مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

د. محمود فوزي يكتب الإبداع والواقع الافتراضي الجديد (الميتافيرس)!

 

 

 

بنظرة قد لا يعتريها ظن بأن ما يسبب للإنسان السعادة هو مدى شعوره الذاتي بإنسانيته تلك الدافعة لتكوين هذه الذات ونمط تفاعلها، ومن ثم وجودها الايجابي والذي يعكس مفهوما للسعادة يتعلق بالجانب الإجرائي الذي تعكسه العوائد وتأثيراتها المختلفة.

 

وإذا كان الواقع الجديد قد أحال الانسان الى التفكير بعيدا عن هذا البعد الغائي ، لما يمتاز به هذا الواقع من تعقيد شديد وبما تسببه ثوراته المتلاحقة علمية ومعرفية وتكنولوجية ورقمية ..الخ ، فإن جوهر ما يعنينا في هذا السياق هو التفكير بشكل مجرد والتساؤل المباشر والموضوعي ، هل كل ما يحدث قد يسبب للإنسان ارباكا ؟! ، وهل هو ضار أو سلبي في عمومه، بحيث لا يمكن التفكير في جوانب قد تكون مضيئة أو ايجابية فيه ؟! ، أم أننا نحتاج بحق للتفكير الذي يساعدنا على الخروج من النمطية والقولبة بحيث ندرك ما للتطور من ايجابية أو عوائد ربما تزيد من الرصيد الانساني وتساعده على الابداع في كل مستوياته ومساراته الفنية والأدبية واللغوية والجمالية والتعبيرية ..الخ …

 

لقد عمدت الثورة الرقمية شئنا أم أبينا الى خلق انسان جديد بمواصفات فريدة ، هذا الانسان لا يستطيع أن يفكر ويخلق حالة ابداعية تتعلق بهذه التغيرات عميقة الأثر ممتدة الفعالية ، بحيث تتغير أدواته ومعاييره وممكناته لتنتج شكلا آخرا من التجاوب والابداع الذي يمكن أن نسميه ابداع الابداع ، فالفكر يحتاج للتحرر ، والقيم تحتاج لإعادة التفهم ، والمهارة تحتاج لمزيد من التمهر ، حقا تتنامى الرقمنة لكي تسمح للإنسان بأن يفكر بطرق مختلفة وبقوانين جديدة وبمضامين تجعل من حياته ثورة على انسانيته ليشكل ملامحها من جديد ، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الابداع في العصر الرقمي ، أو الابداع القائم على الرقمنة !!!

 

وبنظرة متفحصة الى ما يسود في الواقع الرقمي، نجد أن هناك تطورا غير مسبوق يتعدى نطاق ما هو متعارف عليه، فمع إشارة المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة (فيسبوك) “مارك زوكربيرج” ، إلى الواقع الافتراضي الجديد المسمى بالميتافيرس (Metaverse)، فإن (فيسبوك) رائدة شركات خدمات التواصل الاجتماعي والدردشة، على مدار ما يقرب من 15 عاما، ستتحول إلى شركة متخصصة في العوالم الافتراضية العملاقة، وتقديم محتوى وخدمات (الميتافيرس). و(الميتافيرس) هو مصطلح ذاع صيته في الآونة الأخيرة وبشدة، وهذا المصطلح يتشكل من دمج كلمتين: هما (ميتا) Meta وتعنى (ما وراء) (beyond) أو في الجانب الآخر، والثانية (verse)، وتعني (universe) أو العالم، أي العالم الموازي. ويقصد بالمصطلح (ميتافيرس) في مجال تكنولوجيا المعلومات أنه الواقع الافتراضي وخلق بيئة رقمية افتراضية، تصبح مستقبل الإنترنت في الأعوام المقبلة.

