بدر شاشا :
حين يرفع الإنسان رأسه نحو السماء ليلاً يشعر أن كل نقطة مضيئة فيها ليست مجرد ضوء بل تاريخ كامل وسفر طويل في عمق الفضاء وأن المسافة بين الأرض وتلك الأجسام الهائلة ليست أرقاماً بسيطة بل فضاءات واسعة تتجاوز حدود التصور فمهما بدت السماء قريبة من أعيننا يبقى الكون فضاءً عظيماً لا يُقاس بسهولة وتبقى كل حركة فيه خاضعة لقوانين دقيقة تحكم الكواكب والنجوم والمجرات
تبدأ هذه الرحلة من القمر الجار الأول للأرض والذي يبعد مسافة تقارب ثلاثمائة وأربعة وثمانين ألف كيلومتر وهو أول جسم سماوي وطئته قدم الإنسان ثم يأتي عطارد الذي قد يقترب من الأرض حتى يصل إلى مسافة سبعة وسبعين مليون كيلومتر أما الزهرة فهي أكثر الكواكب اقتراباً من الأرض وقد تصبح على مسافة واحد وأربعين مليون كيلومتر مما جعل العلماء يصفونه بتوأم الأرض على الرغم من اختلاف الظروف بينهما
أما المريخ الكوكب الأحمر الذي أثار خيال العلماء لعقود فيقترب منا حتى ستة وخمسين مليون كيلومتر وقد يبتعد إلى أكثر من أربعمائة مليون كيلومتر بحسب موقع الأرض والمريخ في مداريهما ثم يأتي المشتري عملاق النظام الشمسي الذي يقترب في بعض الأحيان إلى حوالي ستمائة وثمانية ملايين كيلومتر بينما يقترب زحل بحلقاته الشهيرة حتى مليار ومئتي مليون كيلومتر ويبتعد أورانوس إلى ما يقارب مليارين وستمائة مليون كيلومتر أما نبتون فيأتي في أقرب نقطة منه على بعد حوالي أربعة مليارات وثلاثمائة مليون كيلومتر وهذه المسافات تكشف مدى اتساع نطاق المجموعة الشمسية وحدها
وعندما نغادر حدود النظام الشمسي نصل إلى النجوم والتي تبعد عنا مسافات لا يمكن للعقل البشري graspها بسهولة فالشمس أقرب النجوم إلينا وتبعد حوالي مئة وتسعة وخمسين مليون كيلومتر وهو بُعد يبدو هائلاً لكنه لا يمثل شيئاً مقارنة بنجوم أخرى أقربها بروكسيما سنتوري الذي يبعد أكثر من أربع سنوات ضوئية أي ما يقارب أربعين تريليون كيلومتر وهناك نجم الشعرى اليمانية الذي يلمع بقوة في السماء ويبعد ثمانية فاصلة ستة سنوات ضوئية مسافة تزيد عن واحد وثمانين تريليون كيلومتر
بعض النجوم العملاقة مثل منكب الجوزاء يبعد أكثر من ستمائة سنة ضوئية وهو نجم هائل الحجم يمكن لمداره الداخلي أن يبتلع الأرض لو كان ضمن نظامنا الشمسي وهناك نجوم نابضة ونيوترونية تبعد آلاف السنين الضوئية عن كوكبنا ومع ذلك نستطيع رؤيتها بفضل قوة ضوئها
أما المجرات فهي عالم آخر تماماً إذ تبعد مجرة أندروميدا عن مجرتنا أكثر من مليونين ونصف المليون سنة ضوئية وتعتبر أقرب المجرات الكبرى إلى درب التبانة أما المجرات الأخرى مثل مجرة ويلبو فتقع على بعد أكثر من ثلاثين مليون سنة ضوئية وتصل المسافات إلى مليارات السنين الضوئية مع المجرات التي التقطت تلسكوبات الفضاء صورها والتي استغرق ضوؤها أكثر من عشرة مليارات سنة ليصل إلى أعيننا وهذا يعني أننا نرى ماضي الكون كما كان منذ عصور لا يمكن تخيلها
مع كل هذه المسافات الهائلة يبقى الكون محكوماً بنظام دقيق فالكواكب تدور حول النجوم والنجوم تتحرك داخل المجرات والمجرات نفسها تتنقل ضمن نسيج كوني واسع يتمدد باستمرار وهذا الاتساع المستمر هو أكبر دليل على أن الكون ليس ثابتاً بل في حالة حركة دائمة وأن كل نقطة ضوء في السماء قد تكون في الحقيقة مجرة كاملة تحتوي على مليارات النجوم والأنظمة الكوكبية
وعندما نعود من هذا الامتداد الهائل إلى كوكب الأرض نجد أن الدورة الهوائية تشكل نظاماً معقداً ودقيقاً لا يقل روعة عن حركة الأجرام السماوية فهي تبدأ بارتفاع الهواء الساخن من خط الاستواء وصعوده إلى طبقات الجو العليا حيث يبرد ثم يعود لينزل في مناطق أخرى فيحرك الرياح ويكوّن السحب وينشئ العواصف والأمطار وتنقسم هذه الدورة إلى خلايا كبيرة تتحكم في مناخ الأرض من المناطق الاستوائية إلى القطبية
هذه الدورة ليست ثابتة بل تتغير حسب الفصول ودرجة حرارة المحيطات وتأثير التيارات البحرية مثل النينو واللانينيا كما تؤثر التغيرات المناخية الحديثة في شدة هذه الدورة مما يؤدي في بعض المناطق إلى موجات حر شديدة وفي مناطق أخرى إلى أمطار غزيرة أو جفاف قاس
ومع كل هذا التعقيد يبقى هناك تشابه عميق بين الكون وبين نظام الأرض فالكل قائم على حركة مستمرة وانتظام مذهل وقوانين فيزيائية ثابتة تحكم مصير أصغر ذرة وأكبر مجرة وما زال الإنسان رغم كل اكتشافاته يقف أمام هذا الكون الهائل وكأنه لا يعرف منه إلا القليل فالأسرار التي تحيط بالنجوم والثقوب السوداء والمادة المظلمة والطاقة المظلمة لا تزال لغزاً كبيراً يؤكد أن رحلة المعرفة لم تبدأ بعد بالشكل الكامل
فالإنسان حين ينظر إلى السماء لا يرى مجرد نقاط بعيدة بل يرى امتداداً لعوالم لا نهائية ومسافات تفصلها مليارات السنين الضوئية ومع ذلك يصل ضوؤها إلينا ليخبرنا أن الكون أكبر بكثير مما نتخيل وأن كل ما اكتشفناه حتى الآن مجرد خطوة صغيرة في طريق طويل لا نهاية له

