مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

حل المعضلة الليبية متجذر في تاريخها

يرى السيد هاري هالم في كتابه الجديد، السلالة السنوسية: العائلة التي صنعت ليبيا، أن التاريخ قد يتطابق، ولكنه لا يتكرر.

يذكرنا موت الملكة إليزابيث بضرورة الرمزية. فنحن لسنا بمخلوقات تعيش بشكل فردي ومنفصل وبدون روابط اجتماعية باستثناء تلك التي نختارها. لقد ولدنا في مجتمعات لها تاريخ وثقافات، شُيدت على مدى مئات إن لم نقل آلاف السنين. ما هو رأس الدولة؟ كما هو الحال في بريطانيا، لقد وقفت الملكة بعيدًا عن الشعب، بعيدًا عن النظام، متجاوزةً قيود القانون، وبالتالي فهي الوصية عليه. في المقابل، فإن وجود رأس الدولة يضمن الحرية: إن الطبيعة المختلطة للنظام السياسي هي التي توفر له التوازن، وبعض العزل المعتدل ضد بربرية العصر اليعقوبي.

لا يعد رغم ذلك نظام ويستمنستر هو النظام الوحيد الذي ينبغي فهمه من خلال رأس الدولة. كتاب هاري هالم الجديد، السلالة السنوسية الحاكمة: الأسرة التي صنعت ليبيا، يحدد دور الملك في ذلك البلد المضطرب في شمال إفريقيا. وسيكون من الحكمة أن نقرأ كلماته، وعما قريب: وفاة الملكات والملوك ينذر بمزيد من الانحلال.

خلال اجتماع جامعة الدول العربية بتاريخ 6 سبتمبر في القاهرة، غادر وزير الخارجية المصري، سامح شكري، في منتصف الجلسة احتجاجًا على الاعتراف بنجلاء المنقوش كوزيرة للشؤون الخارجية الليبية. يبدو للوهلة الأولى أن هذا خلاف سياسي آخر داخل الدول العربية، والذي لا يعيره الغرب والعالم بشكل عام سوى القليل من الاهتمام. إنها قضية مختلفة تماماً. مصير ليبيا ومستقبلها أمر محوري بالنسبة للقوى الأوروبية والشرق الأوسط – في الواقع، قضية ليبيا لها صلة بتوازن المنطقة الأورو آسيوية المفهومة بشكل جيد. ليبيا عضو في منظمة الأوبك، ومصدّر رئيسي للطاقة إلى جنوب أوروبا، ومنذ عام 2011 وهي تعاني من عدة حروب أهلية. لقد فر مئات آلاف الليبيين من البلاد على مدار العقد الماضي، ونزح مئات الآلاف من السكان الآخرين داخليًا. وتعد الاعتبارات الجيوسياسية كذلك ذات صلة. تركيا ومصر على طرفي نقيض في الصراع الليبي الحالي، الذي يضع طرابلس في مواجهة بنغازي، ويقسّم البلاد على أسس إقليمية. وفي الوقت نفسه، لا زالت روسيا تستثمر لصالحها. شاركت مجموعة فاغنر التابعة للدولة الروسية في الحرب الأهلية الليبية الثانية واحتفظت بالسلطة داخل البلاد. يؤدي عدم الاستقرار في ليبيا إلى ارتفاع أسعار البترول فقط عندما تحتاج موسكو إلى ارتفاعها. وإذا تم ترك روسيا دون ردع، فستواصل ضغطها بلا توقف، مما يزيد من تقويض النظام الوطني والإقليمي. وبالتالي، أي إجراء حاسم تقريبًا بالنسبة للقضية الأورو الآسيوية ينبغي أن يبدأ بليبيا.

