مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

د. محمد الحلفاوى يكتب القمص سرجيوس .. أيقونة الوحدة الوطنية

بقلم د. محمد الحلفاوى

بطاقة حياة:
١-ولد فى 1883م بمدينة جرجا, محافظة سوهاج بصعيد مصر لعائلة “مسيحية أرثوذكسية” متدينة ؛ الأب والجد وجد الجد قساوسة.
٢-انتقل من جرجا للقاهرة والتحق بالمدرسة الإكليركية اللاهوتية فى 1899م وتخرج فى 1903م
٣- عُين فور تخرجه معلما بالمدرسة الإكليركية
٤- تزوج فى 1904م وأنجب 10 أبناء خمسة ذكور و5 بنات و 14 حفيدا
٥- رسم كاهنًا لملوى, بمحافظة المنيا
٦- خدم واعظا بالزقازيق وسنورس بالفيوم ثم وكيلا لمطرانية أسيوط 1907م
٧- حصل على دبلوم فى العلوم اللاهوتية فى 1912م.
٨- ذهب للسودان فى 1912م وكيلا لمطرانية الخرطوم فى الفترة من ١٩١٢- ١٩١٥م
٩- تم ترحيله من السودان لمصر فى 1915م بأمر حاكم السودان الإنجليزى آنذاك “ريجنالد وينجت”.
١٠- أصدر مجلة المنارة المرقسية فى 1912م أثناء إقامته بالسودان ؛ لمهاجمة الاستعمار الإنجليزى وإصلاح الكنيسة والدعوة للوحدة الوطنية .. ثم أعاد إصدارها ثانية فى 1930م بالقاهرة تحت اسم ” المنارة المصرية ” وكان يصدرها يوم السبت أسبوعيا .
١١- أسس كنيسة الشهيد العظيم مار جرجس فى 7 شارع العزيزى حى القللى بالقاهرة
١٢- اعتقل فى إبريل 1919م, ونُفى إلى رفح .
١٣- عين وكيلا ونائبا للبابا مكاريوس الثالث فى 25-12-1944م حتى 1946م
١٤- عين وكيلا للبابا ” يوساب الثانى ” فى 17-10-1949م
١٥- تم انتخابه عضوا بالمجلس الملى العام فى انتخابات 1950م
١٦- كتب مذكراته فى 1936م
١٧-توفى فى 5 سبتمبر 1964م وأصرت الجماهير من مسلمين ومسيحيين على حمل نعشه على الأعناق من شبرا حتى الكاتدرائية القديمة فى الأزبكية بحضور مندوب عن الرئيس جمال عبد الناصر1)
وتكريمًا له أطلقت محافظة القاهرة اسمه على أحد الشوارع الهامة بحى مصر الجديدة.
من تلاميذه :
بولس باسيلى , سليمان نسيم , غالى شكرى , القس إبراهيم عبد السيد , د.مجدى يوسف , إبراهيم هلال

هو ملطى سرجيوس عبد الملاك .. رجل دين, مناضل ضد المستعمر, كاتب صحفىى , مصلح دينى واجتماعى, خطيب مفوه, عاشق لوطنه , أيقونة المواطنة والوحدة الوطنية فى العصر الحديث.

فهو رجل الدين :
الذى تقلد أغلب الوظائف الدينية فى السلك الكنسى؛ فعين لتفوقه معلما فى المدرسة الإكليركية وعمره 16 عاما !!
ثم عين كاهنا .. قسيسا .. قمصا .. وكيلا لمطرانية  .. حتى تقلد منصب وكيل ونائب للبطريرك.
يقول حفيده إدوارد حلمى جيد من ابنته
جوزفين :
” ما أتذكره جيدا وكنت شاهدا عليه هو عظاته التى كان يلقيها فى كنيسة طوسون بشبرا, إذ كانت تفد إليه حشود رهيبة , تتسبب فى إرباك المرور لساعات؛ وكان ذلك بسبب ما تميز به من أسلوب ساحر فى مخاطبة الناس , كان يحبس أنفاس المستمعين بمعنى الكلمة , وعلى غير عادة الخطب الدينية لم يكن الملل يتسلل إلى نفوس الحاضرين , بل على العكس كانوا على استعداد للاستماع إليه لساعات متواصلة بنفس الاهتمام والانجذاب , كان قادرا على أن يبكيهم ويضحكهم فى ذات اللحظة … ففهمت لماذا اعتبروه رائد المنبر وأحد أمراء الخطابة ” 2)
ووصفه أحد الضباط الإنجليز المكلفين من حكمدار القاهرة بتأمين الشوارع المؤدية لكنيسة القمص سرجيوس فى 1915م أثناء عظته – بقوة ٤٠ جنديا – بأنه ( مارتن لوثر مصر ) عندما وجد كتلا بشرية تملأ الشوارع للاستماع لعظاته 3)
وللقمص سرجيوس دراسات دينية كثيرة منها مؤلفه الأشهر ” تفسير الأناجيل .. مع تعاليم ومواعظ ” و ” مواعظ القمص سرجيوس ” .
