بقلم – صابر الجنزورى:
لم أصدق ان صاحبي قد مات رغم أنى مشيت فى جنازته، أستحضر لقاءاتنا ورحلاتنا، ومرحنا، ولحظات أفراحنا وأتراحنا، وأتذكر إبتسامته، وضحكته، تهيأ لي أنه سينهض من نعشه ونحن نسير فى جنازته، أو يشُق كفنه قبل أن يدخل القبر، تخيلت أنه سوف يفعل ذلك ويكون مقلبا جديدا من مقالبه التى تعود فعلها بأصحابه وزملائه لكنه لم يفعل، وعدت حزينا ودهشتى ظلت معى كثيرا ولم تفارقني.
لم أنسَه ،وداومت على ذكره والدعاء له فى ليلة كل جمعه أقرا وردا من القرآن وأهب ثواب قراءته له، حتى كانت ليلة الأمس التي حضر فيها بقوة بذاكرتي كأنه معى وأتحدث معه.
اليوم ،بعد أن انتهيت من صلاة الجمعة عائدا لمنزلي، سمعت رنة توحي باستقبال رسالة على هاتفي الخلوي، كانت كلمة واحدة مكتوبة (جزر)، يا إلهي إنها مرسلة من رقمه الخاص الذى لم يكن أحد يعرفه سواى.. تلك كلمة السر بيننا، وتعني قبول أو رفض شيء ما عندما يكون معنا أحد، نعقد بها اتفاقا ضمنيا حين نملّ صحبته ونريد أن نغادر، فيرسلها لي أو أرسلها له.. أول مرة اعتمدنا هذه الطريقة عندما ذهب للقاء صديقة فرنسية أحبها كثيراً وعزم على الإرتباط بها واصطحبني معه، يريد رأيي فيها.
وكانت “جزر” مرة واحدة تعني أنها رائعة وجزر مرتين هيا بنا بسرعة!
إحترت وزادت دهشتي، إسترجعت تلك الذكريات وضحكت من طرافتها، حاولت كثيرا أن أتصل على الرقم، كانت الرسالة المسجلة تقول دائما… عذرا الرقم غير متاح أو غير مسجل بالخدمة ويتعذر الوصول إليه، ياربي أيكون حياً ؟ وكان مقلبا كبيرا، لم أستوعب الرسالة وعشت ساعات من الحيرة والقلق على أمل رسالة أخرى أو اتصال، حتى وصلتني الرسالة الثانية فى المساء باللغة الإنجليزية، فتحتها بلهفة شديدة، أحيانا كان يكتب لى بالإنجليزية أو بالفرنسية، تقول.. وصلت توا إلى القاهرة.. أنتظرك بكافيه الزهور، كان هذا الكافيه الذى نلتقى به ، قرأت الرسالة وبسرعة اتصلت على الرقم.. ترد الرسالة المسجلة ..عذرا الرقم غير متاح أو غير مسجل بالخدمة، إذن هو أحمد لا شك وتلك مقالبه السخيفة، لكن كيف لقد دفنا الرجل ووارينا عليه التراب وأخذنا عزاءه؟
حيرة مشوبة بالقلق والفرح والغضب، مشاعر كثيرة متناقضة تفاعلت بداخلى وأنا فى طريقى إلى الكافيه، وصلته، قلّبت عينا حائرة بين الوجوه أبحث عنه حتى سمعت صوتا ينادينى بلكنة فرنسية… ألى.. ألى.. أنا هنا ألى.. إتجهت إلى المنضدة التى آتي من جهتها الصوت، لورين الفرنسية الجميلة تجلس هناك، تذكرتها قبل أن أراها، لم أنس عندما نطقت أول مرة إسمى ” ألي “وتعذر عليها حرف العين وأحمد يحاول جاهدا تعليمها الأسماء والكلمات العربية.. فلا الخاء فارقت أحمد ولا العين عادت لي.
زغردت فى عينيها فرحة كبيرة وهى تصافحنى بحرارة، بقيت حائرا ، أنظر إليها وهى تشير إليه قائلة.. هذا هو ”أخمد”.. مارأيك.. ألى.. بهذه المفاجأة؟
حقا إنها مفاجأة من العيار الثقيل، حملقت فى وجهه وتمعنت في تقاسيمه، اندفعت نحوه بكل شوقي المكتوم بين جوارحي، وجدت نفسي أحتضنه بشدة، أقبله وأبكي وأضحك معا.
تمت