تدبر القرآن الكريم.. كيفيته وقواعده
تدبر القرآن الكريم كيفيته وقواعده
بقلم/ د. أسامة عبد الكريم العثمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، “إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين” مسلم عن عمر رضي الله عنه.
لا يشك شاك ولا يتنازع اثنان أن رفعة السلف الصالح كانت مصداقا للشق الأول من هذا الحديث وبسب التصاقهم بالقرآن الكريم فهما وتطبيقا وحسن تدبر رفعهم الله سبحانه.
ولا يشك شاك ولا يتنازع اثنان أن سبب الذلة التي نعانيها اليوم هو مصداق للشق الثاني للحديث حيث ابتعدنا عن القرآن الكريم فهما وتطبيقا وتدبرا فأذلنا الله سبحانه.
لذلك كان لزاما علينا إن كنا نريد لأمتنا أن تستعيد مجدها وشهودها الحضاري أن نعيد تنظيم علاقتنا مع القرآن الكريم وفق المنهج الذي ارتضاه الله لنا وهذا المنهج يكمن في قوله تعالى “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها”.
ويكمن أيضا في علاقة الرسول الكريم مع القرآن فقد كان عليه السلام قرآنا يمشي على الأرض والصحابة رضوان الله عليهم كانوا لا يتعلمون الآية حتى ينتهوا من الآية التي سبقتها فهما وتدبرا فانعكس ذلك على سلوكهم وحياتهم فلذلك رفعهم الله وسار التابعون على ذلك فارتقوا وارتفعوا وجعلهم الله سادة للأمم بعد أن كانوا رعاة للغنم ثم خلف من بعدهم خلف وجاءت أقوام جعلت العلاقة بينها وبين القرآن على غير الذي كانت عليه فأوكلوا للمسلم حفظ القرآن الكريم وانتشرت مسابقات الحفظ ومباريات الذاكرة واختلت المفاهيم فصارت المقدمة الاجتماعية للحافظ وإن كان لا يعلم من القرآن إلا رسمه ونطقه وليس هذا تقليلا من شأن الحفظ لكن يجب ألا يكون هو الهدف بحد ذاته وتـنحت فكرة التدبر للقرآن جانبا لأسباب مختلفة وتنحى بعدها الاهتمام بالدين شيئا فشيئا، فحتى نعيد علاقتنا مع القرآن الكريم فلا بد من التدبر والتدبر هو المفتاح لأنه يعني الاهتمام والمسلم اليوم لا ينقصه شيء مثل ما ينقصه الاهتمام بدينه وقرآنه.
* التدبر في اللغة:
مصدر) تدبر (، وأصلها يدل على آخر الشيء وخلفه، ودبر كل شيء عقبه
ومؤخره، ومن ذلك قول الله: (وأدبر السجود) أي: أواخر الصلوات.
التدبر في المعنى الشرعي:
تنوعت تعريفات أهل العلم
قال الزمخشري رحمه الله: «تأمل معاني القرآن وتبصر ما فيه”.
وقال القرطبي رحمه الله: «هو التفكر فيه وفي معانيه”.
وقال ابن القيم رحمه الله: «هو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر
على تدبره وتعقله”.
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: «هو التأمل في معانيه وتحديث الفكر فيه،
وفي مبادئه وعواقبه ولوازم ذلك”.
وقال الشيخ خالد السبت حفظه الله: «النظر إلى ما وراء الألفاظ من المعاني
والعبر والمقاصد، الذي يثمر العلوم النافعة والأعمال الزاكية”.
وليس بين هذه التعريفات اختلاف كبير.
فلا بد للتدبر من ركنين أساسيين باجتماعهما يتميز التدبر عن غيره، وهما:
(1) الركن النظري:
وهو يمثل الوقوف مع الآيات والتأمل فيها، ويدخل في الركن: التفسير والاستنباط والتفكر والتأمل.
