مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

ثقافة التفاهة على مواقع التواصل الاجتماعي بين الوعي والانقياد! (نظرة تحليلية وطوق نجاة!)

بقلم – د. محمود فوزي أحمد بدوي:

أستاذ أصول التربية ووكيل كلية التربية – جامعة المنوفية

تمهيد لابد منه:

أعتقد أنك لا تحتاج إلى التأكيد على أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت مكونا وجوديا لأي شخص يعيش ويدرك أنه في العصر الرقمي، وكما أنك لا تحتاج كذلك أن نقرر أن تجاوبنا على هذه المواقع صار سلوكا آنيا ولا اراديا يصف نهمنا المبالغ فيه في تحري ما يتم نشره سواء أكان شخصيا أو من خلال مجموعات التواصل أو المواقع المختلفة التي تقدم معارف أو معلومات أو فيديوهات أو رسائل أو أخبار أو حتى الدردشات التي تتم بصورة معلنة أو غير معلنة!

ولم يعد خافيا على أحد أن التفاهة أصبحت ظاهرة لا يمكن انكارها في عصر سيطرة السوشيال ميديا على المشهد التواصلي للمجتمع وأفراده، وأن ما نشهده اليوم من أشكال التواصل، يمثل حالة من السقوط المريع والتراجع في القيم والمكتسبات الأخلاقية والفلسفية، وهو ما أصاب كل شيء راقي ومؤثر في حياتنا من ابداعات انسانية وفكرية وفلسفية وقانونية وأخلاقية وفنية في مقتل، واكتظ المشهد العام بهبوط واضح للقيم الإنسانية النبيلة والخلاقة، لتحل محلها كل رداءة وسقوط في كل شيء، بل لم يعد أحد يفرق بين مصلحته ونقيضها في ظل شيوع حالة السطحية والتفاهة الحاكمة للأفكار والأذواق والأنساق والأنماط المعاصرة للتفكير والقرارات وتوابعها!

وباستقراء واقع السوشيال ميديا وقنوات التواصل الاجتماعية والاعلامية والالكترونية، نلحظ أن ما يحدث حاليا تعدى الحدود الطبيعية إلى أن تحول الأمر الى عملية سريعة جدا لصناعة التفاهة والتافهين والدفع بهم للساحة كنجوم سوبر ستار بدلا من العلماء والأدباء والشعراء والمثقفين الذين كانوا يوما ما القدوة والمثل الأعلى لكل الأجيال في حياتهم.

ويشير بعض المحللين إلى أن التفاهة أصبحت منتجا مرغوبا وثقافة مبررة ووضعا راهنا في هذا العصر، عصر سطوة الإعلام الرقمي! وكأننا أصبحنا نعيش توجها يكاد يكون عالميا نحو التفاهة في كل شيء تقريبا!، فلم يعد العلم والأخلاق والسياسة والإعلام والثقافة والتاريخ والإدارة وغيرها من المقومات الانسانية المهمة لبناء المجتمع والحضارة ولبناء أي شكل من أشكال الوعي الفردي أو الجماعي، له مكانته التي اعتدنا عليها في صناعة الانسان، كما يبدو أيضاَ أن الأقزام التافهين باتوا يظهرون بمظهر العمالقة وصناع الحياة التي يتوهمها البعض بل ويعتقدون أنها طوق النجاة لهم في عالم مرير ومجتمع لا يقدر فيهم ما يرغبون أو يحقق لهم ما يطمحون فيه!

فبنتشار الأجهزة الذكية بين عموم الناس وخاصة الشباب، جعلهم يقتدون بما يشاهدونه ويسمعونه على ألسنة (البلوجر والفاشونستا والتيك توك، وفيسبوك، وإنستجرام، وتويتر) ، ومع غياب الرقابة الأسرية من الآباء توجه هؤلاء الشباب وغيرهم إلى أخذ قدوتهم من هؤلاء الأشخاص الذين لا ينتمون إلى القدوة بأي صلة فهم يقدمون المحتويات التافهة وغير المجدية ، ولكن السر يكمن خلف (التريند) والربح المادى من الفيديوهات المقدمة ومدة مشاهدتها، وبالتالي يصبح المتلقون والذين أغلبهم من الشباب والأطفال تائها وتافها بلا قدوة حقيقية يتمثلها أو يقتدي بها .

