قراءة نقدية بقلم – صالح هشام:
تعودنا القول ( للناس فيما يعشقون مذاهب ) ومذهبي فيما أعشق جماليات اللغة ، عندما أقرأ نصوص الكاتب رحو شرقي السردية ،إذ تشدني قوتها وروعتها وجمالها وسأبرر ذلك ،في هذه القراءة التي سأركز فيها على اللغة باعتبارها وعاء يكتسب منه النص وجوده، أيضا لأن اللغة هي البؤرة التي تنطلق منها كل أبعاد النص الأخرى !
لغة عنوان النص : هذا العنوان وخزة إبرة في ذهن القارئ ، يدفعه إلى السؤال والتساؤل، لأن الكاتب أوحى ولم يفصح عن مقاصده ، فقد وظف تركيبا ،يوحي بمعان لم يصرح بها، وترك للقارئ حرية تصور ما يوحي إليه هذا العنوان من مسكوت عنه ، نعرف دائما أن شبه الجملة الذي يوظف في تركيب مستقل ، يحتاج إلى ما يفيد معناه وغالبا ما يكون محذوفا نقدره حسب فهمنا، وبالتالي فتوظيف من هذا النوع يساهم بشكل أو بآخر في انفتاح النص على العديد من القراءات و التأويلات ، للبحت عما يسكت عنه الكاتب من خلال هذا التركيب كعنوان ، فيحلل تبعا لخلفية كل قارئ ، ووفق قدراته المعرفية وقدرته على إبداع إسقاطات تليق بمقامه ، والمعروف ابتذالا أن العنوان هو العتبة الأولى التي لا محيد عنها في اختراق وعبورمتاهات كل النصوص ، أيضا لأنه بمثابة مادة لاصقة تشد القراء إلى قراءة النص من بدايته إلى نهايته ٠
والاشتغال على اختيار العنوان يكون من الأهمية بمكان ، خصوصا وأنه يكون أشبه باللوحة الإشهارية للمادة قبل عرضها ، وهذا ما نستنتجه من خلال تمعننا في هذا العنوان الذي حتما سيصب في محتويات و مضامين النص ، الذي سيركز على التيه والضياع في عالم الليل خصوصا بالنسبة لمن ألفت أن تقتات من طوله ، وأظن أن الكاتب كان موفقا في اختيار هذا العنوان و من خلال هذا التركيب اليتيم الذي لا يعدو أن يكون سوى شبه جملة من جار ومجرور ، لكن متى كان شبه الجملة يفيد معنى مستقلا بذاته لو لم يرتكز على محذوف يفيد معنى و يتتمم سياق الجملة !
اللغة : الحقيقة أني أشعر بالضيق من أولئك الذين يوظفون لغة تنحى منحى المباشرة و السهولة المبتذلة بدعوى مراعاة مستويات القارئ المعرفية، تسهيلا للفهم ، و أعتقد -من وجهة نظري – أن توظيف لغة تواصلية يعتبر بمثابة حكم بالإعدام على انفتاح النص لأن هذه اللغة لا تقول إلا ما تقوله ولا تبوح إلا ببنيتها السطحية لأنها أصلا تفتقر إلى البنية العميقة، ولا تحيد عن أحادية المعنى الذي يخنق في القارئ الرغبة في التحليل والتأويل والتفكيك وتقصيه من المشاركة في هدم النص وإعادة بنائه وفق تصوراته الخاصة ، كما نجد ذلك في شتى الأجناس الأدبية الأخرى التي لا تعتمد على الخرق لقواعد اللغة المعيارية ، نحوا أو تركيبا ، لأنها لاتحتاج إلى هذا النوع من اللغة الانزياحية التي تساهم في خلق انفتاح في النص على معان لا حصر لها ، وهذا يخضع أساسا لنوع اللغة التي تؤسس العلاقات بين وحدات الجملة أو السياق بشكل عام إن على مستوى الجماليات أو على مستوى المعاني !
