مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

د.صبري زمزم يحلل المجموعة القصصية “رقص إجباري” للأديب د.فراج أبو الليل

نحن اليوم وكل الحاضرين وبعد نحن اليوم أمام عمل متميز يندرج تحت القصة الومضة وهي القصة المتناهية القصر،.

وإذا أردنا أن نتكلم عن خصائص وسمات قصة الومضة نقول إن أهم سماتها
1. الإيجاز الشديد: تسعى قصة الومضة إلى تكثيف القصة لأقل عدد ممكن من الكلمات بصرف النظر عن العدد الدقيق، بمعنى أن قصة الومضة تسعى إلى سرد حكاية كبيرة وغنية ومعقدة بسرعة وتركيز.

2. الحبكة على خلاف كل من المقطع الأدبي الوصفي القصير vignette والفكرة الناشئة عن التفكير والتأمل reflection فإن غالبية قصص الومضة تؤكد على الحبكة. ورغم وجود استثناءات لهذه القاعدة يمثل سرد قصة كاملة جانباً من الإثارة المترتبة عن كتابة هذا الشكل المكثف..

3. التطور غير المتوقع أو المفاجأة في النهاية: تعتبر عملية بناء تطلعات معينة ومن ثم قلبها رأساً على عقب في حيز محدود للغاية إحدى السمات المميزة لقصة الومضة الناجحة.

وقد اخترت بعض القصص من مجموعة رقص إجباري لفراج أبو الليل لنضعها تحت المنظار لنحللها ونبين مدى استيفائها لخصائص القصة الومضة وأولى هذه القصص قصة صوفي، اسمخوا لي أن أقرأها أولا على حضراتكم فأناشدكم التركيز على كل كلمة من كلماتها

قد يهمك ايضاً:

محمد زكريا.. ظاهرة إخراجية تفرض نفسها وتترك بصمة في كل عمل

صوفي
تلك الراحة الغامضة في نظراته المتصوفة .. تركت قلبي شاردا .
يتمني العزلة .
بحثت عن تلك البقعة الهادئة .. ولكن العبث الذى يرقص في دنيا الغوازي ، جعلني أبادله الرقص بلامبالاة.
كما نرى توافرت في هذه القصة كل سمات القصة الومضة من حيث التكثيف والتركيز، حيث تتكون من ٢٧ كلمة فقط فضلا عن العنوان الذي هو كلمة واحدة فقط، (صوفي) بصيغة المفرد النكرة الدالة على العموم ومن ثم الغموض المثير الذي يدفع القارئ إلى قراءة القصة ليستكشف أسرار هذا الصوفي المجهول.

فهذه القصة الموجزة في كلمات معدودات تجسد معضلة من معضلات البشر لا يخلو من الوقوع فيها إنسان إلا من رحم ربي فهي صراع داخلي بين الهداية والغواية، الهداية التي يتمناها كل إنسان وينشد فيها الراحة الغامضة التي جسدتها نظرة الصوفي، فكان لها بالغ الأثر في نفس بطل القصة فتمنى أن يكون مثله، ولكن ماذا منعه أن يسلك طريق الهداية أو التصوف أو الرشاد والزهد في متع الحياة الدنيا الزائلة، أملا في الفوز بمتع الجنة التي لانهاية لها؟
وعبر عنها بأنه تمني العزلة أي يعزل نفسه عن شواغلها ونوازعها وشهواتها، وأخذ خطوة إيجابية بالبحث عن النقطة الهادئة التي يأوي إليها فتحصنه من كل هذا، ولكن حدث له ما يحدث لأغلب الناس فقد استزلته الحياة الدنيا ببهرجها وزينتها ومشهياتها التي تثير غرائزه ومثل لها بدنيا الغوازي رمزا مجسدا لما تكتنفه هذه الدنيا من فخاخ وسقوط، معبرا عما فيها بالعبث الذي لا قانون له، شأن كل هوى وكل من يتبع هواه بلا مكابح ولا فرامل، فبدلا من أن يقاوم العبث ويصرف نفسه عنه إلى الخلوة والعزلة التي تمناها آنفا إذا به يبادل العبث الرقص، ولكنه رقص بلا مبالاة، وكأنه مسلوب الإرادة أمام شهواته شأن كل اللاهين العابثين الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا فاشتروا الضلالة بالهدى، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، وهي قصة بليغة جدا توقف كل إنسان منا عاريا أمام مرآة ذاته منفردا، ليرى فيها نفسه على حقيقتها ،فهل سيغير المسار إلى الخلوة أم سيستمر في الرقص بلا مبالاة في دنيا الغوازي المغرية، ولكن نهايتها وخيمة، أم سيأوي إلى كهف الهداية نشدانا للراحة التى لمحها في عين الصوفي الزاهد؟
كل هذه المعاني التي أسهبنا في سردها وبيانها وتحليلها عبر عنها فراج أبو الليل ببراعة في تكثيف وإيجاز غير مخل وغير ملغز، فلم يلجأ إلى الرموز الموغلة في الإيهام التي تحتاج إلى من يفك شفرتها ويسبر غورها، فجاءت سهلة يسيرة ذات دلاله مستخدما ما توحي به الكلمات صوفي
العزلة البقعة الهادئة، دنيا الغوازي، العبث، الرقص، بلا مبالاة، كما نوع في استخدام الزمن في الأفعال فبعضها زمنه الماضي مثل تركت، بحثت، جعلني، وبعضها زمنه المضارع المستمر مثل يتمنى أتابعه يرقص، مستخدما الصفات المميزة لمعطيات القصة. مثل الراحة الغامضة نظرته المتصوفة البقعة الهادئة.