وله كتابات كثيرة يدافع فيها على العقيدة المسيحية ضد منتقديها .
وينتقد البعض قيام القمص سرجيوس بالرد على منتقدى العقيدة المسيحية, وهذا مردود عليه بأن واجبه كرجل دين مسيحى .. هو الدفاع عن عقيدته التى يؤمن بها .
وهو الثائر ضد الاستعمار:
أحد قادة ثورة ١٩١٩م ضد الاحتلال الإنجليزى
وكيف لا ومفتاح شخصيته – كما يقول المؤرخ الدكتور محمد عفيفى – أنه :
” ثائر, بركان متفجر، محيط هادر, شعلة مشتعلة من النور, وجذوة لا تخمد من النار”
ويحكى القمص سرجيوس بداية مشاركته فى ثورة 1919م قائلا :
” ظلت حياتى موزعة بين الدراسة والوعظ والعبادة, حتى أحد أيام سنة 1919م وكنت قابعا فى بيتى عندما سمعت ضجيجًا وصخبا فى الشارع , ولما تبينته وجدته مظاهرة من الشباب تهتف ” يحيا سعد ” , ” يحيا الاستقلال ” , ولما سألت عن السبب قيل لى أن المستعمرين قد اعتقلوا سعد زغلول الذى يطالب بالاستقلال التام , وهنا تدفقت الدماء حارة إلى رأسي وكأنما براكين الدنيا كلها قد تفجرت , فأسرعت إلى الشارع وانضممت إلى المتظاهرين وسرنا نهتف ونصيح حتى انتهت بنا المظاهرة إلى الأزهر ” 4)
وكان عمره آنذاك لم يتجاوز ال 36 عاما فقاد الجماهير بمظاهرة كبيرة اتجهت نحو الجامع الأزهر فاعتلى المنبر مرتديا الملابس الكهنوتية فكان بذلك أول كاهن مسيحي يعتلي منبر الأزهر للخطابة فظل يعيش في الأزهر ثلاثة أشهر كاملة” 5)
” وكانك يلقي كل يوم ما لا يقل عن خمس خطب في الموظفين بعد الانتهاء من الصلوات الخمس, وقد كان علماء الجامع يرحبون بالقمص سرجيوس لإلقاء الخطب في الأزهر أمثال الشيخ مصطفى القاياتي والشيخ محمود أبو العيون 6)
ولنضاله الوطنى ضد المستعمر :
استدعاه “كين بويد” مدير الأمن العام معتبراً إياه العدو اللدود لبريطانيا , وتم اعتقاله وترحيله لرفح لمدة 80 يوماً حتى أفرج عنه في تموز عام 1919م , ولكن لم يمنعه الاعتقال عن مواصلة النضال الوطني وإلقاء الخطب بصورة أشد ” 7)
وفى المنفى أرسل القمص سرجيوس خطابات إلى الجنرال ” أدموند هنري اللنبي ” المندوب السامى البريطانى فى مصر حينذاك ” 1919-1925م ” .. يندد فيها بسياسة بريطانيا في مصر ويصف غطرسة المحتلين والإساءة إلى القادة والزعماء؛ لما ارتكبوه في حقهم من حماقات … وأن ما قام به فى الثورة لا يختلف عما فعله قسس الكنيسة الإنجليز حينما لازموا خطوط القتال؛ لإثارة الحماسة فى نفوس الجنود طيلة سنوات الحرب 8)
قائلا :
“إننى أنادى باسم وطنى العزيز للحصول على الاستقلال والحرية, التى سفك ملايين الرجال من البشر دماءهم فى سبيلها, فلا تعيبوا على تمنيات قلبى الصالحة نحو وطنى المقدس بالمهج والأرواح، وقد سبقنى فى هذا المضمار أساقفة وقسوس كنيستكم الإنجليزية, حينما تركوا مراكزهم وبيوتهم وأولادهم, ولازموا ميادين القتال ليضرموا نار الحماسة فى نفوس مواطنيهم” 9)