(۲) الركن العملية:
وهو يمثل التفاعل مع الآيات، وقصد الانتفاع والامتثال، ويدخل في هذا الركن: الاعتبار والاتعاظ والتذكر
* الفرق بين التفسير والتدبر:
التفسير هو: الكشف عن معاني القرآن، بينما التدبر هو النظر بعد ذلك في
معاني الآيات والتفكر فيها، فمثلا:
قوله تعالى: (قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هتين على أن تأجرنى ثمنى حجج فإن أتممت عشرا فيمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدنى إن شاء الله من الصالحين).
فتفسيرها: أن صاحب مدين يقول لموسى عليه السلام: إني أريد أن أزوجك إحدى بناتي مقابل أن تكون أجيرا عندي ثماني سنوات، فإن أتممت عشر سنوات فهو أفضل، ولا أريد أن أشق عليك في العمل، ستجدني صالحا إن شاء الله.
* وأما تدبرها: ففي الآية بعض الفوائد، منها:
۱ ) فيها حسن استغلال الفرصة كما فعل صاحب مدين مع موسى عليه السلام، حيث استغل فرصة كون الرجل أمينا.
۲) عدم جواز الجمع بين الأختين، وهذا من شرع من قبلنا جاء في شرعنا ما يؤيده.
۳) جواز كون المهر منفعة.
4)يدل على وجود الحج في شرع من قبلنا.
5)عدم المشقة على العمال. وغير ذلك من الفوائد التي تستخرج من الآية نتيجة لتدبرها والنظر فيها.
الأسباب المعينة على تدبر القرآن:
- حضور القلب:
والمراد: أن يكون يقظ القلب منتبه غير ساه ولا غافل، وبذلك يستجمع قلبه الإدراك الآية وفقهها والنظر فيها والتأمل في معانيها وعرضها على حاله وسلوكه.
وقد استشهد ابن القيم اله على ذلك بقول تعالى): « أو ألقى السمع وهو شهيد (فقال: « فتأمل ما تحت هذه الألفاظ من كنوز العلم وكيف تفتح مراعاتها للعبد أبواب العلم والهدى وكيف ينغلق باب العلم عنه من إهمالها وعدم مراعاتها، فإنه سبحانه أمر عباده أن يتدبروا آياته المتلوة المسموعة والمرئية المشهودة بما تكون تذكرة لمن كان له قلب فإن من عدم القلب الواعي عن الله لم ينفع بكل آية تمر عليه ولو مرت به كل آية، ولكن صاحب القلب لا ينتفع بقلبه إلا بأمرين أحدهما أن يحضره ويشهده لما يلقى إليه، فإن كان غائبا عنه مسافرا في الأماني والشهوات والخيالات لا ينتفع به فإذا أحضره أشهده لم ينتفع إلا بأن يلقي معه ويصغي بكليته الى ما يوعظ به ويرشد اليه.
- فهم معاني الآيات:
تدبر القرآن بدون فهم معانيه لا يمكن، فالتدبر فرع عن معرفة المعنى وفهمه كما قال ابن جرير الطبري رحمه الله: «لأنه محال أن يقال لمن لا يفهم ما يقال له ولا يعقل تأويله: اعتبر بما لا فهم لك به، ولا معرفة من القيل والبياني والكلام إلا على معنى الأمر بأن يفهمه ويفقهه، ثم يتدبره ويعتبر به، فما قبل ذلك، فمستحيل أمره بتدبره، وهو بمعناه جاهل، كما محال أن يقال لبعض أصناف الأمم الذين لا يعقلون كلام العرب لا يفهمونه).
وبناء على هذا فالتدبر يختلف باختلاف أفهام الناس حول الآية، فمن عرف أدنى المعنى يختلف عمن تعمق بعلوم الآلة وأدرك أسرار اللفظ القرآني، وبالجملة فالمراد تقرير أن التدبر فرع عن فهم المعنى ولا يمكن بدونه.
