دور الإعلام في الأزمة الخليجية
بقلم – الدكتور عادل عامر:
تعاظم الدور القطري كثيراً، في مرحلة كانت المنطقة العربية تمر في واحدة من أعقد المراحل وأشد الأزمات، مع استمرار مسلسل تهاوي الأنظمة تحت مسمّى “الربيع العربي”، ولا سيما في مصر التي انشغلت بحوادثها وانقلاباتها الداخلية، وتراجع تأثير الدور السعودي على مجمل الواقع العربي بسبب أزمتها المالية والاقتصادية الداخلية وتورّطها في الحرب اليمنية، وجاءت القمم الأميركية العربية الاسلامية في الرياض، برعاية دونالد ترامب أو “أحد جنود الله” كما وصفه مفتو البلاط السعودي، لتمنح السعودية فائضاً كبيراً من القوة دفعها، بعد يومين فقط من اختتام القمة وتزامناً مع تاريخ نكسة العرب في 5 يونية، إلى إطلاق حملة التعبئة ضد قطر، فقد آن الأوان لتحجيم الجسم الناتئ في شبه الجزيرة العربية، وصولاً إلى إمكانية شطبه من الخارطة، وقد لا يكون هذا مستبعداً، فحكام السعودية مولعون بمحو الخطوط والحدود وإعادة رسمها.
بدأت الأزمة ببث قناتي “العربية” السعودية و”سكاي نيوز” الإماراتية تصريحات منسوبة لأمير قطر ينتقد فيها السعودية ويتحدث إيجاباً عن إيران وحزب الله، وتأخر النفي القطري ساعات قبل أن يصدر بيان مقتضب يعلن حصول اختراق الكتروني لوكالة الأنباء القطرية.. كانت باكورة الأزمة إعلامية، متّصلة بالموقف السياسي لأطراف الأزمة، وسرعان ما كرّ سيل التصريحات والتسريبات على شاشات الفضائيات المحسوبة على كل طرف، وبدأت هذه الشاشات تكشف المستور، وتفضح الخفي من الملفات، وتستخرج من أرشيفها الإعلامي والأمني معلوماتها الموثّقة بالصوت والصورة.
تبدو قطر والإخوان حاليا مثل كيان واحد بأذرع متعددة. الآن يقف المشروعان في أقصى مرحلة للاندماج فيما يشبه الاصطفاف لخوض “حرب مقدسة”. وعلى الرغم من أن لغة تقارير الجزيرة في مواجهاتها الراهنة ليست جديدة، على الأقل بالنسبة لمصر، إلا أن الجديد في الأزمة الراهنة هو اتجاه القناة إلى منحى عقائدي أيديولوجي تام. وفي هذا السابق، برز تأثير المكون والكادر الإخواني في القناة على نحو جزئي وفي حدود “الغمز” و”اللمز”، حين كان يجري الحديث عن توجهات المدير العام السابق للقناة، أو بعض المراسلين ومديري المكاتب، وبعض المحررين والإعلاميين، لكن الآن طغى المكون الإخواني وسيطر تماما على تحرير القناة من أعلى الكوادر إلى أدناها، واستبد طغيان تأثير المحرر والمذيع على المضمون والخبر.
فليس فيما تقدمه الجزيرة في أخبارها من جديد مختلف عن كل القنوات الفضائية، ولكن الاختلاف الأساسي في التقارير والحوارات، وطريقة التقديم الخبري والإعلامي، وانحيازات المذيع وطريقة قراءته للنشرة، وحواره مع الضيوف، ونبرات ومستويات صوته التي تعلو وتتراجع بحسب المضمر في النفس والرسالة التي يريد توجيهها لمشاهديه، وإطلالته على الشاشة، ونظرات عينيه، ومخارج ألفاظه، وحركات فمه، التي تشير جميعها إلى حالة إنكار واستعلاء وانحيازات مسكونة،
ولغة كراهية شديدة تجاه الدول الأربع، وهي أمور مفهومة وموحية تماما للعقلية والنفس الإخوانية. ويبدو أن الخدمات التي قدمتها قطر للإخوان خلال الثورات تعود عليها حاليا بخدمات مرتدة من الإخوان. فخلال هذه المواجهة يجري توظيف كل الجسد والتنظيم الإخواني في أكثر من 60 دولة ضد الدول الأربع. وبهذه التركيبة الإعلامية القطرية الإخوانية الخاصة يجد من لا يقف مع قطر نفسه في منزلة من خان الله ورسوله!
ومع تصعيد المواقف وتفاقم الأزمة كانت الحرب الإعلامية أيضا تزداد شراسة ونبرة التصريحات تزداد حدة. لكن الملفت هو تناول إعلام الطرفين وسائل الإعلام المقربة والممولة منهما، للمواقف وتفسيرها بشكل مختلف، ولاسيما من قبل قناتي الجزيرة القطرية والعربية السعودية اللتين تقودان جبهة الحرب الإعلامية في هذه الأزمة السياسية.
