جائحة كورونا.. وجدلية دور الدولة في الاقتصاد (1-2)
د. إســلام جـــمال الــدين شـــوقي
خــبير اقــتصادي
عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي
شهدت العقود الماضية جدلًا فكريًا كبيرًا بين مؤيدي ومعارضي تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، لعل أبرزها مراحل تطور النظام الرأسمالي من حيث تصاعد دور الدولة وتحوله الذي كان وليد أزمات النظام الرأسمالي؛ وهو ما اتضح جليًا في ظل الأفكار الكينزية أثناء أزمة الكساد الاقتصادي الكبير (1929 – 1933)، ثم حدث-مع الفكر النيوكلاسيكي- أزمة الركود التضخمي في منتصف السبعينيات، ثم الأزمة المالية العالمية في 2008.
وجاءت مؤخرًا أزمة كورونا؛ لتغير كل المفاهيم؛ فبالرغم من أنها أزمة صحية لكنها أجبرت العالم على إغلاق الأنشطة الاقتصادية؛ ما ترتب عليه مشكلات في جانبي العرض والطلب، مع توقعات بأنه بعد احتواء الفيروس، سوف تسجل أغلب اقتصادات العالم ازدهارًا كبيرًا.
تطور دور الدولة
في الفكر الكلاسيكي، الذي يُعدُ آدم سميث أحد رواده؛ حيث أطلق نظرية “اليد الخفية” في عام 1776 صدمت الجميع، تفيد قيام آلية السوق بعملها دون أن يلاحظها الناس؛ حيث تجري صفقات وعمليات تجارية كبيرة لإيصال سلع محددة للمستهلك، تتم جميعها من خلال آلية السوق التي يحركها المتعاملون لتحقيق مصالحهم الفردية في اقتصاد السوق الحر؛ كون السوق أفضل أداة لتحقيق النمو وتحسين الرفاهية، إلا أنه يتعين على الدولة القيام بدور تنظيمي بسن القوانين، ووضع التشريعات، وحفظ الأمن والنظام.
وفي الفكر الحديث، تشكلت ملامح الدور الاقتصادي للدولة بعد تفشي أزمة الكساد العالمي الكبير عام 1929، بسبب تأثير الفكر الاقتصادي الكينزي الذي تبنى مفهوم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي؛ إذ يمكــن القــول إن جائحة كورونا تشــبه أزمــة “الكســاد الكبيــر” في بعــض الجوانــب، لا ســيما فيــما يتعلــق بالتغــيرات المتوقعــة في النظــام الاقتصــادي العالمــي.
الكســاد الكبــير
لقد ســاقت أزمــة “الكســاد الكبــير”، العــالم إلى تغييــر طريقــة تعامل الدول مع اقتصاداتها؛ بإعادة النظــر في الــدور الاقتصــادي للدولــة، فكانــ انســحابها مــن الأنشــطة الاقتصاديــة قبل “الكســاد الكبــير”، ســببًا في وقوع أزمــة “الكســاد”، ثم جاءت عمليــة التعــافي منهــا؛ عبر عــودة الدولــة بقــوة إلى النشــاط الاقتصــادي؛ وذلك بصياغــته في الولايــات المتحــدة؛ في إطــار برامــج “الصفقة الجديدة” التي تضمنت خططًا لزيادة الإنفاق العام في البنية التحتية؛ من طرق وجسور وإنشاء شركات تأمين ضد البطالة، وخفض معدلات الضريبة على ذوي الدخول المحدودة، وزيادتها على الأثرياء، وزيادة المعاشات التقاعدية للعاملين في القطاع العام.
اليــد الخفيــة
وقــد وضــع ذلــك في حينــه، نهايــة العمــل بآليــات “اليــد الخفيــة” و”دعــه يعمــل دعــه يمــر”، وبرهــن كذلــك عــلى ضرورة ممارسة الدولــة دورًا أكثــر فاعليــة في النشــاط الاقتصــادي؛ لــتكــون أزمــة “الكســاد الكبيــر” سببًا في إحداث تغــيرات جوهريــة في هيكل الاقتصــادي العالمــي.
وقد ظلت أفكار كينز بخصوص دور الدولة في الاقتصاد، تشكل الأساس النظري للسياسات الاقتصادية وصولًا إلى مطلع السبعينيات من القرن العشرين، إلى أن جاء اقتصاديون ينتمون إلى المدرسة الكلاسيكية الجديدة الذين تبنوا الدعوة لامتداد دور الدولة ليشمل البعد الاجتماعي، بما عُرف بدولة ” الرفاه الاجتماعي “، بدعوى توزيع أكثر عدالة للدخل من ناحية، وتصويب فشل آليات السوق من ناحية أخرى.
في أواخر السبعينيات من القرن الماضي تم التراجع عن مفهوم دولة ” الرفاه الاجتماعي ” وظهور فلسفة الليبرالية الاقتصادية الجديدة وبروز ظاهرة العولمة؛ حيث شهد النظام الرأسمالي أزمات اقتصادية ومالية؛ بسبب آليات السوق، وحدوث تقلبات كثيرة في النشاط الاقتصادي ما بين انتعاش وانكماش، ثم ركود ثم كساد.
الأزمة المالية العالمية
وظهرت هذه التقلبات بشكل أكثر حدة؛ حتى جاءت الأزمة المالية العالمية في 2008 لتقدم اختبارًا جديدًا لمبادئ قام عليها نظام السوق، وتحديدًا لتلك الآليات المستندة إلى نظرية “اليد الخفية”، وكان ذلك أكبر دليل على أهمية عودة دور الدولة مرة أخرى لتمارس دورًا أكثر فاعلية في النشاط الاقتصادي.
وقد اتضح جليًا من خلال الأزمة المالية العالمية في 2008، أن القطاع الخاص الذي يعمل في ظل حرية الأسواق- وهدفه الوحيد هو تعظيم الأرباح- سوف يكون قادرًاعلى إيجاد أزمات مالية تؤثر سلبًا على النشاط الاقتصادي؛ ما يستوجب قيام الدولة بسن قوانين وتشريعات تحد من نشاط القطاع الخاص، الذي تنجم عنه آثار سلبية على مجمل النشاط الاقتصادي.
من هذا المنطلق، وضع البنك الدولي مجموعة مؤشرات؛ لقياس مدى فاعلية الدولة استنادًا إلى مفهوم الحوكمة الرشيدة؛ حيث ترتكز فاعلية الدولة في أداء دورها الاقتصادي على ستة أبعاد: فاعلية إدارة الحكم، ونوعية التنظيم والإجراءات المطبقة، وسيادة القانون، والتحكم في الفساد، والتمثيل السياسي والمساءلة، والاستقرار السياسي وغياب العنف والإرهاب، ومدى استقرار الحكومة.
يتبع الجزء الثاني..
التعليقات مغلقة.