كيف يمكن أن نعالج عدم الاستقرار المزمن في ليبيا؟ هل يمكن أن يكون مستقبل ليبيا مستقرا، ناهيك عن السلام والازدهار؟ يقترح السيد هالم أن حلولنا الافتراضية للديمقراطية على النمط الجمهوري أو الديكتاتورية “التقليدية” غير صالحة لتحقيق ذلك. يقدم التاريخ الليبي بحد ذاته حلاً – وهو الملكية الدستورية المستخدمة لتسهيل عمل الحكومة التمثيلية، وليس لتدميرها. وقد يكون هذا في الواقع هو النظام الوحيد الذي يحافظ على التمثيل السياسي، بدلاً من تركه تحت رحمة حشد من الناس.

قد يهمك ايضاً:

منظمة فلسطينية تناشد بإرسال بعثات دولية لغزة لمتابعة…

لا يعد بالطبع كتاب السيد هالم برنامجاً سياسياً. كما أنه لا يتطرق بشكل مباشر للقضية السياسية الليبية المعاصرة، ولا يتطرق للقادة الحاليين لمراكز القوة المتحالفة في طرابلس وبنغازي، ولا يقيّم مصالح وقدرات الجهات الفاعلة الخارجية، ولا يوفر كذلك حلًا سياسيًا بطريقة فكرية غير متوقعة. فذلك أمر مقصود. لقد فشلت الاستدلالات الغربية التقليدية لفهم الشرق الأوسط بشكل عام. يبدأ السيد هالم، بالتحديد بالفكر السياسي – فكتابه غني بالمواضيع الفكرية والتاريخية – ليوفر لنا أساسًا جديدًا نبني عليه مفهوم الشرعية المناسب للوضع الليبي.

كما أن السيد هالم لا يضع نفسه ضمن التقاليد المناهضة للاستعمار في دراسات الشرق الأوسط. تعد نظرته العامة الفكرية والتاريخية ثقافية أكثر مما تعبر عن المجازات المعيارية لما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار التي تحدد الأوساط الأكاديمية الحديثة. ويحدد بدلا من ذلك الجذور الفكرية لقضية ليبيا ضمن التقاليد الإسلامية، ولا سيما ضمن مفهوم تكوين الدولة لابن خلدون.

من خلال هذا المنظور، يوضح السيد هالم بشكل مفصل أن ليبيا الحديثة لا تنفصل عن السلالة السنوسية. السنوسيون، كما يبين من خلال أكثر وصف شامل للموضوع باللغة الإنجليزية حتى الآن، ليسوا عائلة ملكية بالمعنى التقليدي. على عكس آل سعود، لم يقوموا بغزو ليبيا ولم يقوموا ببسط سيطرة قبيلة واحدة على البلاد. ولم يتم تنصيبهم من قبل الغرب على عكس الهاشميين العراقيين. إنهم ليسوا بأسياد قبائل ولا بحكام مفروضين من طرف جهات أجنبية. بدلاً من ذلك، فإن السنوسيين هم في الأصل طائفة دينية صوفية وصلت إلى ليبيا في أوائل القرن التاسع عشر. وجد المؤسس محمد بن علي ليبيا في فوضى عارمة: كانت الأراضي الداخلية مليئة بقطاع الطرق، ويسيطر على مدنها الساحلية القراصنة وتجار العبيد، وكان اقتصاد المنطقة منعدما. توسع السنوسيون، ليس من خلال الغزو، ولكن من خلال العمل مع السكان المحليين، وإنشاء الزوايا – معابد صوفية – للتعليم وكحصون على عبر الصحراء الليبية، وحماية القوافل ذات الأهمية البالغة للتجارة البرية التي تعرف بقطع مسافات طويلة. بحلول أواخر القرن التاسع عشر، سيطر السنوسيون على معظم ليبيا تقريباً، وكان لهم روابط في جميع أنحاء حوض تشاد. لقد حكموا بالطبع من خلال التراضي الشرعي، وليس من خلال انتخابات أو نظام دستوري رسمي، ولكن التراضي كان حاضراً رغم ذلك.