- سلامة طريقة التفكير:
التدبر يقوم على التأمل والتفكير في الآيات، فكلما كان التفكير سليما صحيحا قائما على فهم للمعنى كان التدبر سليما، فمن يجعل القرآن لا يتناسب مع الزمن المعاصر أو أنه خاص بفترة ماضية، وأصحاب الأهواء كالقدرية والخوارج والمرجئة والمعتزلة والرافضة والمناهج المنحرفة تكون نتائج تدبرهم خاطئة إذ أنها تقوم على طريقة خاطئة في التفكير، وكثيرا ما يلجأ أصحاب الأهواء إلى الاستدلال ببعض الآيات دون بعض أو تأويل كثير من الآيات التي لا توافق أهواءهم.
- تثوير القرآن:
والمراد بذلك: إثارة الأسئلة التي تعين على فهم القرآن وتدبره، ثم محاولة التفكير في الإجابة عنها، وعرضها على كلام أهل العلم أو سؤالهم عنها ليزداد الإنسان بصيرة.
وليجتنب المتدبر نشر تدبره لأول وهلة حتى يكون عنده دربة على التدبر الصحيح، ومن أكثر الأسئلة التي ينبغي للإنسان أن يستصحبها في تدبره: ما الحكمة من…؟
ففي سورة الفاتحة مثلا:
ما الحكمة من الابتداء بالحمد؟ وما الحكمة من تقديم الرحمن على الرحيم، وما الحكمة من ذكر يوم الدين؟ وما الحكمة من ذكر العبادة والاستعانة؟ وما الحكمة من تقديم العبادة على الاستعانة؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تفتح الذهن للتدبر.
وليس القصد الاقتصار على سؤال الحكمة وإنما أردت بيان أكثر سؤال يحفز الذهن للتدبر.
- التفاعل مع الآيات:
ثبت عن النبي صل الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأ فمر بآية تسبيح سبح، وإذا مر بآية سؤال سأل، وإذا مر بآية تعوذ تعوذ، وهذا التفاعل إذا صاحبه حسن اختيار للمكان، مع جهر بالقراءة، وجودة صوت وتغني في الترتيل، وتكرار لبعض الآيات، أو حسن انصات واستماع فلا يكاد يخطئ تدبره.
- انتفاء الموانع:
اتفقت كلمة العلماء على أن التدبر لا بد أن تنتفي عنه الموانع، ومنها:
أ- الذنوب:
والمراد: أن الإصرار على الذنب يمنع الانتفاع بما يقرأه من آيات القرآن، وليس المراد أن المذنب لا يتدبر؛ إذ التدبر مأمور به كل أحد، كما أن التدبر علاج وشفاء من أمراض الشهوات والشبهات، كما قال تعالى: (وننزل من القرءان ما هو شفاء).
وعلى هذا كلما كان الإنسان تائبا منيباً لربه مستغفرا لذنبه كان تدبره للقرآن أصح وأقوم سبيلا.
ب- انشغال القلب وشرود الذهن:
التدبر لا يكون إلا بحضور قلب وانتباه ذهن، فمتى ما انشغل القلب وشرد الذهن فلا يمكن للإنسان أن يتدبر، وعلى هذا فلا بد للمتدبر أن يستجمع قواه الذهنية ويجمع قلبه على ما يسمعه أو يقرأه من الآيات ليتفكر فيها، كما قال وهب بن منبه رحمه الله: «من أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى؛ وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها. فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم.
فنلاحظ في كلام وهب أن المتدبر يجاهد نفسه في حضور القلب وعدم انشغاله، وفي جمع قواه الذهنية على ما يسمعه أو يقرأه من كلام الله.
ج- ضعف اللغة العربية:
القرآن عربي كما قال تعالى: وكذلك أنزله انا عربيا، فلا سبيل إلى فهم معانيه وتدبره إلا بفهم اللغة العربية كما قال ابن تيمية رحمه الله: «فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فمن كان ضعيفا في اللغة العربية وأساليبها فسيكون ضعفه مانعا له من التدبر الكامل الصحيح.
- مفاهيم خاطئة في التدبر:
هناك بعض المفاهيم الخاطئة في التدبر، وهذه النقطة داخلة في الموانع السابقة، لكني أفردتها لأهميتها، ومن هذه المفاهيم:
1)الربط بين التدبر والبكاء:
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بكاؤه أثناء قراءة القرآن كما قرأ ابن مسعود رضي الله عنه قوله تعالى): فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (قال ابن مسعود رضي الله عنه: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان، وقد كان السلف يبكون عند قراءة القرآن ويستدعون البكاء.