وظل مرتديا قميصه بالمعتقل لمدة 60 يومًا كاملة بدون تغييرها .. كعقاب له من الاستعمار بحجة أن شنطة ملابسه قد فقدت !! وكتب خطابًا حادا للجنرال اللنبى بتاريخ17/6/1919م
فكان رد الجنرال اللنبي على القمص سرجيوس بأن السلطات البريطانية لا يمكنها الإفراج عنه,  فرد عليه القمص سرجيوس قائلاً:
” إنني لم أطلب الإفراج عني, أنما شكوت من سوء معاملة الانكليز للمواطنين في وطنهم ” 10)
وأثناء المعتقل هدده أحد الضباط الإنجليز بإطلاق النار عليه لعدم تنفيذ الأوامر؛ فرد
قائلا :
“إننا نعتبر ما فى غدارتك ملبسًا حلوا فى أفواهنا, نفضله على مهانتنا، وخير لنا أن نموت برصاصك وفينا بقية من شمم .. اضرب ونحن نيام” 11)
وتقديرا لدوره الوطنى عندما سافر لبورسعيد أقبل عليه المواطنون وحملوه بالقوة من عربة السكة الحديدية إلى السيارة 12)

وهو الخطيب المفوه:
التى جذبت خطبه الجماهير وكان أسلوبه سلسا ولاذعا وسافرا ومثيرا للجماهير فى نفس الوقت, وربما ساعد على ذلك قربه الدائم من الناس عن طريق الوعظ والإرشاد لا سيما للفئات المتوسطة والفقيرة  13)
ويكفى أن الزعيم سعد زغلول هو من أطلق عليه لقب “خطيب ثورة 1919م”
وكان يبدأ خطبه ب” بسم الله الرحمن الرحيم ثم يعقبها باسم الآب والابن والروح القدس ”  .. وكان محبا للغة العربية متمكنا منها, يدرس لأبنائه قواعد النحو العربى المرجع السابق يستشهد بآيات من القرآن الكريم فى خطبه 14)
يقول العلامة عبد الوهاب النجار فى مذكراته : ” فى 4 أبريل 1919م وقرب العصر ابتدأ الاجتماع بمسجد ابن طولون وكان الخطباء فيه القمص سرجيوس القبطى وللقمص سرجيوس مواقف معدودة وحدثنى سامعوه أنه فى خطابته خفيف الروح جذاب يميل إلى اقتضاب العبر والحكايات واتخاذها امثالاً والولع بإيراد النكات الأدبية وكل ما بين شأنه أن يلفت الأبصار ويسترعى الأسماع 15)
نماذج من خطبه من فوق منبر الأزهر:
” كنت أسير يومًا فى شارع كلوت بك فوجدت أطفالاً يلعبون أمام منزلهم, فتحدثت معهم حديثًا قالوا لى بعده إن أمّنا فى المنزل, وهناك بعض الجنود يعتدون عليها, فعجبت لأمرهم وسألتهم:
كيف ذلك؟! قالوا: ماذا نفعل؟!
وصعدت إلى المنزل فوجدت امرأة يعتدى عليها الجنود الإنجليز،
أتدرون من هم هؤلاء الأطفال؟ ومن هى الأم؟
فقال الجمهور: لا
فأجاب القمص سرجيوس :
“هم فئة الموظفين !! والأم هى مصر !!”
عندئذ ثار الموظفون أمام سرجيوس فقال لهم:
” أظهروا شعوركم حيال أمكم مصر” 16)
وفى سُرادق تكريم الزعيم سعد زغلول بعد عودته من المنفى خطب قائلا :
” والله إنك لمجنون يا سعد !! ”
فتعجب الزعيم والحضور فأعادها ثانية ” والله إنك لمجنون يا سعد؛ تقدم على دولة عظمى خرجت منتصرة من حرب عظمى وتملك كل شيء ولا تملك أنت شيئًا, ثم تنتصر عليهم أنت، والله إنك لمجنون يا سعد!!