وقد يمكن وصف هذه الحرب الاعلامية انها تدور فعليا وبطريقة مباشرة بين طرفين يملكان السطوة المالية وأدوات الإعلام، هما قطر من جهة واداتها مدفعيتها الثقيلة قناة الجزيرة، والسعودية ودولة الإمارات من جهة مقابلة. ولكن ميدان هذه الحرب مساحتها الأهم انها تجري كمبارزة حامية الوطيس في واشنطن، أي عبر الصحافة ولوبيات الضغط والعلاقات العامة، وشراء ذمم الصحافيين وكُتّاب مقالات الرأي، وحتى معاهد الأبحاث ومراكز الدراسات بما في ذلك الخبراء وشخصيات ذات نفوذ أمثال دينيس روس وستيف بانون وغيرهم، ممن يملكون القدرة على التأثير في الرأي العام وعلى الإدارة الأميركية،
ومن واشنطن الى العالم. وهذا هو التحول الذي نشهده الآن في هذا الفصل الأخير من حروب الإعلام في الشرق الأوسط، الذي يدور هذه المرة بين الملكيات والإمارات، بعد ان كانت هذه الممالك او الإمارات تمارس منذ زمن طويل التأثير الإعلامي على أنظمة الحضر والساحل او الجمهوريات، من حصنها المنيع في الصحراء. ولكن هدف التقاتل او التراشق الإعلامي الجديد بين الأخوة الأعداء اليوم، ليس التأثير على الأنظمة في دمشق وبغداد او القاهرة، وانما السعي الى كسب ود الحليف الأميركي. أي ان يكون معنا وليس معهم.
فعلى الرغم من أن إعلام الدول الأربع يواصل هو الآخر الهجوم السياسي على قطر، إلا أن الهجوم الإعلامي لقناة الجزيرة يلقى اهتماما أكبر وتسليطا للضوء أكثر. وقد يسبب تقريرًا واحدًا للقناة عن الشئون الداخلية بالمملكة والإمارات تأثيرًا أكثر بكثير من عشرات، وربما مئات، التقارير والمقالات التي تكتب في الصحف في هذه الدول.
والسبب في ذلك ليس مرجعه تأثير الجزيرة، وإنما بالأساس لأن هذه اللغة غير معتادة في الخطاب السياسي والإعلامي القطري مع السعودية والإمارات. ومن ثم، فإن جاذبية تقارير الجزيرة لا تعود لمضمونها ذاته –رغم استمرارها كقناة مؤثرة- وإنما إلى الدول والأسر والشخصيات الكبيرة التي توجه سهامها إليها، ومن زوايا وأوجه غير معتادة داخل “البيت” الخليجي. وبالمقابل، فمهما تناول إعلام الدول الأربع لقضايا تخص قطر وأسرة آل ثاني فإنه قد لا يحدث نفس الصدى، ذلك أن قطر دولة صغيرة واعتادت الأسرة الحاكمة بها هذا النمط من التناول الإعلامي منذ سنوات.
مع ذلك فعلى الرغم من أن التناول الإعلامي الراهن للجزيرة لشئون السعودية والإمارات قد يبدو مؤثرًا، إلا أنه سيتراجع تاليا على غرار ما حدث مع مصر، والتي تقلصت فيها نسب المشاهدة للقناة كثيرًا قبل الأزمة الراهنة.
مع استمرار المعارك والاشتباكات الإعلامية المتماثلة مع إعلام الجزيرة تكسب قطر والإخوان أرضيات جديدة كل يوم، لأن كسب هذه النوعية من المعارك يحتاج لتغيير الواقع أولا. وطالما لم يتغير الواقع سيستمر سلطان الأكذوبة التي تشكل ساحة خواء للعقل للاستنامة لخطاب المظلومية والقمع والقهر الذي ترسخه الجزيرة عن سلطات سياسية -قد تكون معذورة فعليا- ولكنها تظهرها كسلطات باطشة وجبارة بتأثير عوامل الفساد الداخلي الفعلي أو محدودية القدرات.
هنا فإن إدارة المواجهة على نفس الأرضية، وبنفس قواعد قناة الجزيرة تنتهي بالهزيمة. فالأساس لكسب هذه المعركة يتمثل في تجاهل الفلك الذي تدور فيه الجزيرة وقنوات الإخوان كله من المعارك، الذي يفرض ستارًا دكتاتوريا على العقل ويؤسس للهوس الإعلامي المشحون بالكراهية والتحريض في عقول الناشئة، والتحرك في فلك وفضاء إعلامي جديد خصب وذي خيال مفتوح، يحرر العقل من سلطان خطاب الجزيرة وإعلام الإخوان، وهوما يتطلب التوافق مع خطط حكومية تستهدف تغيير المزاج العام وفرض نوعية جديدة من قضايا الجدل الداخلي، لتتجه المجتمعات إلى ثقافة الحياة والاقتدار والعيش بدلا من الثقافة العدمية والمزاج الاستشهادي البائس والحزين.