والخطأ أن يعتقد الربط بين التدبر والبكاء فلا تدبر إلا ببكاء، بينما في الحقيقة الجهة منفكة؛ لأن التدبر عملية ذهنية قلبية تقوم على التأمل والتفكر في الآيات، بينما البكاء هو من نتائج ذلك التفكر، وينبغي أن يعلم أن البكاء من خشية الله عند قراءة كتاب الله من أجل الأعمال الصالحة، وقد كان السلف يبكون ويتباكون عند قراءة القرآن لكن الخطأ هو الربط بينهما بحيث أن الإنسان الذي لا يعرف من نفسه البكاء يكون ذلك مانعا له من التدبر.
2)اعتقاد صعوبة التدبر وتعقيد تصوره:
يعتقد البعض أن التدبر عملية معقدة، ولا يقدر عليه إلا المتخصصون في التفسير وأهل العلم الراسخين فيه، بينما نجد الله أمر عامة المسلمين بتدبر القرآن كل حسب استطاعته وقدرته وأدواته.
وقد قال ابن عباس النها: أنزل القرآن على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، ووجه لا يعذر أحد بجهله، ووجه يعلمه العلماء، ووجه لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره.
فالوجه الذي تعرفه العرب من كلامها والوجه الذي لا يعذر أحد بجهله يدل على أن التدبر مقدور عليه في الجملة، وإنما يتفاوت الناس في عمق التدبر وسعته بناء على اختلافهم في الأدوات المعينة عليه.
3)ربط التدبر بقوة الإيمان فقط:
من تلبيس إبليس على المتدبر أن يربط التدبر بقوة الإيمان، فيقع في ذهن الإنسان أن المتلطخ بالذنوب والخطايا لا يستطيع أن يتدبر كلام الله.
ومن تأمل آيات التدبر في القرآن وجد أن الله خاطب بالتدبر الكفار والمنافقين فقال في شأن الكفار: (أفلا يتدبرون القران ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلفا كثيرا) وقال في شأن المنافقين: (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها (
وإذا عرفنا أن التدبر علاج نافع للخطايا والذنوب – إذ هو يزيل رانها ويزرع هيبة الله في قلب المؤمن لا أدركنا حاجة البشر جميعا للتدبر. .
ولا شك أن قوة الإيمان وحياة القلب ودوام الذكر والاستغفار لها تأثير على صحة التدبر وانتفاع القلب بذلك، إنما التنبيه على حبائل إبليس في تقنيط الإنسان من التدبر حال ذنوبه، والمؤمن يعالج نفسه بالاستغفار والمجاهدة، والله وليه ونصيره.
4)حصر التدبر على الصلاة أو القراءة الفردية:
أمر الله بالتدبر مطلقا (كتب أنزله إليك مبارك ليتدبروا ءايته) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم متدبرا حال صلاته وانفراده، ومع أهله وصحابته .
ومن الخطأ حصر حالة التدبر على الصلاة أو القراءة الفردية للقرآن، بينما ورد في السنة التدبر عن طريق المدارسة كما قال النبي عليه وسل: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده.
ويلحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مراكز تحفيظ القرآن، والغرف الصوتية على الإنترنت، وبرامج الهواتف الذكية.
5-اعتقاد أن القرآن لا يقرأ إلا بالتدبر:
فضل أهل العلم أحوال الناس تجاه قراءة القرآن وأفضلية ذلك، فقال النووي رحمه الله: أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص: «فمن كان يظهر له بدقيق الفكر الطائف ومعارف فليقتصر على قدر ما يحصل له كمال فهم ما يقرؤه، وكذا من كان مشغولا بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له.
وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة)
وقد كان السلف يتفننون في تنويع قراءة القرآن ما بين قراءة التدبر والتأمل وقراءة استكثار الأجر، فقد كان بعض السلف له في كل يوم ختمة، وفي رمضان في كل يوم ختمة، ويبقى في ختمة بضع عشرة سنة حيث يخصصها للتأمل والتدبر والنظر والتفكر (
فمن الخطأ أن الإنسان يجعل قراءته للقرآن الإرادة التدبر فإن لم يجد من نفسه نشاط وقوة ترك قراءة القرآن إذ أنه يتصور ارتباط القراءة بالتدبر فقط، وهذا فهم قاصر، والمؤمن يجاهد نفسه على أن يكون متدبر دائما فإن لم يستطع لاختلاف حالات نفسه فلا يفوت على نفسه الأجر بالقراءة ولو لم يتدبر.
مراتب الأخذ بالقرآن الكريم:
قال ابن مسعود : ” كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن)
و يقول التابعي الجليل أبي عبدالرحمن السلمي ( حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيهن من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا العلم والعمل جميعًا)
وهذه الشريحة تحكي حال سلفنا الصالح رحمهم الله في إقراء القرآن وتعليمه، وهو تعليم التلاميذ أحكام الآيات وآدابها والتربية عليها بتدرج بحيث لا ينتقل إلى غيرها من الآيات إلا بعد أن يرى منهم التأثر والاستيعاب والتطبيق.
فيبدأ بإسماعهم آيات القرآن بقراءته، ثم يستمع لتلاواتهم، ثم يستم لحفظهم لها، ثم يعلمهم ما فيها من أحكام ومعاني، ثم يطلب منهم الامتثال والعمل بمقتضاها.
لقد كان تعليمهم للقرآن يقتضي فهم المراد من آياته، ومن خلال ذلك نقل التلاميذ كثيراً من مرويات التفسير والتدبر والأحكام.
روي عن مسروق بن الأجدع قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني تركت في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه، يقول في هذه الآية {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} [الدخان: ٠١] إلى آخرها: يغشاهم يوم القيامة دخان يأخذ بأنفاسهم حتى يصيبهم منه كهيئة الزكام! قال: فقال عبد الله: (من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم. فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم. إنما كان هذا لأن قريشاً لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم قحطٌ، وجهدوا حتى أكلوا العظام، وجعل الرجل ينظر إلى السماء فينظر ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله عزّ وجلّ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: ٠١ – ١١]، فأتي رسول الله #، فقيل: يا رسول الله! استسقِ الله لمضر فإنهم قد هلكوا، قال: فدعا لهم، فأنزل الله عز وجل: {إنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ} [الدخان: ٥١]، فلما أصابهم المرة الثانية عادوا، فنزلت {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان: ٦١] يوم بدر.
قواعد التدبر:
هذه الركائز الأساسية لتدبر القرآن الكريم:
أن يكون عالماً بلغة العرب معان، وقواعد، وأساليب بيانية، لأن القرآن الكريم نزل بلغة العرب وكل ذلك من كلامهم (وسنتكلم عن ذلك باستفاضة في الشريحة القادمة).
دراسة السنة والسيرة النبوية: كان طبيعياً أن يفهم النبى صلى الله عليه وسلم القرآن جملة وتفصيلاً، إذ تكفل الله تعالى له بالحفظ والبيان: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 17 – 19]، كما كان طبيعياً أن يفهم أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم القرآن في جملته، أى بالنسبة لظاهره وأحكامه، أما فهمه تفصيلاً، ومعرفة دقائق باطنه، بحيث لا يغيب عنهم شاردة ولا واردة، فهذا غير ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن، بل لا بد لهم من البحث والنظر والرجوع إلى النبى صلى الله عليه وسلم فيما يشكل عليهم فهمه، وذلك لأن القرآن فيه المجمل، والمشكل، والمتشابه، وغير ذلك مما لا بد في معرفته من أمور أُخرى يُرجعَ إليها.
أنواع التفسير النبوي للقرآن
والسنة مبيّنة للقرآن، وشارحة له، وهي على ثلاثة أنواع: قول النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله، وإقراره، وكلّ ما أفهمَ بيانَ مرادِ اللهِ عز وجلّ من ذلك بنصّ صريح فهو تفسير نبويّ للقرآن.
