خواطر حول أمن المحطات النووية
بقلم – الدكتور على عبد النبى:
مواجهة ومجابهة المخاطر هى أحد أسباب تطور التكنولوجيا، ولهذا السبب فإن المحطة النووية هى أحد التكنولوجيات المتطورة والمتوفرة فى السوق العالمى بغرض توليد الطاقة الكهربائية.
المحطة النووية آمنة بطبيعتها، وقد روعى ذلك فى تصميمها وجودتها، وذلك بهدف درء خطورة المواد المشعة على الناس والبيئة. ولذلك نجد أن الجزيرة النووية داخل هيكل خرسانى قوى “وعاء احتواء”، يتحمل الصدمات والانفجارات الخارجية، ويتحمل الضغوط والحرائق الداخلية، وكذا يتحمل الأعاصير والزوابع والزلازل والسونامى، وما إلى ذلك.
موضوع أمن المحطات النووية، موضوع كبير، ولا يمكن تغطيته فى مقالة واحدة، بل هو يحتاج سلسلة من المقالات. ولذلك جاءت هذه المقالة تحت مسمى “خواطر حول أمن المحطات النووية”.
يتعلق الأمن النووي بالسرقة والتخريب والوصول غير المصرح به والنقل غير القانوني أو غيرها من الأعمال الضارة التي تتضمن مواداً نووية وغيرها من المواد المشعة والمرافق المرتبطة بها، والحماية المادية تشكل جزءاً هاماً منه؛ وهو يتعلق بقضايا الأمان النووى. وبذلك فإن الأمن النووى يتعلق بموضوعات كثيرة، منها المواد النووية أو المواد المشعة الأخرى، والتى هى قيد الاستخدام أو التخزين أو النقل، وكذا المنشآت والمرافق المرتبطة بها. ولكننا فى هذه المقالة سوف نتكلم عن جزء صغير(قليل القليل) فى الأمن النووى الخاص بالمحطة النووية.
الوقاية خير من العلاج – من الأمثلة الشائعة – والوقاية جوهرها فى صعوبة اختراق النطاق الأمنى؛ وكذا فى التنبؤ والكشف عن التهديدات المتوقعة والتهديدات الغير متوقعة، وبفترة قبل حدوثها؛ وفى اليقظة والاستعداد التام، بمعنى تكون فى الحالة الساخنة طوال الوقت؛ وأيضا فى استخدام الضربات الاستباقية. ومن خلال الضربات الاستباقية يتم تدمير هذه التهديدات قبل حدوثها، أو يتم تدميرها لحظة حدوثها. وفى حالة حدوث تهديد أو هجوم، يتم التعامل معه قبل لحظة حدوثه، للقضاء عليه أو يتم إفشاله أو يتم تعطيله، ثم العمل على تخفيف أضراره، وذلك بما لا يتعارض مع الأمان النووى للمحطة النووية.
يجب أن يكون لدى المحطة النووية تدابير أمنية قوية ومطبقة. والتدابير الأمنية تحتاج لعناصر كثيرة منها على سبيل المثال: الأفراد؛ والمعدات والأجهزة والتجهيزات والمنشآت؛ وخطط أمنية مادية مطورة؛ وحواجز مادية؛ ودوريات أمنية؛ وضوابط للوصول والدخول للموقع؛ وبرامج تفتيش على المنظومة الأمنية؛ والمراجعة الأمنية والهندسية لمنظومة الأمن وتطويرها ورفع كفاءتها؛ وقنوات فعالة للتنسيق والاتصالات مع الجهات الوطنية الخارجية والمعنية بأمن المحطة النووية؛ والأبحاث والدراسات التى تسمح بتحليلات أكثر تطوراً لمواكبة التطورات فى أساليب التهديدات الإرهابية.