الظاهرة ومداها التأثيري:

ولعل انتشار ظاهرة التوجه نحو (البروز) أو الشهرة الاجتماعية لا سيما في دول الغرب مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكثير من الدول العربية على مواقع التواصل الاجتماعي هو ما دفع البعض لإتيان سلوكيات سطحية وتافهة وغير مبررة للوصول الى هذا البروز أو هذه الشهرة ، فإذا رغب الفرد أو كان من هواة الشهرة وحب الظهور والسيطرة على المشهد فما عليه إلا أن يفتح حسابا في إحدى مواقع التواصل الاجتماعي الشائعة مثل فيس بوك أو غيره، ثم يكدسه بفيديوهات مبتذلة وصور ومقاطع تافهة مليئة بالاستهبال والاستخفاف والاسفاف والضحك الهستيري والاستهزاء بالآخرين، وإطلاق الأصوات الغريبة وإطالة اللسان بالكلام الذي لا معنى له، والخروج عن الذوق العام ، وبلمح البرق سنجد آلاف المتابعين وقد تواجدوا في حسابه ينعتونه بالشيخ والقدوة والأسد وعقيد القوم ووارث مسيرة العشيرة في الولاء والانتماء وصاحب الوعي والنظرة الصائبة…..الخ. وللأسف فالغالبية العظمى منهم من الأطفال والشباب الصغار إضافة لضعاف العقول من الكبار ومن ترضي أذواقهم هذه التفاهات المطروحة من قبل مشاهير ونجوم الغفلة الذين لا يجيدون غير إطالة اللسان!

ولقد تنبه العالم منذ فترة ليست بالقليلة إلى ظاهرة (التفاهة) عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وانتشرت مؤخرا وفقا لذلك في عدة دول مثل أوروبا وأمريكا وكندا واستراليا لوحات تحذيرية مكتوب فيها «stop making stupid people famous» ومعناها توقفوا عن جعل الناس التافهين مشهورين، موجهين هذا التحذير للناس كافة ولمؤسسات المجتمع الإعلامية والاجتماعية على وجه أخص. وتأتي هذه الاجراءات الواضحة بعد أدركت هذه الدول أن القيمة الأساسية لنجاح الإنسان أصبحت لا تقاس بمدى كفاءته وحكمته وثقافته وجماهيريته، بل في أحيان كثيرة بطول لسانه وفي عدد متابعيه على وسائل التواصل الاجتماعي الذين يهتفون له باسم (التفاهة والتتفيه) ، وتمكنه من الإسفاف والابتذال والهشاشة والسطحية التي ينشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي! وتمكنه من أن يلعب هذه اللعبة وينتهز الفرصة التي قامت وسائل الإعلام الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي بتوفيرها لهؤلاء التافهين حتى تمكنوا من الظهور والانتشار والخروج من جحورهم بعدما تطبعوا تدريجيا مع هذا العبث، حقاَ إن وسائل التواصل الاجتماعي دفعت بهؤلاء النكرات والمجاهيل والمغمورين الذين لم يكونوا شيئا مذكوراً دفعت بهم إلى مدارج الشهرة ومصاعد النجومية، نتيجة قيامهم بأعمال “عبثية” وأشياء “تافهة” .

ومن جانبها أوضحت هيئة (اليونيسيف) أن الاطلاع السلبى لما يبث أو يتم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، أي مجرد الاطلاع على ما يكتبه أو يبثه الآخرون، من برامج أو أحاديث أو بوستات أو تعليقات أو مداخلات أو أغاني مبتذلة أو فيديوهات تمثيلية هابطة يمكن أن يؤدى إلى نتائج غير صحية على سواء الفرد النفسي واستقامته، وأن ذلك يمكن أن يؤثر على درجة وعيه وقابليته للاندماج المجتمعي الايجابي، وفي الحرص على الالتزام بالقيم، وتقدير المجتمع ورموزه والمحافظة على وقاره وقدرته على التميز والتقدم ..

كما أن ذلك يؤثر على قوة شخصية الفرد فيضعفها ، ويصبح الفرد سطحيا وغير قادر على اتخاذ القرار ، ويتسم سلوكه بالانحراف والبعد عن الإطار الجمعي للمجتمع والذي يؤكد على قيم المستقبل وتحقيق الذات الفردية الرائدة والمبدعة في السياق العام ، كما أن ذلك يمكن أن يؤثر على الحالة المعنوية للأفراد فيصيبهم بالإحباط والاكتئاب والبعد عن التفاعل الجماعي ، وقد يؤدي ذلك الى ازدراء الكبار والمجتمع ، وضعف التواصل داخل السياق الأسري ، وبالتالي ضياع معالم الشخصية ووصول الفرد الى حالة من الشتات وعدم القدرة على تقرير المصير أو تحقيق الأهداف بفعالية أو الوصول للتميز ، وهو ما يضعف ويقوض البنيان المجتمعي بأكمله !

