بقلم إيدا موزاياني:
مدير أول لدى بين آند كومباني في وحدة عمليات المواهب والأعمال في منطقة الشرق الأوسط، وأندروز شفيدل، الشريك ورئيس التوجهات الكلية والبرامج المستقبلية لدى بين آند كومباني
تشهد العلاقة بين العاملين والشركات تغيرات جذرية تدفع بالقادة لإعادة التفكير بأسلوبهم في التعامل مع أصحاب المواهب. فما الذي يتطلبه الأمر في عصرنا الحالي ليصل الأفراد إلى أقصى إمكاناتهم في مجال العمل؟ وكيف يمكن للمؤسسات أن تسدّ ثغرات احتياجاتها من أصحاب المهارات والمواهب لتعزّز أفضليتها التنافسية؟
لا شكّ في أن إعادة التفكير باستراتيجية استقطاب المواهب والنظر إليها من منظور الإمكانات القصوى للفرد سيؤدّي إلى تحوّلات مهمة، حيث سيمكّن المؤسسات من التقدّم على منافسيها من حيث مكانتها كجهة عمل مرغوبة، ويتيح لها ذلك الاستفادة من قدرات الموظفين وطاقاتهم على نحو أفضل والوصول إلى الموهوبين منهم ممن لم تكن تدرك مدى مهاراتهم.
وقد أظهرت أبحاثنا ثلاث أفكار رئيسية لدى قادة الأعمال من أصحاب التفكير الاستشرافي وهم يشرعون في هذه الرحلة.
التحوّل من استقطاب المواهب إلى صنعها
ثمّة حاجة مستمرة لتعزيز المهارات وتطويرها، حيث تتّسم احتياجات الموظفين في المؤسسات بكونها أكثر ديناميكية من أي وقت مضى بسبب التطورات التقنية السريعة وتسارع الأحداث والتغييرات في عصرنا الحالي، وتحرص العديد من المؤسسات على إضافة مهارات جديدة إلى قاموسها كالقدرة على التوسّع في تنفيذ الأفكار بنجاح، وذلك لضمان سرعة العمل بصورة مؤثرة. وبالنسبة للعديد من المؤسسات القائمة، يتمثّل الحل المعتاد في البحث عن الموظفين وأصحاب المواهب في الخارج بهدف تعيين من يمتلكون المهارات المطلوبة بالفعل والتخلي عمّن لا يمتلكونها.
ستتولى المؤسسات الرائدة في المستقبل إعادة منح الأولوية للبحث ضمن طواقم موظفيها عن أصحاب المواهب غير المستغلّة وإعادة تصوّر نماذجها القديمة للتعلّم والتطور، إذ ينبغي على المؤسسات فهم المهارات والخبرات الدقيقة لدى كل موظف وإيجاد طرقًا إبداعية جديدة للاستفادة منها في جميع جوانب عمل الشركة.
بوسع المؤسسات البدء بتعزيز استثماراتها في مجال التعلّم، نظرًا لأن التعلّم سرعان ما سيصبح أكبر بند استثماري للمؤسسات التي تنظر إلى الأمر بجدية، حيث سيكون مسألة ينبغي النظر فيها على مستوى الرؤساء التنفيذيين.
كما يمكن أيضًا للقادة التفكير في المسارات المهنية، إذ تواصِل الكثير من المؤسسات الاستثمار في برامج “قادة المستقبل” التي تمنح الزخم للقادة في بداياتهم لتسريع رحلتهم عبر التسلسل المؤسسي. إلا أنه ينبغي على المؤسسات التي ترغب في تحقيق أكبر استفادة ممكنة من إمكانات القوى العاملة لديها أن توسّع من نطاق المواهب التي تستفيد منها عبر اغتنام إمكانات الأفراد غير المناسبين أو غير المهتمين بتولي منصب المدير العام على سبيل المثال.
ولا يزال نظام الإدارة المهنية يلقي بظلاله على كيفية تفكير المؤسسات بالتعلّم والتطوير، ويمنح الأولوية للمهارات العامة والسلم المهني العمودي، فعوضًا عن محاولة إيجاد أشخاص يمتلكون مواهب شاملة في جميع المجالات، سيتعين على المؤسسات أن تركّز على جوانب القوة والاهتمامات المتنوعة لدى العاملين لديها، مما يتطلب تفكيك الأدوار التقليدية للمديرين والتفكير بصورة إبداعية من أجل التطور بشكل أفقي.