يقول الكاتب ( تنادي في ليل دون صبح ) فإسناد وحدات الجملة لبعضها البعض يكسبها جمالا تستمده السابقة من اللاحقة أو اللاحقة من السابقة ، فتخلق نوعا من الصور في ذهن القارئ، الذي يعرف مسبقا أنه لا ليل بدون صبح ، فيترك الكاتب مسافة بين القارئ والنص المقروء ،لتأويل وتفكيك جمله ،فيساعده على السباحة في بحرهذا النص من أجل الظفر بدرره وجواهره ، صورة وتعبيرا !
و لعل مواطن القوة والجمال في نص لأستاذ رحو (على الجمر ) يكمن في توفقه في توظيف هذه اللغة الإبداعية ، كأداة إنتاج أدبي ، إذ تنحى منحى بلاغة الغموض،و استغلاله بعض المفردات التي أرى أنها أصبحت غريبة عنا ، أو أصبحنا غرباء عنها ، و أذكر منها ( البلج / العوجي /الوجي / السمجي ) ولكنها في كل الأحوال تخدم السياق العام للنص ولا تخلق أية مشاكل للقارئ المجتهد الذي يعشق تفكيك النص إلى جزيئات ٠
كما تتميز أيضا لغته بروعة الانزياح ، ويظهر ذلك من خلال اشتغاله على جملة السرد التي لا تخلو من اقتصاد محبب في اللغة ،و التي طبعها أيضا بطابع لا يخلو من شعرية ، أو قل هي فعلا ذات طابع شعري تركيبا وتكثيفا وإيحاء وترميزا ونأخذ على سبيل التمثيل لا التفصيل (حركات بين النعاج / تتمنى يوما بالبلج ) إذ تشعر وأنت تقرأها أنها لا تخلو من إيقات موسيقية ، وقد ساعده في ذلك ممارسة لعبة جدلية الخفاء والتجلي بين البياض والسواد في تشكيل بصري جميل أو حسن توظيفه الفراغات التي لم توظف اعتباطيا ٠
فجملة من هذا النوع لابد وأن تتعدد فيها الطبقات وتتجاوز أحادية المعنى الذي يقتل النص والذي تفرضه اللغة المعيارية التواصلية المبتذلة ، فالمعاني – ولا أريد هنا أن أفرض تأويلاتي لها على القارئ – بقدر ما أبحث عن أسباب ومسببات ر وعة المعاني التي هي بالضرورة من روعة التركيب ونظام اللغة الموظفة ، هذه المعاني الرائعة التي يمكن استخلاصها من جمال نظم هذه الكلمات في الجملة ، باعتبارها تعتمد أساساعلى عمليات التركيب وترابط هذه المعاني في سياقات لغوية يختارها المبدع فتكون بصمة تميزه عن باقي المبدعين٠
فاللغة إن صح القول فضاء فوضوي لا يمكنه التشكل إلا بتدخل المتكلم أ و المبدع على حد سواء ، وأقر بنجاح الكاتب في طريقة اختياره مقولات لغوية ، انتقاها بدقة متناهية من بطون المعاجم والقواميس فأخرجها من وضعها الباهت إلى وضع أكثر بريقا وجمالا ، لأنه أخضعها بطبيعة الحال إلى تركيب جميل ( إسناد الحركة إلى السكون ) على سبيل الإضافة (زحام / الجماجم )، فكانت لمسة فنية جميلة من الكاتب ،و لا يمكن إلا أن نستسيغها وأن نستعذبها !
ولعل تركيب وحدات الجملة ، تحظى دوما بهذا الذوق والذائقة القرائية ، فنقول هذا قبيح وهذا حسن ، أو نقول أجاد فلان هنا وأخطأ هناك و ارتياحنا لجودة هذا النص ناتج عن حسن اختيارالكاتب لهذه المقولات وتركيبها في سياقات لغوية رائعة في مختلف الجمل التي تكون نسيجه العام ، و أعتقد أن هذا سبب الاختلاف بين هذا المبدع وذاك !
