مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

جمل المحمل في شيكاغو الحلقة الخامسة..الخواجة والشيخ في مواجهة شيطان الليل

4

بقلم – محمد حسن حمادة:

دلف الخواجة جورج بنجالو ومعه صديقه (هيرز) إلى قهوة الفيشاوي للقاء الشيخ عبد الهادي وقبل الوصول للفيشاوي كان لزاما عليهما عبور سوق خان الخليلي، في قلب القاهرة القديمة حيث يطل السوق على الغورية وبين القصرين والحمزاوي على امتداد شارع المعز، كان جورج يحملق في واجهات المنازل القديمة ويتوقف أمام تصاميم الأرابيسك والمشربيات والنوافذ الخشبية المنحوتة، والأبواب الخشبية الفاطمية والمملوكية مستعينا بصديقه المفتش (هيرز) الذي كان يشرح له تاريخ كل أثر، كان جورج بنجالو يدون في ورقة صغيرة بعض التفاصيل التي يمليها عليه المفتش (هيرز) انبهر (جورج) بهذه الأزقة الضيقة وتعرجاتها مبديا إعجابه بكثرة المتاجر والبازارات والمحلات التجارية، كل متجر يحوي مجموعة من أمهر الحرفيين في الصناعات اليدوية والأعمال الخشبية والنحاسية، والفضية، بالطبع لم يفوت جورج هذه الفرصة فكان يعرض عليهم الذهاب لمعرض شيكاغو ويحاول إقناعهم بأن العائد المادي الذي سيتقاضونه يفوق مايجنونه في مصر، بعضهم كان يوافق والبعض الآخر كان يرفض، وآخرون  يتهربون ومجموعة أخرى تطلب مهلة للتفكير، وصلا لقهوة الفيشاوي، اختارا جلسة مطلة على المشهد الحسيني، ثم جلسا ينتظران الشيخ عبد الهادي، حضر الشيخ بعد صلاة العصر، حياهما بتحية الإسلام، طلب لهما الشيخ شايا بالنعناع أما هو فطلب شايا صعيديا حبرا ثقيلا، وفي أقل من دقيقة حضر الشاي، وقبل أن يحتسوا الشاي عَرف جورج الشيخ عبد الهادي على المفتش هيرز، شكر جورج الشيخ ثانية لإنقاذه من هذه الكودية المدعوة بالشيخة حبشية، فيرد الشيخ عبد الهادي: لاعليك ياخواجة لكنها ليست شيخة بل هي قوادة وتعمل بتجارة الرقيق وتجلب رقيقا أبيض من أوروبا وأسود من السودان وهي الذراع اليمنى لإمبراطور الهوى إبراهيم الغربي أكبر وأشهر تاجر رقيق في البر كله، شيطان الليل ومؤسس مملكة الهوى والدعارة في مصر ألم تسمعا عنه من قبل؟ وفي صوت واحد يردان (لا).  الشيخ عبد الهادي: حسبنا الله ونعم الوكيل من يصدق أن مصر بلد الأزهر الشريف يمارس فيها البغاء برخصة رسمية من الحكومة؟ (قصره) لا عليكما، فما ذنبكما حتى أشغل رأسيكما بهذه الأمور، فيسأل جورج الشيخ عبد الهادي: لمً لا تقوم بإبلاغ البوليس عن هذه المرأة الشريرة؟ فيتنهد الشيخ بحسرة وألم: كان غيرك أشطر ياخواجة”. حدث ذلك وفعلت ذلك بنفسي عدة مرات ولكن هذه المرأة اللعوب (مسافة مايقبضوا عليها ترجع في نفس اليوم) فهي تدفع بسخاء كما أن معلمها إبراهيم الغربي عليه لعنة الله (موانس) مع الإنجليز والبوليس ياخواجة وصل به الحال إلى رشوة مأموري أقسام عابدين والسيدة زينب والأزبكية بل والأدهى والأمر أنه يخصص لهم رواتب شهرية، هل تظن أن حكمدار العاصمة الإنجليزي سيهتم بتطهير القاهرة من مواخير وكرخانات الفسق والفجور ومن هؤلاء الزبانية هيهات ياخواجة؟ منهم لله نجسوا البلد وكرهونا في المنطقة لم يردعهم جوار سيدنا الحسين وآل البيت الأطهار والأولياء والصالحين ربنا يخلصنا من الأشكال دي على خير”.

جورج: إذن هل أفهم من ذلك أنك وافقت على عرضي؟ ليس قبل أن تحدد لي مهام وظيفتي ياخواجة؟

جورج : نفس مهام وظيفتك هنا في مسجد السلطان حسن وأضف إلى ذلك أنك ستنشر الإسلام في أرض لاتعرف شيئا عن الإسلام، وعفوا أيها الشيخ الماديات ستكون معنا أفضل”.

الشيخ عبد الهادي: بغض النظر عن الماديات هي تجربة مثيرة ولامانع لدي من خوض هذه التجربة لعل الله ينفع بنا ونكون سببا في دخول البعض للإسلام.

