بقلم: حسن إسميك
يتسمّر العالم، مرة كل أربع سنوات، أمام وسائل الإعلام، المرئية منها على وجه الخصوص، الثابتة والمحمولة، التقليدية أو الذكية، لتتبع الحدث المنتظر، متسلحا بالإحصاءات من جهة، وبالتنبؤات من جهة ثانية، بعضه متحمس، وبعضه غير مكترث، والجميع يترقب النتائج.
ليس الحديث هنا عن كأس العالم أو عن الألعاب الأولمبية، بل عن سباق “الفيل” و ” الحمار” نحو المكتب البيضاوي في البيت الأبيض.
الحمار والفيل، كما بات معروفاً عند الغالبية، هما على التوالي شعارا الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري الأميركيين، واللذَين يسيطران منذ عقود على كل الانتخابات في البلاد، وفي مقدمتها الرئاسية. قد تتساءل عزيزي القارئ عن سر اختيار هذين الكائنين المختلفين كل الاختلاف حجماً، وسلوكاً، ومكانة في الثقافات الشعبية، ليمثلا الحزبين الأقوى في أقوى دولة في العالم. والحق أن “الحمار” وصل الى الواجهة عن طريق الكيدية، إذ فرض تبنيه رئيس ديمقراطي في 1828 في محاولة لتحدي خصومه الذين شبّهوه بالحمار. أما ” الفيل” فجاء متأخرا عن صاحبه قرابة نصف قرن، واعتمده الجمهوريون بغرض التفوق على خصومهم رمزياً، وهو الحيوان الجبار نقيض “الحمار” المعروف باستسلامه الساذج الكسول لقدره.
يجد البعض جانباً إنسانياً في اختيار هذين الحيوانين الوديعين، كل على طريقته. فالفيل لطيف، إجمالاً، لكن ويلك إذا أغضبته، أما الحمار، فلعله وديع أكثر مما ينبغي. لكن انتقاءهما ينطوي على قدر من السخرية، والحق أن مبتكر رمز “الفيل” كان أحد أبرز رسامي الكاريكاتور الأميركيين آنذاك.
حزبان… أحزاب
ولا ننسى أن هيمنة “الحمار” و”الفيل” على المشهد الانتخابي الأميركي لا تعني أنهما الحزبان الوحيدان في أميركا، فهناك حزب الخضر، وحزب الاستقلال الأميركي، وحزب الدستور، والحزب التحرري (الليبرتاري)، وحزب الإصلاح والحزب الشيوعي الأميركي وغيرها… لكن نظام الانتخاب غير المباشر القائم على “المجمع الانتخابي”، ومبدأ “الفائز يحصد كل الأصوات” السائد في كل الولايات (باستثناء نبراسكا وماين) هو الذي خلق حالة الاستقطاب السائدة.
والأميركيون لا ينتخبون في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، رئيس البلاد فحسب، بل نائبه أيضاً، أضافة إلى أعضاء مجلس النواب (435 نائباً)، و35 من أصل 100 من أعضاء مجلس الشيوخ. ونعرف، خصوصاً من الأحداث الكبيرة التي شهدتها ولاية الرئيس دونالد ترامب، أن لمجلس الشيوخ نفوذاً كبيراً يتجاوز دوره التشريعي، وأن فوز أحد الحزبين بالغالبية في مجلس الشيوخ والرئاسة يوفر له قدرة نادرة على تمرير القوانين من دون الاكتراث بالحزب الثاني، حتى ولو كان هذا يسيطر على مجلس النواب.
ويصوّت الأميركيون في هذه الانتخابات أيضاً على موقع بلادهم بين القوى العظمى، وموقفها من الاضطرابات الدولية المتزايدة، وعلى استعدادها لمواجهة المتربصين المستعدين لاقتناص موطئ قدم يتمكنون عبره من تقويض المصالح الأميركية. ويعبّر الناخبون في صناديق الاقتراع أيضاً عن آرائهم في شكل العلاقة التي يريدونها مع إيران التي ما فتئت تعيث فساداً في الشرق الأوسط، وفي تحالفات أميركا الاستراتيجية في هذه المنطقة، كما يصوتون على طبيعة دبلوماسيتهم التجارية، وانتعاش اقتصادهم، وكل المزايا التي حققوها من “قيادة العالم”.
نادراً ما تتعرض الحملات الانتخابية لقضايا السياسة الخارجية، فالانتخابات حدث إعلامي عالمي بامتياز.
كيف لا وهي ستنتهي بتنصيب “أقوى زعماء العالم” الذي سيتربع على عرش أكبر اقتصاد، وأضخم قدرات عسكرية، وأحدث تكنولوجيا، وأكثر القوى السياسية تأثيراً، في العالم بأسره! لذا لا تستغرب إن علمت أن بعض الشعوب قد تهتم بالانتخابات الأميركية أكثر من الأميركيين أنفسهم. ومثلاً أظهرت نتائج استطلاع أجراه “مركز بيو” للأبحاث حول انتخابات الرئاسية الأميركية عام 2008 أن 83% من الأميركيين يهتمون بشدة بالانتخابات، في حين أبدى 84% من الأستراليين اهتماماً مماثلاً!