فأن يسند الأستاذ رحو وحدة لغوية إلى وحدة أخرى لا تجانسها أو لا علاقة بينهما ( زحام مسند إلى جماجم ) فيسند مسندا إلى غير المسند إليه : (الحركة إلى السكون ) فهو يجمع بين متناقضين في تركيب واحد ، لكن بقدرته الإبداعية يؤلف بين هذين المختلفين ليخلق صورة ، قد تروق القارئ و تخلق في نفسه الإدهاش والغرابة ، وكذلك الجمع بين المختلفات (في عالم الظلم والظلمة ) على سبيل الجناس ، فالتأليف بينها هو ديدن نجاح المبدع رحو شرقي في هذا النص الذي أعتبره كقارئ نصا ممميزا وإن كنت ركزت على بعض الأمثلة فقط من لغته ٠وما اللغة كما يقول عميد اللغويين دوسو سير (ليس في اللغة سوى الاختلافات ) ولكن هذه الاختلافات لا تخلو أبدا من إيجابيات ، في حالة حسن استغلالها !
فمن خلال تراكيب الجمل في النص بصفة عامة، يتضح أن هم المبدع لم يكن إيصال وتوصيل معان إلى القارئ على طبق من ذهب ، بقدر ما كان يهدف إلى دغدغة ذوقه وذائقته ودفعه إلى تفكيك تراكيب يبدو أنها متنافرة جدا لكنها في نهاية المطاف تصب في مجرى واحد هو استساغة القارئ لروعة اللغة قبل البحث عن المعاني ،فجودة المعنى حتما تكون دائما من جودة التركيب اللغوي، ويمكن أن نعود إلى قول القدماء : (المعاني مطروحة في الطريق ) أو نعود إلى قيدوم النقاد العرب الجرجاني في نظرية النظم والتي لا تختلف عن نظرية دو سوسير اللغوية ، أي أن اللغة تنبني على اختلاف وحدات النص ٠
وأعتقد شخصيا كقارئ أن المبدع رحو شرقي توفق في جمع أعناق هذه المختلفات التي تؤثت نسيجه الإبداعي ، فأجود الكلام كما يقول الجرجاني( شدة ائتلاف في شدة اختلاف ) !
هذه قراءة ركزت فيها على بعض النماذج اللغوية من حيث التركيب اللغوي ، ولم أعالج كل جماليات لغة النص ، لأن المقال لا يناسب المقام ،لأنها تحتاج إلى دراسات معمقة وافية ومستوفية لكل ما تعج به نصوص رحو شرقي الإبداعية من جماليات لغوية ،تتطلب وقفات نقدية وتأملية طويلة ، مزيدا من الإبداع والله الموفق !
—————————————————————-
عَلَى الجَمْرِ !…
كَعَادَتِهَا، تَنْتَظِرُ قُوْتَهَا فِي لَيْلٍ بَارِد بَيْنَ زُحام الجَمَاجِمِ…. حَرَكَاتٌ بَيْنَ النعاج…
تَتَمَنَّى يَوْمًا بِالبَلَجِ….
تَرْتَكِزُ عَلَى قِوَامٍ اُعْرجِي….
تَكَسُّرُ الزُّجَاجَة عَلَى أقداح العوجي….
لِتُعَوِّد إِلَى سَتَائِرهَا وَتَفْتَحُ النَّوَافِذَ….
غَيْر رَاضِيَةٍ ، مَخْنُوقَة مِنْ أَصْوَات والنَّظْرَاتُ القَاتِلَةُ…. تمَقِّتُ المحل ….
مُعَامَلَتهمْ بأصبعين فِي رَمْيَ أَوْرَاقِهِمْ المُتَعَرِّقَةِ ، بِنَكْهَةِ النَّهْبِ وَالكَلَب بالسمجي…..
فِي عَالَمِ الظُّلْمِ وَالظُّلْمَةُ بِصَوْتِهَا الوجي….