ونظرا لما شاهدناه من استخدام العصابات الإجرامية الإرهابية لأساليب متطورة قد لا تخطر على بال أحد. فقد يستخدم الإرهابيون طائرة مدنية لمهاجمة محطة نووية. وقد كان لهجمات 11 سبتمبر 2001، على مركز التجارة العالمى فى نيويورك، أثر كبير على منظومة الأمن النووى، ونجدها قد طورت بشكل كبير من فلسفة الأمن النووي الخاص بالمحطات النووية. كما فتحت آفاق البحث فى مجالات جديدة قد تشكل تهديداً خارجياً أو داخليأ للمحطات النووية. وهى تشمل العمليات الإرهابية بالطائرات أو المقذوفات الصاروخية أو القنابل القذرة أو الهجمات الألكترونية أو العمليات الانتحارية أو الحرائق، وخلافه. وهذا يحتاج إلى بنية تحتية شاملة وقوية، ويصعب اختراقها أو تعطيلها أو تدميرها، وكذا خطط محكمة وقوية وسرية وعملية، ويستطيع تنفيذها بسهولة على أرض الواقع، ولا تتعارض مع الأمان النووى للمحطة النووية.
هناك احتمال مهاجمة المحطات النووية بطائرات عملاقة محملة بالركاب والبضائع، فهى ذات أوزان ثقيلة، قد يكون وزنها يزيد عن 350 طناً، وسرعتها أعلى من 500 كيلومتراً فى الساعة. كما وضعوا فى الاعتبار الحريق الذى سوف يحدث جراء انفجار خزانات الطائرة والمليئة بالبنزين فى مبنى المفاعل النووى الخرسانى “وعاء الاحتواء”. والمعروف أن مقاومة وعاء الاحتواء للصدمات تعتمد على حديد التسليح، وهو المكون الرئيسى لهيكله، وحديد التسليح هو من الصلب الكربوني، والذى يبدأ في فقد قوته عند درجات حرارة تزيد عن 300 درجة مئوية وتقل قوته بمعدل ثابت حتى تصل درجة الحرارة إلى 800 درجة مئوية. ثم تنخفض قوة الحديد الصغيرة المتبقية بشكل تدريجي حتى درجة حرارة الانصهار عند حوالي 1500 درجة مئوية.
أصبحنا نرى أن التصميمات الجديدة لمنظومة الأجهزة والتحكم والخاصة بمحطات الطاقة النووية تعتمد على التكنولوجيا الرقمية، وبذلك أصبحت مهام ووظائف أنظمة الأجهزة والتحكم فى المراقبة والتشغيل والتحكم والحماية تتم من خلال المنظومات الرقمية. وكذا فى الأنظمة المساعدة لتشغيل المحطة النووية، وكذا أطقم الدعم الفنى تستخدم عادة شبكات الكمبيوتر، واحتمال وجود صلات بين هذه النظم ونظم التحكم فى تشغيل المحطة. وبذلك أصبحت هذه الأنظمة عرضة لخطر هجمات إرهابية إلكترونية فى حالة وجود ثغرات فى منظومة الأمن الإلكترونية الخاصة بالمحطة النووية.
الهجمات الإرهابية الإلكترونية يشنها الإرهاب السيبرانى والذى يستخدم “الفضاء السيبرانى” لتنفيذ الأعمال الإرهابية. والإرهاب السيبراني هو “هجمات أو تهديدات بالهجوم ينفذها أفراد أو مجموعات أو منظمات إرهابية عبر الفضاء السيبراني، على أجهزة الكمبيوتر والشبكات الرقمية والمعلومات المخزنة بها”.
والأمن السيبرانى فى المحطة النووية يحمي أنظمة الكمبيوتر والشبكات الرقمية من الهجمات الإلكترونية، بما في ذلك الأنظمة والشبكات المرتبطة بها، مثل الوظائف المتعلقة بالأمان والوظائف الثانوية التي تعتبر “مهمة للأمان”؛ ووظائف الأمن؛ ووظائف التأهب لحالات الطوارئ، بما في ذلك الاتصالات خارج الموقع؛ ودعم النظم والمعدات المهمة للأمان والأمن.
لكننا نرى، وحتى الآن أنه لم تحدث حوادث فى محطات نووية على مستوى العالم نتيجة الهجمات الإلكترونية التى مصدرها شبكة الإنترنت، وذلك بسبب منظومات الأمن السيبرانى القوية (حائط نيران)، وكذا بسبب عزل الشبكة المسؤولة عن المراقبة والتشغيل والتحكم والوقاية فى المحطة النووية عن الشبكات الخارجية، بما فى ذلك الإنترنت. ويوفر هذا العزل الحماية من العديد من التهديدات السيبرانية. على عكس ذلك، نجد أن شبكة المحطة النووية التجارية، هى التى يمكنها التعامل مع الفضاء الخارجى من خلال شبكة الانترنت.