 

و(الميتافيرس) قادم لا محالة؛ هذا ما قاله الرئيس التنفيذي لشركة نفيديا “Nvidia” “جانسن هونج” منذ عام مضى، رغم أنه في وقت مضى كان محض ضرب من ضروب الخيال العلمي؛ خصوصاً الرواية التي أبدعها “نيل ستيفنسون” 1992م بعنوان: (سنو كراش) Snow Crash ” ” حول كون افتراضي شامل يمكن أن يوجد جنباً إلى جنب مع الكون المادي. ويصف (الميتافيرس) بيئة افتراضية، يمكن من خلالها أن يوجد شخص -من خلال صورة رمزية أو أفاتار Avatar”” -مع أشخاص آخرين في مساحات رقمية ثلاثية الأبعاد. ويمكن للشخص التفاعل معها وكأنه بالفعل بداخلها، فهي تجعله يشعر بأنه يعيش واقعا حقيقيا وليس فقط صورة مجسمة في عالم افتراضي. وشرح (زوكربيرج) الفكرة ببساطة، ضاربا مثلا بأنك إذا شاهدت فيديو أعجبك يمكنك من خلال (الميتافيرس) أن تشارك فيه أو ترقص بداخله، وتتحدث إلى الأشخاص الموجودين فيه، وإذا أردت أن تحضر مباراة كرة قدم في كأس العالم مثلا، في بلد بعيد ولا يمكنك السفر، يمكنك من خلال ( الميتافيرس) حضور المباراة في بيئة افتراضية على الإنترنت.

 

وهذا الإعلان الضخم للرئيس التنفيذى لشركة بحجم (فيسبوك) له دلالاته، فعملاق التواصل لديه أكثر من مليارى مستخدم حول العالم، وسيطر بشكل كبير على شبكة الإنترنت، خاصة في السنوات العشر الأخيرة، وضم إليه تطبيقات شهيرة مثل (واتس آب) و(إنستجرام)، وأصبح جزءا لا يتجزأ من حياة المستخدمين ، وهو ما ينذر بأن العالم في السنوات القليلة المقبلة سيشهد طفرة تكنولوجية هائلة تطرح نمطا جديدا للحياة تقوده تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي (ميتافيرس) أو العالم الافتراضي، العملاق الجديد لن يكون مقصورا على أغراض الترفيه والتسلية، بل كل أوجه الحياة.

 

والسؤال الآن إذا كانت هذه هي الخطوة الأولى نحو عالم خيالي، لم يكن في الحسبان، فهل سيأتي اليوم الذي تسيطر فيه مواقع التواصل بقيادة (ميتافيرس) الجيل التالي للإنترنت على كل أوجه الحياة؟؟

 

إن الانسان سيكون مغمورًا بالكامل في العالم الافتراضي، وبارتدائه جهاز حول الرأس سيكون قادرًا على التفاعل بشكل يطابق جميع تحركاته، الذي يريد إرسالها إلى الأشخاص الذين يتفاعلون معه من خلال الميتافيرس. فلقد خلق الواقع الممتد “extended reality” الذي يجمع بين العالم الافتراضي المعزز، والعالم الواقعي، تلك الفكرة التي تمثل الطفرة القادمة في عالم الإنترنت، وستصبح الوسيلة الرئيسة للمشاركة الاجتماعية والتجارية. لقد أصبحت الحقائق المادية والافتراضية متشابكة بشكل متزايد، فهناك تقنيات مثل: نظارات الواقع الافتراضي، والواقع المعزز (VR glasses). وهذا أكبر دليل على أن التقنية والإنترنت تحيط بنا من كل جانب، بل ويسيطر على الطريقة التي نفهم بها العالم. وستكون المدن كالتي ظهرت في فيلم “Hyper Reality” حيث اندمجت فيها الحقائق المادية والافتراضية، وكانت المدينة مشبعة بالوسائط !!!