وأخيرًا، يمكن للمؤسسات تغيير أسلوب تفكيرها، بحيث يبدأ الموظفون بالنظر إلى مهاراتهم الحالية باعتبارها أصولًا تتعرض للاستهلاك مع مرور الوقت، فأولئك الذين يلائمهم التغيير ويُسهم في ازدهارهم سيرون في الأمر فرصة مواتية لتجربة مجموعة واسعة من المسارات المهنية، ولكن هناك من يترددون في الابتعاد عن مجالات خبرتهم الحالية، وينبغي أن تشجع المؤسسات الوصول إلى حل معتدل يبرز أهمية التكيّف مع المتغيرات دون المبالغة في التنقل من مجال إلى آخر.
ويمكن “لعقلية النمو” – وهو مصطلح ابتكرته عالمة النفس كارول دويك- أن تساعد المؤسسات في العثور على نقطة التوازن المثلى، إذ إن عقلية النمو -بخلاف العقلية الثابتة- ترى في القدرات أمرًا يمكن تطويره وليس ثابتًا لا يتغير أو يتحرك، ويستطيع أصحاب عقلية النمو أن يواجهوا التحديات والفشل ويروا فيها فرصًا للتعلم، حيث يسعون دومًا للحصول على الآراء والمقترحات ويجدون في نجاح الآخرين مصدرًا للإلهام.
الموظفون ليسوا آلات
لا يمكن النظر إلى الموظفين باعتبارهم آلات، فقدرتهم على التفوق في المهام التي تعدّ مهام بشرية فريدة تعتمد على وضعهم العاطفي والنفسي بصورة ملموسة، حيث يجب ألّا ننسى أن المهارات البشرية مصحوبة بنقاط الضعف البشرية، مما يعني أنه ينبغي على المؤسسات خلال العقود المقبلة التعامل مع موظفيها بأسلوب ينطوي على التفهّم والتعاطف.
كما يحمل الموظفون أعباء ذهنية كبيرة ترافقهم في عملهم، وسيكون لدى الضغوطات المتزايدة على تعزيز المهارات بصورة مستمرة وتزايد الغموض بشكل عام أثر سلبي يؤدي إلى تفاقم تلك المشكلات والضغط على قدرات العديد من الموظفين، ولكن يمكن للقادة البدء بتخفيف تلك المعاناة والتوتر باتخاذ خطوات معدودة.
أولًا، يمكن للقادة بناء القدرات الشخصية، حيث قد ينظر البعض إلى رفاه الموظفين على أنه خارج نطاق مسؤوليات الشركة مؤكّدين على أن الوظيفة هي مجرد جزء من حياة الناس، إلا إننا نرى أن هذا القول غير صحيح، نظرًا لأن عدم مساعدة الموظفين في هذا الجانب قد يؤدي إلى شعور عام باستنزاف طاقاتهم، وبالتالي عدم قدرة المؤسسة على الصمود في ظل مختلف التحديات والظروف.
وقد استثمرت العديد من المؤسسات المزيد من الأموال في أنشطة تدعم الرفاه والصحة النفسية خلال العقدين الماضيين، والتي تنوعت بين العضويات المجانية في الصالات الرياضية وحصص اليوغا إلى الدعم في الحصول على الاستشارات، إلا أن تلك المبادرات قد تبدو شكلية ونادرًا ما تُحدث فرقًا حقيقيًا، حيث يرغب الموظفون في قادة يظهرون تعاطفًا صادقًا مع مشكلاتهم المهنية والشخصية دون إطلاق الأحكام.
ويمكن أيضًا للقادة تصميم تدفقات العمل على نحو يلائم الأفراد، حيث تضيف الطريقة المتّبعة حاليًا في تنظيم العمل عبئًا نفسيًا على الموظفين وتقيّد قدرتهم على تقديم أفضل أداء لديهم، إذ يبلغ متوسط ما يستقبله الموظف المكتبي حوالي 120 رسالة إلكترونية يوميًا، ونظرًا لانخفاض تكلفة الاتصال فعليًا إلى الصفر، فقد اعتاد موظفو المكاتب على إرسال الرسائل بأقل قدر من التفكير والاهتمام المسبق، وأصبح الكثير منهم يتعامل مع صندوق البريد كنظام لتنظيم المهام وحسب.