جورج بنجالو وهو في منتهى الحماسة: هل تعلم أيها الشيخ أن جمعنا هذا سيمثل الأديان السماوية الثلاث في معرض شيكاغو فأنت تمثل الإسلام وأنا أمثل الديانة المسيحية و(هيرز) يمثل الديانة اليهودية، أليس ذلك مدعاة للتفاؤل بل  وأحد العلامات القوية الدالة على نجاحنا في معرض شيكاغو”. فيرد الشيخ عبد الهادي نعم ذاك فأل حسن”.

تعود (جورج) كلما ألمت به مشكلة اللجوء للحاخام بنيامين عزرا الذي أصبح ملاذه وكاتم أسراره لكن هذه المرة المعضلة كبيرة فبعدما انتهى (هيرز) من بناء المجسمات والمباني المقلدة طلب من (جورج) أبواب ونوافذ خشبية ومشربيات لهذه المباني فذهب للحاخام الذي طمأنه: لاعليك ياجورج فالحل بسيط صديقنا (سولومون ليفي) سيتولى الأمر وسيقوم بشراء مجموعة من البيوت القديمة عبر بعض الوسطاء ونقوم بتفريغها من الثريات والمشربيات والأبواب والنوافذ الخشبية التي تحتاجها ثم بعد ذلك سنقوم ببيعها”. فراقت الفكرة لجورج وبالفعل بدأ (سولومون ليفي) بشراء مجموعة بيوت قديمة وصلت لخمسة عشر بيتا كان يشتريها بأضعاف سعرها جردها كلها من مشربياتها، كما اعتدى على مايقرب من خمسين بيتا تاريخيا قاهريا ونزع أبوابه ونوافذه، أما الطامة الكبرى والجريمة التي لاتغتفر فهي نزع هذه العصابة لنوافذ سبيل عبد الرحمن كتخدا الأصلية لوضعها في مباني المعرض المقلدة في غيبة تامة من الحكومة المصرية، لكن الشيء الذي يدعو للخجل أن (هيرز) عضو لجنة حفظ الآثار العربية ومن المفترض أنه مؤتمن على هذا الأثر يشترك في أكبر عملية سطو وتجريف للآثار العربية الإسلامية، كان (سولومون ليفي) هو المسئول الفعلي المنفذ لهذه العملية والأغرب أنه هو وحاخامه يدعيان أنهما مصريان! لم تتوقف سوآت الحاخام و(سولومون ليفي) عند هذا الحد بل طلب الحاخام من جورج حجز مساحة صغيرة في مخازن الباخرة التي ستبحر لبلاد العام سام لوضع صندوق خشبي به بعض الهدايا التذكارية من خان الخليلي لبعض الأصدقاء في الولايات المتحدة الأمريكية، فوافق جورج.

لاحظ جورج أن الحكومة المصرية لديها بعض التخوفات ترسخت بعد معرض باريس في عام 1889، وتريد بعض الضمانات بعدما نشرت صحف أوروبا قصصا وحكايات مرعبة عن المصريين الذين شاركوا في معرض باريس ولم يستطيعوا العودة إلى مصر لذلك أصدرت الحكومة المصرية قرارا بعدم السماح لأي مواطن مصري بالمشاركة في أي معارض خارجية إلا بإذن الحكومة المصرية، لكن الشرط الأصعب إيداع المواطن في الخزينة المصرية تكاليف نفقات تغطي عودته، لاتقل عن خمسين دولارا، فلم يكن أمام جورج إلا دفع تكاليف نفقات 250 فردا لأفراد رحلته ليحصل بعدها على الإذن بالسفر.

قد يهمك ايضاً:

الثلاثاء المقبل.. قصور الثقافة تحتفي بالمسيرة الإبداعية…

الاحتفاء بالشاعر عيد صالح في العودة إلى الجذور بدمياط..…

عكف جورج على دراسة سلبيات وإيجابيات مشاركة مصر في معرض باريس 1889 ولاحظ أن أهم عوامل جذب الفرنسيين والأجانب لجناح مصر في باريس هي فقرة الرقص الشرقي، لذلك قرر البحث عن مجموعة راقصات شرقيات لتكون هذه الفقرة هي إحدى العروض الأساسية في جناح شوارع القاهرة بشيكاغو، فتفتق ذهنه عن حيلة شيطانية ألا وهي نشر وطباعة إعلان كاذب ووضعه في مختلف صالات الرقص، نصه كالآتي: الراقصة الشهيرة فريدة مظهر، وعدد من الراقصات الأخريات، تقدمن للمشاركة في معرض شيكاغو، إلا أنه تم رفضهن جميعا نظرا لأنهن غير مناسبات لهذه العروض ولا يمتلكن الخبرة الكافية”. فسرت هذه الشائعة كالنار في الهشيم في أرجاء القاهرة، فتقدمت عدة راقصات للمسابقة بدافع إثبات التفوق على فريدة مظهر، امتعضت الراقصة فريدة مظهر من هذه الإشاعة السخيفة وكلما حاولت النفي يثبت العكس، حتى نصحها بعض المقربين منها بالتقدم للمسابقة ثم الانسحاب منها لحفظ ماء وجهها، وبين عشية وضحاها صارت فريدة مظهر أشهر من نار على علم وأصبحت نجمة نجوم الرقص الشرقي فدخلت المسابقة للحفاظ على هذه النجومية وقررت خوض مغامرة السفر إلى شيكاغو، وبدأت الراقصات يوقعن واحدة تلو الأخرى على عقود المشاركة في معرض شيكاغو ونجح (جورج بنجالو) في حيلته الجهنمية وكون فريقا من الراقصات الشرقيات على رأسهن فريدة مظهر وفاطمة الحوري، وفاطمة الحُصرية، وهانم، وأمينة إبراهيم، وسعيدة محمد، وصديقة، ونبوية، وفهيمة، وزكية، وماريتا، وحسنية، واليونانية روزا خريستو”.