فضحك الزعيم سعد زغلول وقال له ضاحكا : مجنون والله أنت يا سرجيوس” 17)
ولم يترك شارعاً أو مسجداً أو كنيسة إلا وخطب فيها داعياً لتعبئة الشعور ضد أعداء البلاد” 18)
وكان يخطب من نوافذ القطارات ومن فوق عربة الحنطور
ومن فوق منبر جامع ابن طولون :
” استمر القمص سرجيوس فى إلقاء الخطب الحماسية ومعه الشيخ مصطفى القاياتي لمدة أربع ساعات متواصلة وعلى أثر ذلك ألقي القبض عليه من قبل القوات البريطانية في نيسان عام (1919 م) وقاموا بنفيه إلى أحد المعتقلات في رفح مع زملائه مصطفى القاياتي ومحمود فهمي النقراشي ، وغيرهم من رجال الثورة ” 19)
” هتف يوماً أمام فندق الكونتنتال بآلاف المتظاهرين وطلب منهم أن يهتفوا معه بيحيا الانكليز, فدهش الشعب وترددوا في الهتاف ولكن سرجيوس أصر على ذلك فتبعه الشعب وحينئذ قال لهم نعم ليحيا الانكليز؛ لأنهم في ظلمهم واستبدادهم ووحشيتهم وبربريتهم استطاعوا أن يوحدوا صفوفنا جميعاً لا فرق بين مسلمين ومسيحيين مطالبين بالحرية والاستقلال فكان هذا الكلام مثيراً لشعور الجماهير حتى أخذت تهتف بقوة ضد المستعمرين الذين خشوا مغبة هذا الحماس فتقدم أحد ضباطهم وأشهر مسدساً في صدر القمص سرجيوس فخاف عليه بعض محبيه وطلبوا إليه أن يبتعد عن فندق الكونتنتال ,ويكف عن الخطابة لكنه رفض الهروب مدعياً أن مسدسه محشو بالملبس والحلويات لا بالديناميت والمفرقعات ” 20)
وفى مظاهرة كبرى أمام فندق الكونتنتال قال :
” أن الانكليز  ليسوا مسيحيين … لأن الذي يغتصب بلاد الناس ويقتل الشباب الهاتف لوطنه كافر وظل يردد: كافر … حتى أسرع نحوه جندي أنكليزي مصوباً مسدسه إلى صدره وصاح الناس سيقتلك يا أبانا … اسكت يا أبانا ولكنه مضى في خطابه يقول : متى كنا نخاف من الرصاص والموت ؟!
دعوه يقتلني لتطهر أرض مصر بدمي وتحل عليها بركة الرب ” 21)
9- وفى إحدى خطبه الحماسية يقول :
” أتعلمون لماذا وجه الإنجليز أحمر اللون؟ فردت الجماهير لماذا ؟
فأجاب:
لأنهم يشربون دماء المصريين ” 22)

قد يهمك ايضاً:

أحمد سلام يكتب ذكري مذبحة بحر البقر

رئيس جامعة قناة السويس يُكلف عبد الناصر عبد الجليل مديرًا…

وهو العاشق لوطنه مصر :
الذى لم يدخر جهدا لخدمة وطنه وقضية الاستقلال الوطنى وكان يجوب البلاد طولا وعرضا لبث الحماس الوطنى بين الجماهير .
فعندما احتاج الوفد في أحد الأيام إلى الأموال .. خرج القمص سرجيوس في جولة بصحبة فتح الله بركات في القرى وبقي يخطب في أهلها حتى وصل المستمعون إلى مرحلة التضحية , وكان فتح الله بركات يحمل حقيبة كبيرة ويفتحها أمام المستمعين وإذا هي تمتلئ في لحظات بالأموال بسبب أسلوبه الخطابي 23)
وذهب إلى الإسكندرية ” جامع أبي العباس ”  لتوضيح موقف الوفد من مفاوضات ملنر وعبر القمص سرجيوس عن ذلك بقوله    :
” فقمت بواجبي وخطبت في جامع أبي العباس وقدت المجتمعين فيه إلى الفندق في مظاهرة كبرى تهتف بحياة سعد مما أدهش رجال الوفد ” 24)
وبعد أسبوع ذهب إلى طنطا وخطب فى تياترو البلدية وعبر عن ذلك بقوله :
” فقمت إلى طنطا وكان على رأس الحفلة جمال الدين باشا مدير الغربية وألقيت خطابا جعل جميع الطنطاويين يهتفون بصوت واحد يحيا سعد يحيا الوفد ” 25)
وبعد قيام ثورة 23 يوليو 1952م :
خطب خطبة شهيرة بكنيسة القللى لتأييد ثورة 1952م وتكريما لدور الوطنى منذ ثورة 1919م؛ قام وفد من الضباط الأحرار بزيارة القمص سرجيوس فى كنيسة القللى فى 3-8-1952م , بعد أسبوع واحد من طرد الملك .. وخطب
قائلا :
“يلتمس المصريون قاطبة روحا طيبة ترفرف على البلاد التى بوركت منذ القدم من الله القائل مبارك شعب مصر .. هذه الروح تنطق على كل لسان وشفة .. تنادى فى الأفراد والجماعات الأحزاب والهيئات على اختلاف نزعاتها طلبًا مُلحًا بالإصلاح والتطهير والتحرير” 26)
وهو المدافع عن حقوق الأقباط كمواطنين مصريين:
ففى أثناء حملته الانتخابية 1949م :
هاجم الخط الهمايونى الخاص بشروط بناء الكنائس
طالب بحرية العبادة والاعتقاد كنص الدستور
طالب بتعليم الدين المسيحى بالمدارس
طالب باعتبار الأعياد القبطية أعيادا رسمية, طالب بنقل وسائل الإعلام الرسمية للعظات فى الأعياد 27)
ودفاعه عن حقوق الأقباط عمل وطنى وليس طائفى .

