخرة ثم قالت) بالطبع لا إنه يعيش داخل العائلة فهو رجل وأنا إمرأة الا تعرفين أن “الحبس للرجال”!!
-ماذا تريدين أن تقولي في اخر هذا الحوار ؟
-أتمنى أن يعفو الناس عنا، أتمنى أن يتقبلوننا معهم مذنبات كنا أو بريئات، فالله سبحانه يغفر فكيف لهم أن لا يغفروا، كلنا بشر وكلنا عرضة للخطأ
_ في نهاية هذا الحوار أود أن أتقدم لك مرة أخرى بأجمل عبارات الشكر والإمتنان وأشكرك خاصة على شجاعتك للخوض في الحديث حول هذا الموضوع
▪هكذا تحدثت منال عن تجربتها بكثير من الألم والوجع ومثل منال كثيرات داخل مجتمعاتنا فبالرغم من أنهن قد تحررن من قضبان السجن الا أنه قد وقعن ضحايا لقضبان المجتمع، هذا المجتمع الذي يحاول دوما بسط نفوذه ليتنكر لمبدأ التوبة والتسامح والغفران الذي ما انفكت تدعو إليه جميع الأديان السماوية،
١/التسامح والعفو في القرآن الكريم:
-“انما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فؤلئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما” الآية ١٧، سورة النساء
-“فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله غفور رحيم” الآية ٣٩، سورة المائدة
٢/التسامح والعفو في الإنجيل:
-“وأما انا فأقول لكم أحبوا اعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيؤن إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات. فإنه يشرق شمسه على الشرار والصالحين. ويمطر على الأبرار والظالمين” متى٥: ٤٤ و ٤٥
-“فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضا ابوكم السماوي” متى٦:١٤
٣/التسامح والعفو في التوراة:
-“كل ماتكره أن يفعله غيرك بك فإياك أن تفعله انت بغيرك”(١٠)
-“اغتسلوا وتطهروا وأزيلو شر أفكاركم(…) وكفوا عن الإساءة. تعلموا الإحسان والتمسوا الإنصاف”(١١)
__هكذا دعتنا جميع الأديان إلى نبذ العنف والإساءة وخاصة فتح قلوبنا لمعانقة روح التسامح والغفران ومواجهة أنفسنا بالحقيقة وهي أننا كلنا عرضة للخطأ فلسنا ملائكة، نحن أناس خلقنا لنخطئ ونخطئ لنطلب الغفران، فالسجينات هن إنسان ومن حقهن البدأ من جديد وتجاوز أخطائهن وعلى أصحاب الحكمة حمل المجتمع وإن كان بالإكراه على فتح أفق التسامح في طريق السجينات لأن الحياة من حق الجميع وأهم خطوة علينا البدأ منها هي تغيير فكرة الفصل بين المرأة والرجل، لأن هذا الفصل يخلق مجتمعا غير متكافئ وخاصة مجتمع ناقص يتنفس فيه الرجل وتقبر فيه المرأة متناسيا أن كليهما سجين أو سجينة هو “إنسان”
بقلم: حياة الحفيان، تونس