ويشير بعض المثقفين ورجال التربية ومفكريها أنه مع الأسف ومع زيادة لهث الأفراد أو الجماعات ، وراء الفضائح والفيديوهات غير الهادفة التي لا تعدو أن تكون ترفيهية لكن بشكل مبالغ فيه؛ فإن ذلك هو ما يمكن المغمورون أو التافهون لأن يصيروا نجوما من لا شيء ، والمتابعة والنشر والتداول لهذه الأعمال هو ما يزكي تواجدها وانتشارها وتأثيرها ، وقد يرجعون ذلك لأسباب تبدو منطقية تماما ، فالعقول لم تعد تتماشى كثيرا مع الفكر والقراءة لكنها تجد ضالتها في إشباع حاجاتها من خلال الإقبال على الأعمال التي توصف بالتافهة مثل متابعة أشخاص اكتسبوا شهرة من خلال فعل جنوني أو من خلال فضيحة اقترفوها أو حتى عمل غبي أوصلهم إلى قائمة الأعلى مشاهدة على منصة اليوتيوب وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي !

أسباب الظاهرة:

وترجع أسباب تزايد ظاهرة التفاهة عبر مواقع التواصل الاجتماعي وفق ما يقره بعض المفكرين والمحللين والمتابعين ، الى عوامل ذاتية تتعلق بالفرد نفسه ، ومنها ضعف شخصيته وتكوينه الأخلاقي والمعرفي ، بالإضافة الى أوقات الفراغ المبالغ فيها ، والبحث عن الشهرة والزيوع ولو بأتفه الأشياء ، وكذلك في الترصد لما يحقق الاستقرار داخل السياق الجماعي ، وكذلك في تدني الذوق الفردي ، والبحث عن المادة بأية وسيلة ، والرغبة في تحقيق ثراء ولو على حساب القيم والمجتمع ، وأيضا العزوف عن الدراسة وتدني المستوى العلمي والشعور بالنقص فيعمد الى اشعار الآخرين به ، ولو بدا مهرجا أو سطحيا وتافها ، أضف أن فقدان الدافع والطموح المجتمعي المعتمد على الإرادة وبذل الجهد ، هو ما يؤدي بالفرد الى البحث عن أسهل الطرق لتحقيق شهرة أو مجد وهمي مزيف ، يمنحه الشعور بسعادة حمقاء …الخ . وقد يكون الفرد مجنونا أو يعاني فعلا من مرض نفسي أو عقلي أو اضطراب في شخصيته، فتبدو سلوكياته غير سوية أو تتسق مع قيم ومعايير السلوك الكريم داخل المجتمع.

قد يهمك ايضاً:

وهناك عوامل مجتمعية يمكن أن تؤدي الى ظاهرة التفاهة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومنها تقدير المجتمع للعناصر التافهة لمجرد شهرتها وثرائها المبالغ فيه، والانسياق الأعمى لإجراء أحاديث معهم عبر وسائل الاعلام المختلفة والقنوات الفضائية، وكذلك في ابرازهم على أنهم رموز الضحك والخروج عن المألوف، والذهاب لمتابعتهم عبر مواقعهم وحساباتهم الشخصية، وفي التصوير مع الأبناء أو غيرهم في مواقف جماعية تصف مقدار التوحد مع التافهين أو تقليدهم.

وهناك عوامل أخرى قد ترجع الى الاستهداف، فاستهداف المجتمع وأفراده من بعض الجماعات التي خرجت عن السياق المجتمعي سواء من داخل الوطن أو خارجه هو ما يرسخ لثقافة التفاهة، حتى يضرب المجتمع في مقتل وفي صحته الوجودية والتطلع لمستقبل يتيح له التقدم والازدهار، ويحدث ذلك بكتائب ومواقع الكترونية مغرضة، ودفع مادي مبالغ فيه لنسب المشاهدات التافهة والخارجة عن قيم وعادات وتقاليد المجتمع وسياجه المستقيم …وقد تعتزم حكومات معينة تغذية المواد التافهة لكي يزداد “الاستغفال والتسطيح” لدى أغلب مكونات شعوبها.

فهي حرب معلنة ضد كل ما هو مفيد وهادف في مواقع التواصل الاجتماعي فترى النتيجة أن شبانا من دولة عربية سألهم أحد المحققين الصحفيين عن لاعبي كرة القدم وعن نجوم التفاهة فأجابوا باستفاضة حتى مل المحقق وبعدها سألهم عن الخلفاء الراشدين فلم يعرفوا فيهم واحدا!!!