حِينهَا تَبِيتُ يَدَيْهَا مَفْتُوحَتَيْنِ تَتَرَجَّى طُهْرًا….
تَبْكِي بِدُمُوعٍ كَالبَلُّورِ، عَلَى جَسَدِهَا المَنْحُورُ بأِِحْداَق الضباع….
مِنْ رائحةٍ الحَنْظَل والاترج….
نَادِمَةٌ تَتَمَنَّى الفرَج….
تَنَادِي, تَنَاجِى فِي لَيْلٍ دُونَ صُبْح !؟….
عَلَى بَصِيصِ السَّتَائِرِ إِلَى مَمْلَكَةِ الغُفْرَانِ وَاّلسُرُجُ…..
فِي عُمْرِ الزُّهُورِ تَخْشَى الذُّبَّلَ….
فِي عُمْرِ الرَّبِيعِ تَخْشَى الشِّتَاءُ ….
صَيْفُهَا عَطَّش ، تَسْقِي النَّبِيذَ….
وَفِي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الحَانَاتِ وَ البَارَات….
دَخَلْتُ إِلَى ذَلِكَ المَحَلِّ الأَرْضِيّ مِنْ بِأب النَّجَدَاتِ….
شخوص في ملهى ، عفوا في منفى ليلي ….
بِحركاتِهم المُثْقَلة و أَصوات ملتوية ….
صاحب المحل وبصراخه ” إفسحوا الطريق ياكلاب …إفسحوا ….
إنه خائف من عفن الجثث ؟… ولإلقاء نظرتي إليه ، بَطْنُه المُنْتَفِخَةُ بِالتُّخَمِ يَحْجُبُهَا القَيْءُ ، مَنَاخِرُه المَفْتُوحَة وَحَاجِبُه الملجي….
حَاوَلَتْ انْقَاذَه …
سأٔلني مَرَافِقِي: مَا بِهِ?!… ياصديقي لَقَدْ نَحَرتُهُ العَسَلِيَّةُ, إذا مسها حجر مسته الأفراح !…
إٔنَّهَا تَفْعَلُ بِصَاحِبِهَا مَلَا يَفْعَلُ العَدُوَُ بِعَدَوِّهِ….
حِينهَا أبصرت الفَتَاة المُتْخَمَة بِالحَيَاء……
أدركت إٔيمانها وعيشها عَلَى الفُتَاةِ؟!…
لَهَا حَاجَة لِتقْتَات…..
دَنَوْتُ إِلَيْهَا بِهَمْسٍ كِي لَا تَنْزَعِج مِنْ الجَمَاجِمِ، وَكَانَتْ عَلَى عجْلٍ….
لَحِقْتُ بِهَا،مَارَسَتْ لُعْبَة التَّخَفِّي ، لأحفظ عُنْوَانَهَا المُتَخَفِّي بين أَزِقَّة المَسَاكِينِ والغلابة…
حَاوَلْتُ أَنْ اسْتَرق السمع مِنْ بَيْنِ ثقوب خَشَبِيَّة لنافَذتهَا القَدِيمَة ، لَمْ تَكُنّ تَمْلِكُ النُّورَ إِلَا شَمْعَة على سَجَّاد صوتهَا كالثبج يَصْحَبُهُ بُكَاءُ صَغِيرهَا…
تدُعو الله في خَلوتها وَوِحدتها بالقدرِ….
( اَللَّهُمَّ أغفر لَهُ وأرحمه ، إنه أَبوا وَلَدَيْ اليَتِيم) !؟ِ….
وأكملت دُعَاءَها (رَبَّيْ رَحْمَتُك وَسَّعَتْ كُّل شِيء وأنا شيء فٔأسعني بِرَحْمَتِكَ)….
حينها عدت من حيث أتيت ، وكتفي مثقلة ، لتلك النقية الطاهرة في العفن !؟…
وتذكرت قول أبي الذي ورثه عن جدي ( المعادن النفيسة لا تصدأ )
إنها سَاقِيَةُ النَّبِيذ ؟!…
رحو شرقي !