بقلم -حسن غريب أحمد :
ناقد روائي شاعر
تتردّد عبارة “الإبداع يسبق النقد” في المشهد الثقافي بوصفها مسلّمة لا تقبل التشكيك.
جملة تبدو أقرب إلى بديهة زمنية بسيطة: فلا نقد بلا نصّ، ولا قراءة بلا وجود عمل ينتظر التأويل.
لكن هذه الحقيقة الظاهرية سرعان ما تتحوّل — في كثير من السياقات — إلى سلاحٍ ثقافيّ وذريعة جاهزة تُستخدم لردّ النقد، وتقديس النصوص، وتمرير الأعمال الضعيفة تحت لافتة “الإبداع الحر”.
وهكذا تصبح الحقيقة نسبية في أصلها، لكنها تُوظَّف توظيفًا مطلقًا يراد به — في الغالب — باطل.
أولًا: الخديعة الكامنة في البداهة.
إن القول بأن “الإبداع يسبق النقد” صحيح من حيث التسلسل الزمني، لكنه ليس قاعدة معرفية تفرض تفوّق أحدهما على الآخر.
فالبدء لا يمنح الأفضلية، وسبقُ الخلق لا يمنح الحصانة. النقد ليس تابعًا للمبدع، بل هو شريك في تشكيل وعيه، ومكوّن أساسي في تطوّر النص.
وعليه، تصبح العبارة — حين تُحمَّل بأكثر مما تحتمل — أشبه بستار لغوي يخفي تحته نزعة رفض للمساءلة، أو رغبة في تحويل الإبداع إلى منطقة محرّمة؟
ثانيًا: حين تُستخدم العبارة للهروب من المسؤولية.
غالبًا ما تظهر هذه المقولة في لحظات دفاعية:
مبدع يرفض نقدًا بنّاءً، فيستنجد بالعبارة ليحسم النقاش.
أو مؤسسة ثقافية تبرّر الفوضى الفنية وتعيد إنتاج الرداءة باسم “حرية الإبداع”.
وهكذا تُختزل العبارة إلى “حصانة شرعية” ضد أي قراءة جادة.
يُصبح الإبداع “قدَرًا” لا يُساءَل، والنقد “تطفّلًا” غير مرغوب فيه.
والنتيجة: ساحة تزدحم بالنصوص، وتفرغ من المعايير.
ثالثًا: النقد ليس متأخرًا… بل حاضر قبل وأثناء وبعد الإبداع.
في الحقيقة، النقد لا يأتي بعد النص فحسب؛ بل يرافقه في كل مراحله:
قبل الكتابة: في شكل أسئلة جمالية، ورؤى فكرية، وتجارب متراكمة في ذهن المبدع.
أثناء الكتابة: في شكل وعي باللغة، وتفكير في البناء، ومراجعة مستمرة لكل سطر.
بعد الكتابة: في شكل تحليل وتأويل وتثمين أو تقويم.
لذا فالفصل بين الإبداع والنقد فصلٌ تعسّفي؛ فالنقد يسكن البنية الداخلية للنص، لا هامشه.
رابعًا: خطورة تحويل المقولة إلى “نص مقدس”
حين تتخذ العبارة شكلاً قطعيًا، تتحوّل إلى أداة لعرقلة الحركة الثقافية، وتفضي إلى:
تبرير أعمال ضعيفة تحت شعار “المهم الفكرة”.
خلق حساسيات مرضيّة بين المبدعين والنقاد.
تراجع الذائقة العامّة.
وغياب الأسئلة الضرورية لبناء مجتمع فني حيّ.
إنّ الخطر الحقيقي ليس في الجملة ذاتها، بل في الاستعمال النفعي الذي يجعل منها درعًا ضد النقد، لا جسرًا للحوار.
خامسًا: العلاقة الصحيحة بين الإبداع والنقد
الصياغة الأكثر دقة ليست:
“الإبداع يسبق النقد”،
بل:
“الإبداع يلد النقد، والنقد يربّي الإبداع”.
الإبداع بلا نقد يتحوّل إلى فوضى، والنقد بلا إبداع يتحوّل إلى فراغ.
إنهما علاقة تواشج لا تنازع؛ طرفان يكوّنان معًا الوعي الجمالي الذي تنهض عليه أي نهضة ثقافية.
قبل النهاية :
من الحقيقة النسبية إلى الاستخدام الباطل
نعم، الإبداع يسبق النقد في الزمن، لكن ذلك لا يعني أن المبدع يعلو على الأسئلة، أو أنه لا يخضع لميزان التقييم.
العبارة — في جوهرها — صحيحة، لكنها تصبح باطلة حين تُستعمل لتكميم النقد، أو تبرير العجز، أو منْح النصوص ما لا تستحقّه من حصانة.
فالإبداع الذي يخشى السؤال، إبداع هشّ.
والنص الذي لا يحتمل
الضوء، نصٌّ لا يليق بالبقاء.