أساليب المواجهة:

ولعل أساليب مواجهة ظاهرة استشراء ثقافة التفاهة، تبدأ من الأسرة والإرشاد الأسري، لأن الأسرة التي تستطيع تربية أبنائها وتوجيه سلوكهم من خلال اكسابهم القيم الايجابية، هي من تحفظهم من الوقوع في براثن الاستهداف والسيطرة الحمقاء على السلوك.

وهناك جدوى كبيرة في حملات وبرامج التربية الوقائية التي ينبغي أن تقدم من خلال المدارس والجامعات ووسائل الاعلام والمؤسسات الدينية برموزها، حتى يتم تمكين النشء والشباب من مواجهة كل ما هو سلبي ولا يتسق مع الذوق العام، ولا يقبله دين أو عرف أو قيم، والتمييز بين السلوك الذي يخلق الرجال، وذلك الذي يخلق التافهين والسطحيين والمغرضين.

وكذلك في برامج الارشاد والتوجيه الشبابي التي يمكن أن تتم من وزارات الشباب والتضامن والخدمة الاجتماعية، التي تخلق فرصا حقيقية لعمل الشباب للحصول على مقابل مادي يصرفه عن اضاعة وقته واستثماره فيما يفيد، وكذلك في برامج الاعلام والصحف التي ينبغي أن تركز على القيم والتخلي الكبير عن التواصل الأحمق والعبثي على مواقع التواصل الاجتماعي، واستبدال ذلك بالقيم والنشر الايجابي الموجه والخلاق لشخصيات قيادية للمجتمع وصانعة لمستقبله.

وكذلك في فتح باب الحوار مع الشباب والتعرف على موجهات سلوكهم وما يريدون تحقيقه، وفي تذليل العقبات التي يمكن أن تواجههم في حياتهم، ومساعدتهم على تحقيق آملهم وطموحاتهم في دفع ووقاية مجتمعية كريمة.

ويجب أن تتحمل الحكومات مسؤوليتها عن تردي الذوق العام سواء في الفن أو عبر قنوات التواصل الاجتماعي، فتجرم الخروج على قيم وعادات وتقاليد المجتمع، وتحاسب من يفعل ذلك، وكذلك في معاقبة من يسئ للمجتمع أو يتهكم على رموزه ، وفي فتح أبواب العمل لكل فئات الشباب ودعمهم الدعم الكامل، وكذلك في وضع خطة للإعلام الهادف عبر القنوات الفضائية ، وسن القوانين الرادعة لمن يخالف الضوابط التي يتم وضعها من قبل الدولة ومؤسساتها الدينية والتربوية والتعليمية …

وأخيرا يتبقى دور الفرد ذاته ونحن كمستخدمين للمواقع الاجتماعية علينا تجاهل هؤلاء لكيلا يزداد حجمهم؛ فخطورتهم أصبحت في أنهم أصبحوا قدوة للأجيال المقبلة؛ وكانت أكبر حملة مواجهة للقضاء على الظاهرة في الغرب بإطلاق حملة ” لا تجعلوا من الحمقى مشاهير” لكن لا يمكن أن نحارب ظاهرة تقوم على الجهل دون محاربة الجهل نفسه في بلداننا الإسلامية العربية.

فالإنسان الذي يفكر بوعي عليه ألا يضيع وقته وفكره في متابعة فضائح وسخافات وألا يكون مساهما في تدني المستوى الثقافي فلا ينبغي أن نجعل من الحمقى مشاهير وقدوات فلا يشرف أبناؤنا أن يكون شخص مائع هو قدوتهم في الحياة وأن تبنى شخصياتهم على فعل سخيف دفع صاحبه ليكون قدوة لأطفالنا وشبابنا عوضا أن يكون قدوتهم الراقية للسلوك الراقي الانساني الكريم ، سيد الخلق آجمعين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، القدوة العظيمة من عطية ربنا الرحمن العليم.

كلمة أخيرة:

هي دعوة يجب أن يعيها الكل، وهي وجوب محاربة التفاهة في كل صورها وعدم إعطاء أصحابها أدنى أهمية لأنهم خطر على الأجيال الجديدة، لنقضي على الإسفاف والتتفيه كسلوك أصبح رائجا، لنحارب التافهين بالموضوعات ذات الأهمية الأخلاقية والعلمية والنفسية حتى يخرجوا من عمق مياههم الراكدة المليئة بالفيروسات والجراثيم الفكرية التي يتأثر بها الشباب والناشئة أكثر من غيرهم.

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل ،،،،،

أ.د. محمود فوزي أحمد بدوي

أستاذ أصول التربية ووكيل كلية التربية – جامعة المنوفية