رفعٌ للدرجات!
رفعٌ للدرجات!!
بقلم/ عبد الرحمن علي بن الفلاح
للبلاء وجوه عدة منها: رفع درجات العبد عند مولاه سبحانه إلى منزلة لا يبلغها بكثرة صلاة أو زكاة أو صوم أو حج، ولقد سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم): [ يا رسول الله من أشد الناس بلاءً؟ قال: [الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى العبد على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يدعه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة] صحيح ابن حبان.
ونحن قد نؤدي العبادة ونحسب أنها قبلت بكاملها، وحصلت على الدرجات الكاملة التي خصصت لها، فإذا جاء وقت الحساب وجدنا أن كثيرًا من العبادات إما رُدت علينا، وإما قبلت في أدنى درجاتها، ولكن الإبتلاء حين يصاحبه الصبر والرضا، فإن أجره متيقن، وحظه من القبول عند الله تعالى موفور، ولهذا فالعبد المبتلى كلما صبر على بلائه تخفف من ذنوبه، فيخف وزنه، وتعلو منزلته، ويشارف مقام الملائكة المجبولين على الطاعة، ويمتاز الإنسان العابد، والمبتلى الصابر عنهم أنه خُيِرَ فاختار الإبتلاء وأعد له عدته، من الصبر والاحتساب، فصار صبره جميلاً، ولا يوصف الصبر بهذا الوصف حتى يتحقق فيه شرطان، الأول: الرضا بالبلاء، والثاني: الرضا بالجزاء، فيصبح العبد من الذين قال الله تعالى عنهم: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} المائدة/119.
وهذه المنزلة التي بلغها عباد الله الصابرون على البلاء منزلة تهفو إليها النفوس، ويهون من أجلها كل ما يلاقيه العبد من مشقة وعناء، ولنا في رسل الله وأنبيائه (عليهم الصلاة والسلام) الأسوة الحسنة في ما حل بهم من بلاءات صبروا عليها حتى صاروا مثلاً يحتذى، وقدوة يتأسى الناس بها.
إن نبي الله إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) ابتلاه ربه بلاءً عظيمًا حينما أمره أن يذبح ولده اسماعيل الذي جاءه بعد أن تعطلت عنده وعند زوجه أسباب الإنجاب، فلما بلغ معه السعي، وصار شابًا يافعًا وسندًا لأبيه في بناء البيت أمره ربه سبحانه بأن يقتله، يا له من بلاء عظيم، لم تقل له الرؤيا أن ولدك اسماعيل سوف يموت حتف أنفه، أو أن شخصًا ما سوف يقتله، بل قال له: إني سأذبحك بيدي هاتين، وهذا كما وصفه الحق في القرآن الكريم بلاء عظيم، واستجاب إبراهيم وولده اسماعيل (عليهما الصلاة والسلام) لأمر مولاهما سبحانه وتعالى، وأثبتا أن ولاءهما المطلق لله رب العالمين لا لغيره من الأهل والولد، حتى ولو كان هذا الولد هو الوحيد الذي جاءه بعد أن يئس من الإنجاب لتعطل أسبابه.
استجاب الوالد والولد لأمر الله تعالى، فكان الجزاء مضاعفًا حيث أمره ربه سبحانه بذبح كبش فداءً لإسماعيل، ثم رزقه من الولد إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (عليهما الصلاة والسلام).
وبعد أن نجح نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الإمتحان، وتفوق فيه، وجاء بأعلى الدرجات اجتباه ربه سبحانه، وجعله إمامًا، فقال تعالى: {رب هب لي من الصالحين(100) فبشرناه بغلام حليم(101) فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين(102)} الصافات.
فلما استجاب الوالد والولد لأمر الله تعالى، قال سبحانه وتعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربهُ بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} البقرة/124.
هذا مقام كريم، ومنزلة عظيمة لم يبلغها نبي الله إبراهيم وهو متكئ على أريكته، بل نالها بعد أن اجتاز الإمتحان العظيم، وحقق التفوق فيه، ونال أعلا الدرجات.
هذا وجه من وجوه البلاء يخفى على كثير من الناس، ولو سألوا أنفسهم: لو كان البلاء عقوبة على ذنب قد اقترفه العبد، فما الذنب الذي اقترفه الأنبياء والمرسلون لينزل بهم كل هذا البلاء، وهم الصفوة من عباد الله، المبرؤون من كل خطيئة، وهم المعصومون، ولا شك أن هناك -كما يبدو- وجهًا خفيًا للبلاء وهذا الوجه هو: أن في البلاء رفعة المبتلى بحسب درجة إيمانه، فكلما قوي إيمان العبد اشتد بلاؤه ولهذا فالأنبياء- كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)- أشد الناس بلاءً لأنهم أعلى الناس منزلة عند مولاهم سبحانه وتعالى.