وفى بداية ثورة 23 يوليو 1952م انتشرت منشورات نسبت لجهات قبطية تدعى أن الضباط الأحرار يعملون لحساب للإخوان !!
فوقف القمص سرجيوس خطيبًا فى 3/8/1952م لوأد الفتنة قائلاً :
“لا يعقل أن تصدر عن الأقباط مثل هذه المنشورات .. التى لا تتفق مع ماضيهم المشرف ولا مع تضحياتهم ولا مع حكمتهم التى اشتهروا بها، إنهم لا يصرخون قبل أن يروا الخطر، وإذا رأوا الخطر فإنهم لا يلجئون إلا إلى الله .. كما اعتادوا منذ القدم” 28)
وهو المصلح الدينى والاجتماعى :
ظهر ذلك مبكرا منذ أن كان معلما بالمدرسة الإكليركية؛ حيث قاد تمرد طلاب المدرسة فى 1902م والذى يعتبر أول إضراب فى مصر 1902م
وذلك من أجل عدم تخفيض الجراية المقررة للطلبة, واستطاع تحويل تمرد الطلاب من ثورة لأجل البطون إلى ثورة لأجل إصلاح أوضاع المدرسة الإكليركية ككل مطالبا بالآتى:
إنشاء قسم داخلى كامل فى مهمشة
تعيين مدرسين متخصصين
الإهتمام بشئون الطلبة ورعايتهم.
رعاية مستقبل خريجى المدرسة الإكليركية 29)
وشكل فرق الشباب القبطى1936م :
وكان هدفها إصلاحيا مثل :
غرس المبادئ المسيحية فى الشباب، تكوين الروح الرياضية، الاعتماد على النفس مع الإيمان بالله, مكافحة الرذيلة والرجعية والخرافات, الإصلاح والتجديد” .
وعندما أصدر مجلة “المنارة” كان هدفها إصلاحيا وهو:
“انتقاد أمورنا الداخلية, وتقويم الإعوجاح الذى تأصل فينا كأمة وككنيسة” 30)
وانتقد شراء الوظائف بالأموال
وبنى كنيسة القللى ليحولها لمنارة دينية وتعليمية واجتماعية
وله آراء تجديدية مثل مطالبته :
بإجازة زواج المطاونة
وطالب بأن يتول غير الرهبان منصب البابا
وكان يطالب دائمًا بتقوية العلاقة التاريخية بين الكنيسة القبطية وأثيوبيا 31)
ولذلك وصفه المفكر سلامة موسى قائلا : ” الأب سرجيوس .. هو رجل نشيط ذكى يغار على شئون الطائفة القبطية, ويطلب إصلاح الكنيسة وتنظيم أموال الأوقاف وفتح المدارس وتعليم الرهبان ” 32)
وهو الصحفى :
الذى قام بتأسيس ورئاسة تحرير مجلة أسبوعية وهى مجلة ” المنارة المصرية ” والتى صدرت فى الفترة من  1912 حتى 1953م وكانت تناقش القضايا الاجتماعية والدينية والسياسية والعلمية والفلسفية والأخلاقية والتاريخية التى تهم الشأن المصرى.
وللقمص سرجيوس مقالات كثيرة بالمجلة ؛ تدل على تمكنه من الكتابة مثل :
مقاله ” العاطلون المعطلون للإصلاح ” فى العدد 23 , السنة التاسعة فى
10-7-1936م والذى هاجم فيه معوقي الإصلاح الذين ليس لهم وظيفة فى الحياة إلا التشنيع على المصلحين .
ومقاله ” أصلحوا طرقكم ” فى نفس العدد والذى يطالب فيه بضرورة إصلاح الأخلاق والعادات والاهتمام بشأن العام والتخلص من داء ” أنا وبعدى الطوفان ” الذى يعتبره فى مقدمة عيوبنا الاجتماعية .