لم يقتصر الأمر على منح السنوسيين للسكان الليبيين فرصة للخروج من حالة الفوضى التي حددت المنطقة قبل وصولهم – بل دافعوا أيضًا عن ليبيا ضد الاستعمار الغربي الجشع بشكل متزايد. كانت العائلة السنوسية، التي يُطلق عليها اسم خلفاء محمد بن علي، من قادة زمن الحرب منذ البداية. بحلول أواخر القرن التاسع عشر، وضعت القوى الأوروبية ليبيا في حصار من الشرق والغرب، بين المملكة المتحدة في مصر وفرنسا في تونس. شن السنوسيون، بقيادة أحمد شريف في المقام الأول، حملة طويلة ضد القوى الاستعمارية الأوروبية، حيث قاتلوا في البداية ضد الفرنسيين في تشاد، ثم الإيطاليين في ليبيا. في المقابل، أصبح إدريس، الزعيم السنوسي الشرعي، رئيسًا من الناحية الوظيفية للحركة في أواخر عام 1916، وتفاوض على سلام منفصل مع البريطانيين. ولو لم يحدث انقلاب موسوليني في إيطاليا، لكان من المحتمل أن تحصل ليبيا على استقلالها تحت حكم السنوسيين في عام 1920 في ظل نظام فيدرالي إلى حد ما – حتى أن سكان إقليم طرابلس وافقوا على حكم السنوسيين، مما يظهر إلى أي مدى يمكن أن يؤدي قرن من القتال لصالح السكان الليبيين الضعفاء إلى تحويل شعب إلى قضية.

رأى إدريس، الذي أصبح ملكًا على ليبيا، أن حلمه في إقامة دولة مستقلة ونابضة بالحياة يحكمها الدستور قد تحقق – في الواقع، أصر السنوسيون على الحكم طبقاً للدستور، وأخرجوا إلى الوجود نظامًا يكرس الديمقراطية البرلمانية والحقوق الفردية وحرية الفكر قبل وقت طويل من قيام أي دستور آخر بذلك في العالم الإسلامي. لقد كسرت القوى التاريخية هذا الحلم مرة أخرى: فالحركة القومية العربية التي أطاحت بالأنظمة في مصر والعراق فعلت الشيء نفسه في ليبيا عام 1969، ومنحت الفرصة لدكتاتورية القذافي. لقد ترك العنف والفساد وعدم الكفاءة التي ميزت حكمه جروحاً داخل البلد. إنها الأسباب الأعمق للحروب الأهلية الليبية، وليست بعض الصدمات المفترضة ما بعد الاستعمار أو الكراهية العميقة التي يعبر عنها المحللون الغربيون في كثير من الأحيان.

وبما أن كتاب هالم يركز على الجانب التاريخي، فإن وجهة نظره واضحة. يمكن لليبيا أن تعمل كدولة إذا كان حاكمها قادرًا على تجسيد وحل التناقضات المتمثلة في فصائلها السياسية والحد من التدخل الأجنبي المفترس في الشؤون الليبية. تظل الملكية الدستورية هي أفضل، وربما الطريقة الوحيدة، لتحقيق هذه الأهداف. ولحسن الحظ، فإن العائلة السنوسية لها قائد شرعي، وهو محمد السنوسي، نجل ولي العهد الأمير حسن السنوسي، والشخص الوحيد الذي من حقه أن يطالب فعليًا بالعرش الليبي.

قدم السيد هالم بالتالي مساهمة قيمة وفريدة من نوعها، لكل من الطلاب والمراقبين في السياسة الليبية وشمال إفريقيا، وعلى نفس القدر من الأهمية، لأولئك الذين لا يرون سوى حلول محدودة لمشاكل ليبيا بصرف النظر عن الوحشية والانقسام والافتراس الأجنبي. قد يتطابق التاريخ لكنه لا يتكرر، ومع ذلك من الأفضل لنا أن نصغي لذلك: الملكية الدستورية هي الخيار الأفضل، وربما الوحيد، القابل للتطبيق إذا أردنا تأسيس دولة ليبية مستقرة وديمقراطية، ناهيك عن دولة مزدهرة.

 

التعليقات مغلقة.