لا شك في أن البعض يجد جلبة الحملات الانتخابية والضجيج الذي يصدر عن الخصمين الكبيرين، إلى جانب المظاهر والرتوش والفضائح، آسرة يصعب الفكاك منها. بيد أن آخرين حول العالم ينصرفون لمراقبة صراع “الحمار” و”الفيل” بهدف الخروج بفكرة وافية عن النظام السياسي الأميركي، واستشفاف سمات المرشحين وطبيعتهما ومقاربة كل منهما المتوقعة لقيادة العالم، ومعرفة ما إذا كانت أميركا ستتفرد بقيادة العالم أم ستشارك غيرها، وهل ستمسك بالدفة فعلاً أم ستنكفئ على نفسها وتتبع نهج “أميركا أولاً”؟
الرأي وصاحبه
من الطبيعي ألا يكون لآراء الفواعل الدولية أي وزن في انتخابات دولة أخرى، فكيف إذا كانت هذه الدولة أميركا؟ لكن من الغريب ألا تؤثر هذه العناصر الخارجية في قرارات الرئيس المنتخب وإدارته مستقبلاً، لاسيما أن الجميع يدركون كم تساهم جماعات الضغط المختلفة في السياسة الخارجية الأميركية. والمقصود هنا تحديداً الدول العربية.
هناك من يأخذ على بعض الدول العربية تفضيلها هذا المرشح أو ذاك، بل وتصل الاتهامات حد التخوين عند دعم الرئيس دونالد ترامب الذي وقف من جهة ضد مشروع الهيمنة الإيراني، ومن جهة ثانية مع مشروع بناء السلام في المنطقة. لا تكمن المشكلة في أن تدعم أي دولة عربية مرشحاً دون آخر، أو أن تختار المرشح بناءً على مصالحها الشخصية، بل تتمثل في عدم وضع خطط تهدف إلى تعزيز العلاقات وتطويرها في حال فاز المرشح، وبرامج بديلة لتحقيق الغاية نفسها إذا فاز المرشح الآخر.
والسؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هو هل استعد العرب لفوز أي من المرشحين، دونالد ترامب أم جو بايدن؟ وهل هناك لوبي عربي قادر على وضع المصلحة العربية على خريطة الإدارة الأميركية الجديدة؟ ولماذا لم يستطع العرب الوصول إلى أي نوع من الإجماع، وبالتالي القدرة على تكوين أي جماعة ضغط تحوّل العرب من منفعل ومتأثر بالسياسات الدولية إلى فاعل حقيقي فيها. صحيح أن العالم العربي والشرق الأوسط يتمتعان بأهمية بالغة في السياسة الخارجية الأميركية، وأياً كان الرئيس الجديد فهو لن يستطيع تجاهل “المصالح الاستراتيجية” للولايات المتحدة في منطقتنا. لكننا حتى اليوم لم ننجح في الاستفادة من هذا التفصيل المهم جداً، لا بل لعلنا لم نحاول حتى أن نستثمره!
كذلك لم نستفد من الجالية العربية والمسلمة الموجودة في أميركا، رغم أن عددها يكاد يساوي عدد اليهود لتكون أكبر أقلية دينية في الولايات المتحدة بحلول عام 2040 بحسب ما تشير إليه التوقعات، ما يضع بين يديها أوراق تأثير مهمة، يمكن أن تزداد قوة إذا حصلت على دعم عربي أكبر. وللمتصيدين في الماء العكر أقول مباشرة أن هذا لا يقرب الدعوات الانعزالية بالمطلق، بل هو دعوة الى المشاركة والانخراط الفعال في العملية السياسية.
ليست المنطقة العربية تحصيلاً حاصلاً إلا في نظر أبنائها، وهذا مؤسف. يعاني العرب، وأخص الشباب منهم، من لامبالاة شديدة تصل الى حدَّ “الاغتراب السياسي”، وهذا قد يكون في جزء منه أحد أسباب الأهوال والويلات التي شهدتها منطقتنا عبر تاريخها، الحديث عموماً وخصوصاً المعاصر.
لكن السؤال الذي يراودني اليوم، في زمن المنعطفات الدبلوماسية الشجاعة التي نعيشها في المنطقة، أما آن لنا أن ندرك أهمية الرقعة الجغرافية التي نسكنها، بخاصة ونحن نرى صراع القوى الإقليمية والدولية للفوز بمناطق نفوذ فيها؟ ألسنا الأجدر والأحق بهذا النفوذ؟ ألم يحن الوقت لنبني لأنفسنا مكاناً “نستحقه” على خريطة القوى والتوازنات الدولية؟ ألن نرفع عن بلادنا “لعنة الحرب” ونُحل فيها السلام فنقطف ثماره: تنمية وعدالة ورخاء ومستقبلاً لشبابنا ولأولادنا؟