بقلم – د – إسلام جمال الدين شوقي:
خبير اقتصادي
عــضـو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي
في ظل عالم يتسابق على الإنتاجية، ويقيس مفهوم النجاح بمدى امتلاء اليوم بالمهام والأعمال، وسرعة الإنجاز، وعدد ساعات العمل التي يقضيها الفرد، فعلى ما تبدو الدعوة إلى إعادة النظر في فكرة “الكسل” مثيرة للريبة، وربما أيضًا للسخرية. وليس المقصود بالكسل هنا الاستسلام للتراخي أو الهروب من المسؤولية، بل تكمن أهمية الطرح هنا كمفهوم يستحق المراجعة كوسيلة لتفكيك نموذج اقتصادي تم ترسيخه على مدار قرون، وهو صورة العامل المثالي كشخص منهك لا يهدأ.
ولنطرح سؤال هام الآن: ماذا لو لم يكن تقليل ساعات العمل خطرًا على الاقتصاد، بل فرصة لإنقاذه؟ ماذا لو كان الكسل بمفهومه الفلسفي والاجتماعي مفتاحًا لتحرير الإنسان من عبودية الإنتاج المستمر، ووسيلة لتحفيز الإبداع، وتقليل الاستهلاك، واستعادة المعنى في الحياة؟
تربت المجتمعات منذ الثورة الصناعية وحتى يومنا هذا على تقديس العمل والربط الحتمي بين الجهد والجدوى، حيث نشأت أخلاقيات العمل الحديثة على التصور القائل إن الإنسان لا يكتمل إلا بعمله، وإن الراحة ترف، والبطالة عار، والفراغ خطر، ولقد رسخ هذا النمط عقيدة اقتصادية تجعل من زيادة ساعات العمل هدفًا في حد ذاته، وربطت بين النمو الاقتصادي وزيادة الناتج المحلي، دون أن تتوقف كثيرًا أمام سؤال هام: ما الذي ننتجه ولماذا؟ ومن المستفيد من هذا الإنتاج؟ وما هو ثمنه الإنساني والنفسي؟
ولقد حاولت أصوات كثيرة على مر التاريخ نقد هذا التصور، بدءًا من كتابات بول لافارغ في نهاية القرن التاسع عشر، والذي كتب مقالًا شهيرًا بعنوان “حق الكسل”، مرورًا بتجارب مجتمعية حاولت تقنين تقليل ساعات العمل، وصولًا إلى تجارب معاصرة مثل أن يكون أسبوع العمل أربعة أيام، وعلى الرغم من كل هذه المحاولات، إلا أن النموذج السائد يكافئ من يعمل أكثر، ويهمل أو يقصي من يطلب وقتًا أطول للراحة أو للتأمل أو حتى للفراغ، وينتج عن هذا النموذج إنسانًا مرهقًا، مستنزفًا، يفتقد المعنى، ويعيش فقط ليدور في عجلة العمل والاستهلاك، دون أن يتوقف ليسأل: ماذا أريد من هذه الحياة فعلًا؟
إن الاقتصاد الحديث في صيغته الرأسمالية المستوحشة، والتي لا تحتمل الكسل والمعتمدة على تغذية الحركة المستمرة لتسويق الشركات لسلع لا نحتاجها، ويتم فيها إنتاج سلع تستهلك بسرعة وتستبدل بأخرى، ونعمل أكثر لنكسب أكثر، لنستهلك أكثر، لنعمل أكثر من جديد في دائرة مغلقة تستهلك البيئة، وتجهد الأفراد، وتصيب المجتمعات بالتوتر، والاكتئاب العام، والشعور العميق بعدم الرضا، وفي هذا السياق يصبح الكسل أو بالأدق تقليل ساعات العمل المقصودة تمردًا على نموذج اقتصادي لا يخدم الإنسان، بل يستعبده.
بدأت بعض الحكومات والشركات الكبرى في السنوات الأخيرة بأوروبا واليابان وكندا بتجريب نماذج مختلفة، منها تقليل أيام وساعات العمل دون المساس بالرواتب، وكانت النتائج الأولية مدهشة حيث لم تتراجع إنتاجية الموظفين، بل زادت في بعض القطاعات، وانخفضت نسبة الغياب، وتحسنت الصحة النفسية، وتراجعت نسب الاستقالات، ولقد أثبتت هذه التجارب أن الأفراد لا يحتاجون إلى التهديد بالخصم أو الضغط المستمر كي يعملوا، بل إلى شعور بأن وقتهم مُقدر، وأن حياتهم ليست ملكًا تامًا للشركة أو المؤسسة أو السوق الذي يعملون به.
أما النقاش حول تقليل ساعات العمل في العالم العربي لا يزال محدودًا، وغالبًا ما يقابل بسخرية أو اتهامات بالتهاون، لكن يظهر في الواقع أن الكثير من ساعات العمل الطويلة ليست فعالة، بل تستهلك في إجراءات روتينية، أو بيروقراطية مرهقة، أو حتى لا شيء على الإطلاق. فكم من موظف في قطاع حكومي أو خاص يقضي يومه في العمل دون أن يُنجز شيئًا حقيقيًا؟ وكم من مواطن يشعر أن يومه يضيع ما بين طريق العمل وأعبائه، فلا يبقى له من الحياة إلا القليل من الوقت المهدور؟ ألا يصبح هنا “الكسل” إن تم فهمه بشكل نقدي دعوة لإعادة النظر في معنى العمل ذاته؟
ومن خلال ما سبق توضيحه، فإن المقصود بالكسل ليس نقيض الإنتاجية، بل هو نقد لها، حيث إنه دعوة للتفكير في نوعية العمل، وليس الكم، وفي جدوى الوقت وليس طوله. إنه سؤال عن الأثر الحقيقي للإنسان في حياته ومحيطه، لا عن عدد الملفات التي أنجزها أو المكالمات التي أتمها في زمن بات فيه الإرهاق الجماعي للأفراد هو القاعدة، والانتحار المهني منتشرًا في كبرى الشركات، والنفور من العمل ظاهرة عالمية، وقد يكون حان الوقت للتفكير في سياسات تعترف بأن تقليل الجهد ليس تراجعًا، بل هو إعادة توازن.
ولعل المفارقة في الأمر نفسه أن العودة إلى الكسل قد تفتح أفاقًا جديدة للاقتصاد نفسه، حيث تتراجع وتيرة الاستهلاك، ويخف الضغط على الموارد، وتتاح للناس فرص للتأمل والإبداع، وتنشأ أشكال جديدة من الاقتصاد مثل الاقتصاد الذي يُثمن الحرف اليدوية، الاقتصاد الأخضر، اقتصاد المشاركة، وأشكال من الإنتاج لا تقاس بالحجم، بل بالمعنى، فحين يمنح الإنسان وقتًا كافيًا ليعيش لا ليعمل فقط، ربما تبدأ دورة حياة جديدة، أكثر بطئًا، لكنها أكثر استدامة.
لقد حان الوقت ألا نخجل من كلمة “كسل”، بل أن نعيد تعريفها، وننصت لما تخفيه من احتجاج صامت على نمط حياة لا يطاق، وربما في لحظة تنذر بتغيرات كبرى في شكل العمل والعلاقات الاقتصادية، يصبح من الحكمة أن نعيد التفكير: هل نحتاج إلى العمل أكثر؟ أم أن الوقت قد حان لنعيش أكثر؟