وفي خضم انهماك (جورج بنجالو) في وضع اللمسات الأخيرة والتحضير للسفر وانشغاله بالبحث عن باخرة عملاقة لتبحر إلى العالم الجديد وإذا بشخص غريب الأطوار يدخل عليه هيئته توحي بأنه  رجل بربري شديد السواد قصير القامة لكنه يضع باروكة نسائية فوق رأسه، مُغرق وجهه بالمساحيق، مدجج بالجواهر والحلي والخلاخيل الذهبية والفضية يضع أقراطا من الماس في أذنه وأساور على شكل ثعبان مرصعة أيضا بالماس تطل منها جنيهات ذهبية، يرتدي حمالة صدر، وملابس نسائية مبهرجة ويغطي جسده (بملاءة لف) مصنوعة من (الكريشة الدمياطي) يلبس حذاءً عاليا، مخنث يتكلم كالنساء أثارت هيئة هذا الهجين اشمئزاز وامتعاض جورج فحادثه بلهجة حادة ماذا تريد أو ماذا تريدين؟

أنا إبراهيم الغربي ألم تسمع عني؟ إذن أنت رجل فلماذا ترتدي ملابس النساء؟

نعم سمعت عنك ماذا تريد؟

إبراهيم الغربي: بل أنت ياخواجة ماذا تريد مني؟ أهنت الشيخة حبشية التي تعمل معي وسامحتك والآن تتجرأ على خطف راقصاتي لكن كله كوم والراقصة (روزا خريستو) كوم تاني، اسمع ياخواجة، سأعقد معك اتفاقا ولكن قبل الاتفاق سأخصك بمزية لم أمنحها لأحد قبلك ستكون ضيفي مدى الحياة وكلما حللت بكرخانتي بشارع وابور المياه بمنطقة بولاق الدكرور لن تدفع مليما واحدا، هذه هديتي الأولى أما هديتي الثانية لك ياخواجة سأترك لك جميع هؤلاء الراقصات، لكن بشرط أن تترك لي الراقصة (روزا خريستو) (أظن بكده عداني العيب وقدمت السبت؟).

جورج: لا أعقد اتفاقات مع أمثالك وأنا لم أجبر إحداهن على الذهاب إلى شيكاغو هن من أتين إلي طواعية اذهب إليها واعقد معها هذا الاتفاق هيا اذهب من هنا وغادر المكان فورا قبل أن أسلمك للبوليس، (كده ياخواجة طب حانشوف وخد بالك أنت إللي بدأت والبادي أظلم).

وبعد عدة ساعات جاءت إليه الراقصة روزا خريستو مستنجدة وهي في حالة يرثى لها (الحقني إبراهيم الغربي عاوز يقتلني).

لا عليكِ اهدئي كوني مطمئنة أنتِ هنا بأمان، تعالي معي، سنذهب إلى قسم البوليس وفي طريقهما للقسم يلتقيان الشيخ عبد الهادي، على فين ياخواجة وإيه إللي حصل ومين دي كمان؟ تعالى معنا ياشيخ عبد الهادي وسأشرح لك كل شيء في الطريق، حكى جورج للشيخ عبد الهادي ماحدث، وإذا بالشيخ عبد الهادي يصيح في وجه جورج فهمني ياخواجة رقص إيه وغوازي إيه إللي حايسافروا معانا؟ هل سأذهب لنشر الإسلام أم سنرقص على واحدة ونص؟ بتخدعني ياخواجة؟ لم نتفق على ذلك ياخواجة فهذا إثم كبير لاأستطيع المشاركة فيه، لكني سأذهب معك للبوليس لإيقاف هذا الشيطان العربيد عند حده عله يرتدع، قامت روزا خريستو بتحرير محضر ضد المدعو إبراهيم الغربي، وتم القبض عليه ومن ثم مَثُل للتحقيق، وكالعادة يخرج منها كالشعرة من العجين، بعدما دفع الرشا للمأمور، مهددا ومتوعدا جورج والشيخ عبدالهادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، وأنه سيرد الصاع صاعين للخواجة وللشيخ.

التعليقات مغلقة.