 

وبقليل من إدراكنا لمفهوم الابداع في مستوياته وأبعاده المختلفة والذي يعني التعامل مع الأشياء المألوفة بطريقة غير مألوفة، والمبادرة التي يبديها الشخص بقدرته على الانشقاق من التسلسل العادي في التفكير إلى مخالفة كلية ، فهو يرى ما لا يراه الآخرون ، و ينظم الأفكار ويظهرها في بناء جديد انطلاقاً من عناصر موجودة ، فالإبداع هو الطاقة المدهشة لفهم واقعين منفصلين والعمل على انتزاع ومضة من وضعهما جنباً إلى جنب، إنها طاقة عقلية هائلة، فطرية في أساسها، اجتماعية في نمائها، مجتمعية إنسانية في انتمائها، تعالج المشكلات وتلبي الرغبات ، وتصوغ الواقع اعتمادا على معطياته ، بشكل أكثر روعة وأشد أثرا في عوائده …

 

وإذا ما حاولنا أن نضع تصورا تقريبا لما قد تحدثه تقنية (الميتافيرس) باعتباره يمثل العالم الجديد ذو الخصائص الفريدة والخلاقة، وخاصة في مجال الابداع الانساني، فإن ثمة أمور يمكن أن تكون حادثة في هذا السياق، ومنها:

 

-الميتافيرس يمكن أن يساعد على تطوير الابداع، بأن يمدنا بأفكار غير نمطية في تناول القضايا والموضوعات.

قد يهمك ايضاً:

بيراميدز يتلقى دعوة رسمية من الكاف لحضور حفل الكأس وهوية…

ملتقى المرأة بالجامع الأزهر يناقش فلسفة عبادة الحج 

– قد يكون آلية مهمة أو وسيلة لتطوير المنتج الإبداعي.

– يساعدنا في توسيع نطاق التصور ومن ثم الابداع المفارق أو المعجز.

-خلق حالة من التجاوب مع الآخرين في العالم، وبالتالي تسهيل اقامة المنتج وذيوعه.

– التواصل غير المشروط وعرض التجارب والتعرف عليها.

-اقامة جسور من الشراكة بين المقوم الرقمي (التكنولوجيا الرقمية)، والمقوم البشري (الانسان)، بكل ما يمكن أن تتيحه هذه الشراكة من تحسينات في الواقع الاجتماعي الآني والمستقبلي.

-يمكن أن يكون المدخل الجديد لاكتشاف الانسان، وتأصيل الابداع المتزامن مع التحرر الوجودي.

-قد يكون هو الدالة الأكيدة لتغيير ثقافة الانسان وموروثه الشعبي بحيث يتم خلق حالة أو ثقافة جديدة يكون فيها الانسان الرقمي هو المقوم لبناء الانسانية الرقمية.

 

والسؤال هل سيعمد الميتافيرس على تنميط الفكر البشري؟، هل سيساعد على السيطرة على قدرات الانسان وتوجيهها ؟!، هل سيؤدي الى حالة من الفوضى والتشتت وعدم القدرة على السيطرة على مجريات الأمور والحياة ؟! ، وهل سيكون الميتافيرس ذو أثر هدام على الابداع، أم أنه سيفتح آفاقا أخرى له؟، وما الذي يمكن أن تؤديه المؤسسات التعليمية والثقافية في مصر لكي تتعامل مع هذا الواقع الجديد سواء بالسلب أم الايجاب ؟!، وما هي الأفكار والرؤى الآنية والمستقبلية التي يمكن أن يقدمها التربويون والمثقفون في مصر للاستفادة من هذا الواقع الجديد الذي سيكون له دوره وبما لا يدع مجالا للشك على الابداع ومعطياته !!!

 

لا مرية أن هناك تضمينات يمكن أن نستوحيها من هذا السياق، حيث سنجد أنفسنا مدفوعين فكريا وبحثيا لمعالجة قضيتين مهمتين هما (الميتافيرس والتغيير، الميتافيرس ودلالة الكون الفوقي!) ، ومدى انعكاس ذلك وتماسه المباشر أو غير المباشر على الإبداع الانساني بشكل عام. وهل سيكون الابداع الإلكتروني (الرقمي) دالة أو وسيلة للإبداع الانساني الأكثر عمقا واتصالا بالوجود الخلاق ؟!

 

إنها دعوة للتعرف على هذا الواقع الجديد وموقف المفكرين منه !!

 

أ.د. محمود فوزي أحمد بدوي

أستاذ أصول التربية، ووكيل كلية التربية

جامعة المنوفية