أحمد مصطفى:
عقد الجامع الأزهر اليوم الثلاثاء، اللقاء الأسبوعي لملتقى الأزهر للقضايا المعاصرة، تحت عنوان: دور العقيدة في بناء الإنسان”، وذلك بحضور كل من؛ فضيلة أ.د سلامة داود رئيس جامعة الأزهر، وأ.د حبيب الله حسن، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، وأدار اللقاء أ. كمال نصر الدين، الإعلامي بإذاعة القرآن الكريم.
في بداية الملتقى، قال فضيلة الأستاذ الدكتور سلامة داود، أن العقيدة الراسخة هي الأصل الثابت لليقين الذي يستقر في القلب، ولا يتطرق إليه الشك أو التزعزع؛ فلو اجتمعت قوى الدنيا بأسرها لما استطاعت أن تزحزح هذا اليقين من قلب المؤمن. وأشار فضيلته إلى أن بناء الإنسان الحقيقي يعتمد على محورين متوازيين لا ينفصلان: بناء الجسد وبناء الروح، وقد تكفل المولى عز وجل ببيان هذين البنائين في مطلع سورة الرحمن، حيث قال تعالى: “الرَّحْمَٰنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ”، جاعلاً تعليم القرآن (بناء الروح) مقدماً على خلق الإنسان (بناء الجسد)، دلالةً على أهمية الجانب الروحي كأصل للحياة المستقيمة، فالإيمان هو النور الحقيقي الذي يحيى به الإنسان ويضيء مساره، كما وصفه تعالى: “أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ”، وقد فسر العلماء النور هنا بالهداية الإلهية التي تنقل المؤمن من موت الغفلة إلى حياة اليقين؛ لذلك، من الواجب على المؤمن أن يديم شكر المولى على نعمة الهداية للإيمان؛ لأن الإيمان حقاً هو سبب الحياة الروحية والنور الذي لا ينطفئ.
وأوضح فضيلته أن الإيمان ليس مجرد كلمات تنطق أو طقوس تؤدى، بل هو منظومة سلوكية متكاملة وأخلاق تمارس في الحياة، وهذا ما يؤكده قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، هذه الأخلاق الكريمة ليست إلا ثمرة يغرسها الإيمان الراسخ في نفس المؤمن، فالقرآن الكريم مليء بالتوجيهات التي تحث المسلم على حسن التعامل والتجمل بمكارم الأخلاق، ولو تأملنا في الآيات الأولى من سورة البقرة: “الم (١) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ”، لتبين لنا أن الإيمان بالغيب هو الركيزة الأساسية والباعث الجوهري الذي يدفع المؤمن للتحلي بمكارم الأخلاق والاهتداء بسلوكه وأفعاله في كل حين، فالعقيدة الصحيحة مبناها هذا الإيمان بمرجعية غيبية، ولذلك، لكي تظل صلة الإنسان قوية ومستدامة بالله سبحانه وتعالى، يجب أن يكون متجسداً لهذه الأخلاق الفاضلة في واقعه العملي، لتكون الأخلاق دليلاً على صدق إيمانه.
وأكد فضيلته أن الاقتراب من ساحة القرآن الكريم هو الملاذ الذي يوفر الحل لكل معضلة ويزرع الأمن التام في القلب؛ فالمؤمن لا يخاف ولا يخشى سواه سبحانه، مصداقًا لقوله تعالى: “الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”، وهذه الآية تفسر بوضوح كيفية تحقيق هذه الطمأنينة الروحية العميقة، وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم للاعتصام بالله واللجوء إليه لدرء الخوف، معلماً إيانا هذا الحصن النبوي المنيع: “اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم”، فمن تحصن بحصن الله تعالى، الذي بيده مقاليد كل شيء، لا يمكن أن يناله أحد بمكروه، ويظهر هذا المفهوم الشامل للأمن في منهج القرآن نفسه؛ حيث نجد في سورة البقرة يحدثنا المولى سبحانه وتعالى عن الأمن: “وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا” وفي الجزء الأخير من المصحف الشريف في سورة قريش: “الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ”، ليصبح الأمن حاجة أساسية، وكد وضع النبي صلى الله عل وسلم معايير كمال الأمن بقوله صلى الله عليه وسلم: “من بات آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها”.
وفي ختام كلمته شدد فضيلته على أن الأصل في بناء الإنسان هو تحقيق السكينة النفسية والاطمئنان الداخلي الثابت، بعيداً عن أعراض الاكتئاب والتوترات النفسية المعاصرة التي يعاني منها بعض الشباب اليوم، ويرجع سبب هذه الاضطرابات إلى ضعف الصلة بالله سبحانه وتعالى، فلو وثق الإنسان صلته بربه حقاً، وتحقّق لديه اليقين الصادق، لما خاف إلا الله ولما ضره شيء أبداً في الدنيا والآخرة؛ لأن الإيمان يمثل نجاة وفوزاً عظيماً، كما جاء في قوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ”، لأن الإيمان هو جوهر أخلاق وسلوك وعمل، فإنه يكسب المؤمن عزة نفس وكرامة تمنعه من إذلال نفسه لغير الله سبحانه وتعالى الذي قال: “وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين”، وهذه العزة تستدعي العمل والإنتاج، تطبيقاً لمبدأ اليد العليا الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم: “اليد العليا خير من اليد السفلى”؛ فالإيمان يرفع الهمة ويحول المؤمن إلى طاقة بناء وعطاء لا استجداء.
من جانبه، أكد فضيلة الدكتور حبيب الله حسن، أن البشرية اليوم في أمس الحاجة إلى مبادئ الإسلام الذي يحمل في طياته الهدي والنور لكل مناحي الحياة، ليخرجها من ظلمات الجهل والاضطراب إلى نور اليقين والاستقامة، ولتأكيد هذه الشمولية، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان منظومة متكاملة، فقال: “الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”، هذا الحديث الشريف يوضح أن الإيمان لا يقتصر على الاعتقاد القلبي أو النطق اللساني فحسب، بل يمتد ليصبح سلوكا عمليا يراعي حقوق الإنسان والبيئة معا؛ فإماطة الأذى عن الطريق تمثل حس المسؤولية تجاه المجتمع، بينما يمثل التوحيد “لا إله إلا الله” أصل العقيدة، وهكذا، تتكامل أركان الإيمان لتشكل دستوراً عملياً يضمن صلاح الفرد والمجتمع ويوفر حلولاً شاملة للقضايا المعاصرة.
وأوضح فضيلته أن اعتدال الإنسان في حياته الدنيا واستقامته في سيره هما الترجمة العملية لقوله تعالى: “اهدنا الصراط المستقيم”، هذا الذي نردده في كل ركعة من صلاتنا، ليس مجرد طلب لسلوك الطريق الصحيح، بل هو تعهد دائم بالاتزان في جميع الأمور، كما أن الإيمان الراسخ باليوم الآخر هو القوة الدافعة التي تحث الإنسان على السير في الدنيا ملتزماً بأصل إيمانه؛ فلا يسلك طريق الظلم، ولا يقع في الفساد، ولا يؤذي أحداً، بل يكون سلوكه وأفعاله انعكاساً صادقاً لإيمانه، فاستحضار المسؤولية أمام الله تعالى يجعل المؤمن يقدم المنفعة على المفسدة، ويتجنب الإفراط أو التفريط، محققاً بذلك الاعتدال والكمال في تعامله مع نفسه ومع الخلق.