1- التفسير القولي:
- قول النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78] قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» رواه الترمذي.
- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قيل لبني إسرائيل: ﴿ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ﴾ [البقرة: 58] فبدلوا، فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعرة» رواه البخاري ومسلم.
2- التفسير العملي:
- منها: تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى إقامة الصلاة المأمور بها في قول الله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ وقوله: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ بأدائه للصلاة أداءً بيّن فيه أركانها وواجباتها وشروطها وآدابها، وقال لأصحابه: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» رواه البخاري من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
- ومنها: تفسيره صلى الله عليه وسلم لمعنى إتمام الحجّ المأمور به في قوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 196] بأدائه لمناسك الحج على الوجه الذي رضيه الله تعالى، وأمر أصحابه أن يأخذوا عنه مناسكهم.
- وكذلك كثير من العبادات والمعاملات التي ورد الأمر بها في القرآن فإنّ هدي النبي صلى الله عليه وسلم تفسير عملي لمراد الله تعالى بها.
3- التفسير بالإقرار:
- إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما نزل قول الله تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114] في شأن رجلٍ أذنب ذنباً.
فقال الرجل: يا رسول الله، أهي في خاصة، أو في الناس عامة؟ فقال عمر: (لا، ولا نعمة عين لك، بل هي للناس عامة). فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «صدق عمر».
- وإقراره لعمرو بن العاص لما تيمم من الجنابة في شدة البرد؛ كما في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود من حديث عمران بن أبي أويس عن عبد الرحمن بن جبير المصري، عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل؛ فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟» فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [الفاتحة: 29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا.
معرفة أسباب النزول والمناسبات والوقائع: وهي متممة للسابقة وذكرت هنا من باب ذكر الخاص بعد العام.
إنزال القرآن على واقع الأمة وقضاياها: بعد معرفة ما سبق من قواعد وتطبيقها على الواقع نعرف ما هو مطلوب من الأمة في واقعها.
- مفاهيم خاطئة في التدبر:
هناك بعض المفاهيم الخاطئة في التدبر، وهذه النقطة داخلة في الموانع السابقة، لكني أفردتها لأهميتها، ومن هذه المفاهيم:
1)الربط بين التدبر والبكاء:
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بكاؤه أثناء قراءة القرآن كما قرأ ابن مسعود رضي الله عنه قوله تعالى): فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (قال ابن مسعود رضي الله عنه: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان، وقد كان السلف يبكون عند قراءة القرآن ويستدعون البكاء.
والخطأ أن يعتقد الربط بين التدبر والبكاء فلا تدبر إلا ببكاء، بينما في الحقيقة الجهة منفكة؛ لأن التدبر عملية ذهنية قلبية تقوم على التأمل والتفكر في الآيات، بينما البكاء هو من نتائج ذلك التفكر، وينبغي أن يعلم أن البكاء من خشية الله عند قراءة كتاب الله من أجل الأعمال الصالحة، وقد كان السلف يبكون ويتباكون عند قراءة القرآن لكن الخطأ هو الربط بينهما بحيث أن الإنسان الذي لا يعرف من نفسه البكاء يكون ذلك مانعا له من التدبر.
2)اعتقاد صعوبة التدبر وتعقيد تصوره:
يعتقد البعض أن التدبر عملية معقدة، ولا يقدر عليه إلا المتخصصون في التفسير وأهل العلم الراسخين فيه، بينما نجد الله أمر عامة المسلمين بتدبر القرآن كل حسب استطاعته وقدرته وأدواته.
وقد قال ابن عباس النها: أنزل القرآن على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، ووجه لا يعذر أحد بجهله، ووجه يعلمه العلماء، ووجه لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره.
فالوجه الذي تعرفه العرب من كلامها والوجه الذي لا يعذر أحد بجهله يدل على أن التدبر مقدور عليه في الجملة، وإنما يتفاوت الناس في عمق التدبر وسعته بناء على اختلافهم في الأدوات المعينة عليه.