ومقاله ” أستطيع !! ” فى العدد 21 , العدد 9 فى 26-6-1936م والذى يرد فيه على مثبطى عزائم المصلحين عن المضى قدما فى رسالتهم الإصلاحية قائلا :
” إن كل إنسان يستطيع أن يصنع المعجزات .. يستطيع أن يقلب العالم الأدبى رأسا على عقب .. يستطيع أن يضرب فى بوق يخترق صوته آذان الحكومات والهيئات وييقظ النفوس النائمة فى تراب العالميات والفساد ”
وكان ” أسلوبه سلسا ومشوقا يجبر القارئ على إكمال المقال حتى آخر كلمة ” 33)

وهو أول من كشف خطورة تنظيم الإخوان فى العصر الحديث :
يعتبر القمص سرجيوس أول مفكر فى العصر الحديث يكشف حقيقة حسن البنا وجماعته “الإخوان” .. متهما إياهم بأنهم يتظاهرون بالدفاع عن الإسلام .
وكان يرى فيهم السبب وراء تبدد روح الوحدة الوطنية والتى حكمها ثورة1919م.
يذكر القمص سرجيوس:
” أنه أول من قاد الحملات الصحفية فى مواجهة الإخوان, ودعا الحكومات إلى ضرورة التصدى لها, ورأى فى الجماعة خطراً يهدد البلاد, ولكن الحكومات تهاونت, وتركت لهم الحبل على الغارب, ورضخت لتلاميذ حسن البنا, المنتشرين فى جميع مرافق البلاد ” 34)
ودعا قادة جماعة الإخوان إلى مناظرته :
” لفضح الجماعة علانية وإثبات بهتان أفكارها وعجزها عن مواكبة العصر” 35)
محذرا مما يقوم به تنظيم الإخوان من قلاقل وفتن :
” وما بثوه من روح الإنقسام والتفريق بين الإخوان المتحابين, الذين ضربت باتحادهم وتضامنهم الأمثال فى الشرق والغرب, يوم نادى المنادى يحيا الهلال مع الصليب كانت معرفتهم كانت نعرتهم الآثمة هى عين الفتنة فى البلاد يوم تظاهروا بالغيرة على الإسلام” 36)
وينتقد الجماعة نقدا لاذعا قائلا :
” كأن بلادنا المصرية لا تعيش على مياه النيل، بل على الأمطار؛ حتى إذا ما امتنعت فيها أمطار السماء استمطرت عيون المسيحين لتروى ظمأ تلاميذ حسن البنا ومعتنقى مبادئ الإخوان المسلمين” 37)
ويقول بحزن وأسى :
” آه … تكشفوا يا تلاميذ حسن البنا، أقيموا الدليل على أنكم لا تصلحون لإدارة هذه البلاد” 38)
وفى 1949م أعلن عن ترشيح نفسه لعضويه مجلس النواب عن دائرة الشماشرجى بشبرا لمجابهة أفكار جماعة الإخوان قائلاً:
“طرأت على الساحة السياسية عناصر سياسية جديدة لها آراء متطرفة من شأنها أن تقضى على النتائج التى حصلنا عليها بجهدنا فى أيام الثورة 1919م, وقد أخذتُ على عاتقى أن أحارب هذه الروح الرجعية البغيضية”39)
والقمص سرجيوس هو أول من أطلق لفظ الجمعية المنحلة على الإخوان 40)

وهو أيقونة الوحدة الوطنية فى العصر الحديث بلا منازع :
فعندما تم اغتيال بطرس باشا غالى فى1910م, على يد إبراهيم الوردانى الشاب المصرى المسلم؛ انقسم أعضاء النادى المصرى والذى كان يرمز إلى وحدة المصريين فى السودان، وخرج منه معظم أعضائه من الأقباط وشكلوا ناديًا آخر أطلقوا عليه اسم “المكتبة القبطية” وعندما دعا أعضاء المكتبة القبطية القمص سرجيوس لإلقاء محاضرة دينية … شاهد بين الحاضرين بعض المسلمين عمد إلى تغيير موضوع المحاضرة وجعل عنوانها “عيشوا بسلام” داعيًا إلى التآخى والمحبة بين الأقباط والمسلمين” 41)

وعندما شكل يوسف وهبة وزارته في21 تشرين الثاني1919م :
اجتمع ما يقرب من 2000 قبطى برئاسة القمص باسيليوس وكيل البطريركية وحضر مجموعة من المسلمين وأرسل الجميع رسالة إلى يوسف وهبة باشا جاء بها:
” إن الطائفة القبطية المجتمعة هنا والتي تزيد عن ألفين في الكنيسة الكبرى تحتج بشدة على إشاعة قبولكم الوزارة ، إذ هو قبول للحماية ولمناقشة لجنة ملنر وهذا ما يخالف ما اجتمعت عليه الأمة المصرية في طلب الاستقلال التام ومقاطعة اللجنة، نستحلفكم بالوطن المقدس وبذكرى أجدادنا العظام أن تمتنعوا عن هذا الفعل الشائن ” 42)
وفي هذا الاجتماع كان للقمص سرجيوس الدور الكبير في مسألة الإخاء بين المسلمين والأقباط والعمل على تهدئة الفتنة التي حدثت آنذاك قائلاً :
” فوقف البعض يقول أما يوسف فاطرحوه أرضاً والبعض الآخر يقول احرموه من الكنيسة لأنه خرج عن الإجماع . أما أنا سرجيوس فخالفتهم فيما قالوا رفعت الصوت عاليا في شجاعة وصراحة فقلت لإخواني المسلمين إذا اعتبرتم قبول يوسف وهبة باشا القبطي لرئاسة الوزارة دليلاً على خيانة الأقباط ومسوغاً يسوغ لكم نعتهم بالخيانة ويكون هذا سببا لغضبكم عليهم فيكون للأقباط الحق أيضاً أن يرموكم أيها المسلمون بالخيانة ويغضبوا عليكم أضعافاً مضاعفه بقدر مالكم من وزراء مسلمين تضامنوا مع يوسف وهبة باشا في وزارته لأنه لولا أن يوسف وهبة باشا وجد من المسلمين 15 وزيراً يتعاونون معه لما استطاع أن يؤلف وزارته فلا تعيرني ولا أعايرك الهم طايلني وطايلك ”  ثم استدرك قائلاً:
” أما إذا كانت الحقيقة أن يوسف وهبة باشا قد قبل الوزارة إنقاذاً للموقف فلا يكون خائنا وبالتالي فلا يكون الأقباط خونة وكذلك المسلمون ليسوا خونة في شخص الوزراء الذين تقدموا منهم فاشتركوا في وزارة يوسف وهبة باشا.
وعقب كلمته هذه وقف الراحل الشيخ مصطفى القاياتي وأمن على أقواله هذه ونادى قائلاً إن الأقباط ليسوا بخونة إنما هم مخلصون للوطن يفتدون الموقف فعادت مياه التفاهم والسلام إلى مجاريها بعد هذا الموقف وخرج المسلم من الكنيسة يهنئ القبطي بالثقة الغالية وانطفأت في الحال نار الغضب التي كادت تشتعل بين الأخوة المتحابين” 43)
وبهذا الموقف نزع القمص سرجيوس فتيل الفتنة التى خطط لها المستعمر الإنجليزى ؛ للوقيعة بين المسيحيين والمسلمين .
وقد عبر القمص سرجيوس في مذكراته المنشورة في مجلة المنارة عن ذلك
بقوله :
” ضبط المصريون أنفسهم فكانوا مثلاً أعلى لضبط النفس فنسي المسلمون والمسيحيون كل شيء كانت لوحت به أشباح الماضي الديني فلم يذكروا إلا أنهم إخوة من دم واحد يشتركون في دم مصر أو هوائها هذا هو الجهاد الصحيح لأن بولس الرسول يقول ” من يجاهد يضبط نفسه “44)
” فلقد هبت ريح اجتاحت القبطي والمسلم واليهودي ودفعت بهم إلى ثورة واحدة ارتفع غبارها حتى عم الآفاق فنظرت إليها دول العالم فوقفت أمامها باهتة حيث كانت تسمع أصوات هي أشد هولا من أصوات المدافع أصوات ” تحيا مصر– يحيا الهلال مع الصليب ” 45)
ويقول : ” لما جد الجد وأصبح لمصر مطلب هو الاستقلال تضافر العنصران … واجتمعا يناديان بحياة الوطن والهلال مع الصليب وصار الجميع كتلة واحدة لا يتميز فيها القبطي عن المسلم وبذا صارت مصر المثل الأعلى للشرق في إتحاد العناصر ….. ولقد ضبط أصحاب الأديان الثلاثة عواطفهم الدينية، وأمسكوا زمامها فساروا في ميدان الجهاد الموضوع أمامهم يهتفون الوطنية ديننا والاستقلال حياتنا، إذا صادفهم الجامع دخلوا فدعوا فيه للوطن بالنصر، وخطبوا فيه بالحض على الجهاد, وإذا ما صادفتهم كنيسة دخلوا آمنين يصلون ويخطبون شيخاً وقسيساً ” 46)