عموما الإرهاب والعمليات الإرهابية فى تزايد وتطور مستمر، وأصبح الأرهاب يستخدم التكنولوجيات المتطورة فى تنفيذ عملياته، فهو يعمل فى جميع الاتجاهات والمجالات، ولا يمكن التنبؤ به. لكن يجب وضع الخطط والبرامج المطورة للتنبؤ بالمخططات الإرهابية، وإلى اجراء تقييمات واقعية للتكتيكات والتكنولوجيات والإجراءات التي تستخدمها الجماعات والمنظمات الإرهابية، وكذا العمل المستمر فى تقييم بيئة التهديد، وبذلك نضمن مواجهة ومجابهة المحطة النووية لجميع الاحتمالات والمستجدات فى عالم الإرهاب، وبذلك تكون المحطة النووية بعيدة عن عمليات إرهابية قادمة.
موضوع التأهب لحالات الطوارئ في المحطات النووية، هو موضوع كبير ومترامى الأطراف، وخطير وشائك ويتضمن برامج سرية؛ وإجراءات سرية؛ ومنظومات سرية، وتشارك فيه عديد من الجهات الوطنية الخارجية (بمعنى خارج المحطة النووية). وهذا الموضوع يحتاج لعدة مقالات، لكن سوف اختصر الحديث عنه هنا، بما يوضح للقارئ مضمونه وأساسياته.
الكوارث النووية سواء كانت “تشرنوبيل” عام 1986؛ أو “فوكوشيما” عام 2011؛ وحادثة محطة “ثرى مايل آيلاند” النووية عام 1979؛ وكذا هجمات الحادى عشر من سبتمبر عام 2001 على مركز التجارة العالمى، أظهرت أن هناك قصوراً فى منظومة التأهب لحالات الطوارئ، وأن الحكومات لم تكن يقظة بالقدر الكافى لمواجهة هذه الكوارث. وقد أدى ذلك إلى إعادة النظر فى برامج ومنظومات الاستعداد لحالات الطوارئ لحماية الناس.
ومع كل حدث من هذه الأحداث هناك دروس مستفادة، والتى بناء عليها يتم تطوير وتحسين خطط الطوارئ، وتطوير وتحسين طرق الاستجابة، وطرق الاتصال ما بين المحطة النووية وبين الجهة الوطنية الخارجية المعنية بحالات الطوارئ في المحطة النووية، وبالتنسيق مع هيئة التنظيمات النووية.
خطط الطوارئ تتضمن الإخلاء والإيواء وجميع الإجراءات لحماية السكان القريبين من المحطة النووية في حالة وقوع حادث خطير، مع ضمان اتخاذ تدابير وقائية مناسبة لحماية العاملين والجمهور في حالة الطوارئ الإشعاعية.
وجود الجزيرة النووية داخل “وعاء الاحتواء” يعتبر ضماناً كافياً لمنع خروج المواد المشعة إلى البيئة المحيطة بالمحطة النووية. لكن فى حالة “لا قدر الله” وخرجت مواد مشعة من “وعاء الاحتواء”، فهناك خطط طوارئ موضوعة لمواجهة ومجابهة هذا الحدث.
وخطط الطوارئ تختلف باختلاف كمية الإشعاعات المنبعثة وحدود ومساحة انتشارها، فقد تقتصر انبعاثات المواد المشعة وتكون داخل موقع المحطة النووية، أو تنتشر فى مساحة بالقرب من حدود المحطة النووية، وفى هذه الحالة يتم التعامل والاستجابة مع الحدث بخطة طوارئ منطقة موقع المحطة النووية. أما فى حالة انتشار المواد المشعة فى مساحات تبعد كثيراً عن موقع المحطة النووية، فى هذه الحالة يتم التعامل والاستجابة مع الحدث بخطة الطوارئ العامة.
أشكركم وإلى أن نلتقى فى مقالة أخرى لكم منى أجمل وأرق التحيات.