أما القصة الثانية فهي
رقص إجباري
لم يتخيل يوما .. أنه يستطيع الرقص في الأوبرا .. على أنغام الأمطار .. غرقت شوارع المدينة .. تحول إلى بجعة راقصة … هكذا استطاع الوصول لمقر عمله .. سابحًا في بحيرة البجع.

إنها قصة ساخرة يشبه فيها من يسير في شوارع المدينة وهي غارقة في مياه الأمطار متفاديا الوقوع في الطين أوالبلل قافزا على أطراف أصابعه من حجر إلى حجر ببجعة راقصة في أوبرا بحيرة البجع، وهي صورة طريفة تجمع بين الخيال والحقيقة والفن والمعاناة والمأساة والملهاة، فحول الأمطار إلى أنغام أو لحن يطربه فيرقص ولكنه ليس رقصا اختياريا مستمتعا به، بل هو رقص إجباري أجبرته عليه ضرورة ذهابه إلى العمل، ولكنه في النهاية يطمئننا إلى بلوغ غايته، والقصة كما نراها متكاملة رغم قصرها ممتلئة بالمعاني رغم التكثيف، وملأى بالصور البيانية، حيث رسم عالمين متوازيين أحدهما عناصره المطر الغزير وغرق الشوارع ورغبة البطل في الوصول لعمله وتقافزه المثير بين حجر وحجر لكي لا تبتل ملابسه ولكي لا تنزلق قدمه فيغرق في الماء ويلطخ بالطين، والعالم الثاني هو العالم الفني الخيالي الأجمل فحول الماء والطين إلى بحيرة للبجع، وحول صرير وخرير الأمطار إلى أنغام وألحان والموظف الحريص على الوصول إلى عمله بجعة راقصة تسبح في بحيرة، ولكنه رقص في غير استمتاع لأنه رقص إجباري، وشأن كل القصص لها عقدة وهي ليست سقوط المطر، بل غرق المدينة، فيصبح الرقص وسيلة للوصول إلى الهدف وهو حل العقدة في النهاية وهي نهاية مغلقة وليست مفتوحة فقد حسم الأمر بالفعل الماضي استطاع الوصول إلى مقر عمله، هكذا أنهى القصة تماما فتوقفت الأحداث، بينما كنت أتمنى لو عبر بالفعل المضارع حتى يستطيع الوصول إلى عمله، فيترك المشهد مفتوحا معلقا مثيرا بين النجاح والفشل بين الوصول وعدمه، وبهذا كانت القصة ستظل مفتوحة أمام القارئ حتى بعد الفراغ من قراءتها. ولكنه حسمها فبترها.
وهذه المجموعة من المجموعات القصصية المميزة بحشد أكبر عدد من القصص المتناهية القصر، التي قد يظن البعض أنها مهمة سهلة، ولكن من يحاول أن يجربها سيتحقق من صعوبتها فهي السهل الممتنع.