ومن كلماته الخالدة : ” وإذا كان استقلال المصريين يحتاج إلى التضحية بمليون قبطي فلا بأس في هذه التضحية ” 47)
وكان يبدأ خطبه الثورية بعبارة :
“يحيا الهلال مع الصليب” التي أصبحت شعاراً للثورة ورمزاً للوحدة الوطنية حتى الآن فيحمل الشباب الثائرون أعلاما مرسوماً عليها هلال بداخله صليب, وكانوا يطوفون بها بثورتهم في كل مكان ويهتفون بها 48)
وخطب من فوق منبر الأزهر قائلا :
” بسم الله الرحمن الرحيم إن الوطن لله …. ومصر لا تعرف قبطياً ولا مسلماً ، وإنما هي تعرف أن الكل أبناؤها، وتطلب منهم جميعاً أن يقفوا دونها صفاً واحداً، لمواجهة عدوها ” 49)
الإمام محمد ماضى أبو العزائم والقمص سرجيوس ” الأستاذ والتلميذ ” :
لقد كانت العلاقة وطيدة بين القمص سرجيوس وعلماء الإسلام أمثال الشيخ مصطفى القاياتى ومحمود أبو العيون وغيرهم .
ونعرض هنا لوثيقة تاريخية هامة بخط يد القمص سرجيوس تكشف تتلمذه لمادة اللغة العربية على يد الإمام محمد ماضى أبو العزائم رحمه الله بمدرسة الأقباط الكبرى بشبرا .
وتوضح تقدير القمص سرجيوس الشديد لأستاذه الإمام أبو العزائم , وأن الإمام أبا العزائم احتضنه فى 1912م فى محطة الترام بالسودان قبل أن يحتضنه الأزهر الشريف فى ثورة 1919م !!
يقول القمص سرجيوس:
” عينت أسقفا لكرسى الخرطوم , وفى يوم جمعة كنت مارا أمام محطة الترام الوسطى وأحسب ذلك فى سنة 1912م , فما أدهشنى إلا وأستاذى القديم يمد لى ذراعيه ويحتضننى بين يديه , وأنا ذاهل لا أعى ما أقول … فلما تأملته مليا قلت : مولانا الشيخ ماضى , فقال : أعرفتنى الآن , ثم دعا لى بالبركة وطول العمر .
ثم يتأمل القمص سرجيوس عندما كان أول داع من دعاة التقريب بين الهلال والصليب فى سنة 1919م وبدأ يتساءل : أى رجل من علماء المسلمين قد احتضنه من قبل مثلما احتضنه الأزهر ؟!
فلما تذكر الماضى قال : هذه بلا شك بركة الشيخ ماضى .
ويصف القمص سرجيوس أستاذه الإمام محمد ماضى أبو العزائم :
بنفاذ البصيرة وصفاء السريرة وأنه من الرجال الذين أخلصوا النية لله وأحسنوا الطوية ؛ فجمع لهم القلوب , فهم ليسوا لأنفسهم فحسب بل للعالم أجمع … وأن دروسه فى اللغة العربية كانت مصاغة فى قالب من الحكمة 50)
واللافت أن الإمام محمد ماضى أو العزائم والقمص سرجيوس قد اشتركا فى :
1-النضال ضد المستعمر الإنجليزى فى السودان وبناء على ذلك تم ترحيل كل منهما من السودان .
٢- مشاركتهما الفعالة فى ثورة 19
ونختم بكلمة مضيئة للمفكر لطفى الخولى فى رثاء القمص سرجيوس .. كتبها من العقل والقلب فقال :
” لقد نعى سرجيوس فى الصحف فقيدا للكنيسة المسيحية وهذا صحيح ولكنه ليس كل الحق فهو أيضًا بنفس القدر والعمق فقيد الجامع الإسلامى فقيد الشعب المصرى ” 51)
نعم لقد كان القمص سرجيوس بحق فقيد مصر
” الكنيسة والجامع والشارع ”
فهو خطيب ثورة 19 , وقديس الوحدة الوطنية , وصاحب الشعار الخالد ” يحيا الهلال مع الصليب ” حتى قال الشاعر بحق :
فى كل دار لو أقام لك الورى       يا سرجيوس تمثالا لقيل قليل