مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

د. محمد الحلفاوى يكتب كيمياء السلوك

بقلم د. محمد الحلفاوي

نتعرض فى حياتنا لوقائع كثيرة تحتاج إلى شهادة شهود؛ حتى يستبين المصيب من المخطئ .. سواء فى العمل أو محيطنا الإجتماعى أو فى الشارع الذى نسير فيه.

وعندما نطلب من شهود الواقعة الحضور للإدلاء بشهادتهم نفاجأ ببعضهم – والذين كنا نحسن الظن بهم – يتملص من الشهادة بدعاوى مغلوطة منها ” أنا مش عاوز أدخل نفسى فى مشاكل, أنا مش عاوز أزعل حد منى, أنا مخدتش بالى وهكذا ” !!

ومما يزيد حيرتنا أن هذا البعض معروف عنه الصلاح الدينى, وما كنا نتوقع منه التهرب من آداء الشهادة والتسبب فى ضياع الحقوق .. لأن كتم الشهادة حرام ومن كبائر الذنوب ومعلوم من الدين بالضرورة، ودب أدبأالقرآن الكريم يؤكد ذلك

فى قوله تعالى : ” ومن يكتم الشهادة فإنه آثم قلبه ” .

فكيف نفسر هذه المفارقة والتناقض ؟!

كيف لإنسان طيب بالفعل ويصلى الفروض ويصوم ومشهور بالصلاح بين زملائه .. أن يجبن من آداء الشهادة وقول الحق ويتسبب فى ضياع الحقوق ؟!

والأدهى أنه عندما يضطر هذا الشاهد للذهاب للمحكمة للإدلاء بالشهادة – بناء على طلب المحكمة – ورغم حلف اليمين .. نجده يقول كلاما متناقضا ظنا منه أنه – بهذا – يرضى جميع الأطراف !!

تفسير ذلك التناقض نجده عند نظرية ” الأخلاق المركبة ” للعلامة عبد الحليم أبو شقة رحمه الله .. وهو أول من أشار إليها – على حد علمى – وذلك فى رسالته الصغيرة ” خواطر حول أزمة الخلق المسلم المعاصر ” والتى تم طباعتها بعد وفاته فى 1995م .

وحتى نقرب هذه النظرية للقارئ نستعين بعلم الكيماء , فالمواد الكيميائية تتفاعل فيما بينها منتجة مركبا نهائيا يختلف عن المواد المتفاعلة .

ونضرب مثلا بالصوديوم :

فعندما نضع الصوديوم مع الكلور ينتج ” كلوريد الصوديوم ” .

وعندما نضع الصوديوم مع الماء ينتج هيدروكسيد الصوديوم وغاز الهيدروجين

وعندما نضع الصوديوم مع الأوكسجين ينتج أكسيد الصوديوم

وهكذا رغم أن المادة الأولى واحدة وهى  الصوديوم إلا أن المنتج النهائى اختلف عندما أضيف للصوديوم مواد مختلفة .

وهذا يشبه – إلى حد ما – ما يحدث فى عالم الأخلاق طبقا لنظرية ” الأخلاق المركبة ” :

فهذا إنسان عنده خلق ” التقوى ” + خلق ” الإيجابية ” يؤدى ذلك إلى خلق ثالث هو

” الجرأة فى قول وشهادة الحق وإنكار الخطأ ” .

وهذا إنسان آخر عنده نفس الخلق ” التقوى ” + خلق ” السلبية ” فيؤدى ذلك إلى خلق ثالث هو ” الجبن وكتمان الشهادة وعدم إنكار الخطأ .

مثال ثان :

خلق ” الورع ” + خلق ” التحرر الفكرى ” يؤدى إلى ” اجتهاد ”

خلق ” الورع ” + خلق ” تقديس التراث ” يؤدى إلى ” جمود

قد يهمك ايضاً:

أحمد سلام يكتب آخر الأسبوع

المقاومة الرقمية للسردية الفلسطينية

مثال ثالث :

خلق ” العفة ” + خلق ” الإيجابية ” يؤدى إلى ” نشاط محتشم ”

خلق ” العفة ” + خلق ” السلبية ” يؤدى إلى ” العزلة والخمول والهروب من الحياة ”

وتاريخ عصر الرسالة النبوية ملئ بهذه النماذج المضيئة ؛ فهذه أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما مثال حى للعفة والإيجابية والنشاط المحتشم .

وهذا يفكك الصورة الذهنية الخاطئة والمزورة التى تعتنقها بعض الحركات التقليدية والمتطرفة عن النساء فى عصر النبوة والإدعاء بأنهن كن قواعد فى البيوت ولا يشاركن فى الحياة العامة ” سياسيا واجتماعيا وثقافيا ” .. وكتب السنة الصحيحة وعلى رأسها البخارى ومسلم ” تؤكد ما نقول .

فهذه الصحابية الجليلة أسماء ” ذات النطاقين ” ودورها المشهود والمشهور فى حادث هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأبى بكر إلى المدينة والمنورة .

وكذلك موقفها الجرئ والشجاع مع ولدها عبد الله بن الزبير , عندما شجعته على الاستمرار فى موقفه وعدم الهروب من المعركة مع بنى أمية وعدم الوجل من التمثيل بجثته بعد قتله ؛ لأن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها !!

وعندما قتل وتم التمثيل بجثته .. ذهبت لمكة وهى صاحبة المائة عام وكانت كفيفة .. وقالت للحجاج بن يوسف الثقفى كلاما شديدا مما أدخل الرعب لقلبه .. وقامت بمنتهى القوة بجمع أشلاء ابنها ودفنه ثم ماتت بعده بأيام !!

إن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنها نموذج مضئ للعفة والإيجابية والنشاط .

مثال رابع :

الإخلاص لله + تسامح يؤدى إلى

” تعاون ”

الإخلاص لله + تعصب يؤدى إلى

” طائفية ”

مثال خامس :

المحبة + يقظة يؤدى إلى إلى تعاون

المحبة + بلادة يؤدى إلى ” لا شى ” مجرد عاطفة إو إدعاء

ومما يدعم تفسير وتحليل الأستاذ أبو شقة .. ما ورد فى الحديث ”  الناس معادن خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام ” رواه البخارى ومسلم  .

فالدين يقدح ويكشف معدن الإنسان .. فعمر بن الخطاب رضى الله عنه كان شجاعا فى الجاهلية وزاده الدين شجاعة فى الحق , وكذلك خالد بن الوليد رضى الله عنه كان محاربا جسورا فى جاهليته وإسلامه .

يقول العلامة أبو شقة فى كتابه ” خواطر حول أزمة الخلق المسلم المعاصر ” :

” قد تعجب أحيانا من صدور نوعين من السلوك من شخصين نراهما متماثلين فى خلق من الأخلاق، ولكن هذا العجب يزول إذا أدركنا أن بعض الأخلاق أو بعض أنماط السلوك إنما يتشكل من خلقين أو أكثر , ولكى يصدر سلوك واحد من شخصين يستلزم تماثلهما فى جميع الأخلاق المكونة لهذا السلوك , ولا يكفى التماثل فى خلق واحد ”

رحم الله العلامة الكبير عبد الحليم أبو شقة .. فقد كان أحد العقول الفكرية الكبيرة ويكفيه فخرا موسوعته الفذة ” تحرير المرأة فى عصر الرسالة ” التى قضى فى كتابتها عشرين عاما.

 

التعليقات مغلقة.