يُعدّ هذا النموذج غير مناسب على الإطلاق لوظائف المستقبل، حيث يتحدث “كال نيوبورت” عن الأمر بشكل مفيد من خلال التمييز الواضح بين “العمل العميق” الذي يكون فيه الدماغ منخرطًا بالكامل في المهمة قيد التنفيذ و”العمل الضحل” الذي نعمل فيه دون انتباه أو تركيز، فالعمل العميق أمر مرهق ولكنه يتيح لنا الاستفادة من أفضلياتنا الفريدة كبشر في عالم تتزايد فيه الأتمتة.
وأخيرًا، يمكن للقادة تصميم الوظائف على نحو يدعم الغايات الفردية، فقد رأينا على مدى السنوات الأخيرة ازدياد النقاشات التي تتمحور حول حاجة المؤسسات إلى تحديد الغاية المؤسسية بشكل أوضح لتكون بمثابة نقلة في التوقّعات المجتمعية، كما أن الأفراد الذين يرون في عملهم غاية ذات مغزى شخصي سيكونون مهيئين بصورة أفضل بكثير للتعامل مع الضغوطات المحتومة التي ترافق العمل في عصرنا الحالي.
يكمن التحدي في كون الأفراد المختلفين يجدون الغاية في جوانب مختلفة، إذ يهتم بعضهم بكل وضوح بالمهمة الاجتماعية، بينما يجدها آخرون أقل أهمية، وسيتعين على المؤسسات أن تدرس كل عنصر من عناصر القيمة التي يحقّقها الموظف وتنظر في كيفية الاستفادة من تلك العناصر لتصل إلى شعور كل موظف بوجود غاية قيّمة وحقيقية.
الرؤية والقيم المشتركة
إن السعي نحو تحقيق رؤية مشتركة عاملًا أساسيًا للترابط في المؤسسات، وبدونه تتراجع الثقة المتبادلة ويتحول مكان العمل إلى ما يشبه سوقًا لا يحمل أي طابع شخصي، ولهذا فإن أفضل المؤسسات هي تلك التي تستطيع أيضًا إدامة الشخصية الفريدة التي تميّزها مجموعة من القيم المشتركة في جميع مستويات وجوانب الشركة، حتى عند توسّعها.
وسيكون تحقيق ذلك أكثر صعوبة في ظل تحوّل العمل عن بعد إلى أمر معتاد، لتتحول العلاقة بين الموظفين والشركات إلى ما يشبه التعاملات المتبادلة دون أي روح، لذا يُعدّ توفير الفرص للتواصل الشخصي غير الرسمي أمرًا بالغ الأهمية للموظفين العاملين عن بعد، وسيحتاج القادة كذلك لبذل جهد أكبر لضمان مشاركة الموظفين المؤقتين أو العاملين عن بعد لقيم ورؤية الشركة – لا سيما عندما تكون علاقتهم بها مستدامة بمرور الوقت.
وخلاصة القول، نرى أن العقد المقبل سيكون عقدًا تجريبيًا يفضي إلى نتائج مهمة فيما يتعلق بالعمل، ولا يزال هناك الكثير مما ينبغي أن نتعلّمه حول المقاربات المثلى لتحقيق الفعالية، كما أن هناك مساحات كبيرة تتّسع للمقاربات الإبداعية الجديدة، ولكن هناك أمرًا واحدًا مؤكدًا يتمثّل في أن المؤسسات التي ستصر على التمسّك بأنماط التفكير القديمة ستجد صعوبة جمّة في مواكبة العصر.
أما بالنسبة للموظفين، فسيبدو العقد المقبل كسلسلة من التغييرات والتطورات المستمرة بلا توقف، وهي بيئة تزيد من أهمية دور قادة الأعمال في محاولة فهم تطلّعات الموظفين ومخاوفهم، والاستثمار في مساعدتهم لتحقيق أقصى إمكاناتهم في العمل، فإعادة الطابع الإنساني إلى طريقة تفكيرنا بالعمل ستكون الاستراتيجية الأصحّ في التعامل مع الموظفين وأصحاب المواهب في المستقبل.
التعليقات مغلقة.