3)ربط التدبر بقوة الإيمان فقط:
من تلبيس إبليس على المتدبر أن يربط التدبر بقوة الإيمان، فيقع في ذهن الإنسان أن المتلطخ بالذنوب والخطايا لا يستطيع أن يتدبر كلام الله.
ومن تأمل آيات التدبر في القرآن وجد أن الله خاطب بالتدبر الكفار والمنافقين فقال في شأن الكفار: (أفلا يتدبرون القران ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلفا كثيرا) وقال في شأن المنافقين: (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها (
وإذا عرفنا أن التدبر علاج نافع للخطايا والذنوب – إذ هو يزيل رانها ويزرع هيبة الله في قلب المؤمن لا أدركنا حاجة البشر جميعا للتدبر. .
ولا شك أن قوة الإيمان وحياة القلب ودوام الذكر والاستغفار لها تأثير على صحة التدبر وانتفاع القلب بذلك، إنما التنبيه على حبائل إبليس في تقنيط الإنسان من التدبر حال ذنوبه، والمؤمن يعالج نفسه بالاستغفار والمجاهدة، والله وليه ونصيره.
4)حصر التدبر على الصلاة أو القراءة الفردية:
أمر الله بالتدبر مطلقا (كتب أنزله إليك مبارك ليتدبروا ءايته) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم متدبرا حال صلاته وانفراده، ومع أهله وصحابته .
ومن الخطأ حصر حالة التدبر على الصلاة أو القراءة الفردية للقرآن، بينما ورد في السنة التدبر عن طريق المدارسة كما قال النبي عليه وسل: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده.
ويلحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مراكز تحفيظ القرآن، والغرف الصوتية على الإنترنت، وبرامج الهواتف الذكية.
5-اعتقاد أن القرآن لا يقرأ إلا بالتدبر:
فضل أهل العلم أحوال الناس تجاه قراءة القرآن وأفضلية ذلك، فقال النووي رحمه الله: أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص: «فمن كان يظهر له بدقيق الفكر الطائف ومعارف فليقتصر على قدر ما يحصل له كمال فهم ما يقرؤه، وكذا من كان مشغولا بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له.
وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة)
وقد كان السلف يتفننون في تنويع قراءة القرآن ما بين قراءة التدبر والتأمل وقراءة استكثار الأجر، فقد كان بعض السلف له في كل يوم ختمة، وفي رمضان في كل يوم ختمة، ويبقى في ختمة بضع عشرة سنة حيث يخصصها للتأمل والتدبر والنظر والتفكر
فمن الخطأ أن الإنسان يجعل قراءته للقرآن الإرادة التدبر فإن لم يجد من نفسه نشاط وقوة ترك قراءة القرآن إذ أنه يتصور ارتباط القراءة بالتدبر فقط، وهذا فهم قاصر، والمؤمن يجاهد نفسه على أن يكون متدبر دائما فإن لم يستطع لاختلاف حالات نفسه فلا يفوت على نفسه الأجر بالقراءة ولو لم يتدبر.
تاءات التدبر:
تاءات التدبر الست:
1- التهيئة: وتتلخص في:
أولاً- اختيار الوقت: حين أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بترتيل القرآن أرشده إلى اختيار الوقت، فقال: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ﴾ [المزمل: 6، 7]، فذكر ثلاثة أسباب لاختيار الليل: أشد وطئًا؛ أي: أشد موافقة بين القلب والبصر، والسمع واللسان، والثاني أقوم قيلًا؛ أي: أشد استقامة واستمرارًا على الصواب؛ لأن الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه، والثالث أن النهار وقت غير مناسب؛ لأنك لك فيه سبحًا طويلًا؛ أي: تصرفًا في حوائجك، وإقبالًا وإدبارًا، وذَهابًا ومجيئًا، والسبح: الجري والدوران، ومنه السابح في الماء لتقلبه بيديه ورجليه.
ثانياً- التفرغ القلبي: فقبل ﴿ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ [الشرح: 8]، قال تعالى: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ﴾ [الشرح: 7]؛ أي: إذا تفرغت من أشغالك، ولم يبق في قلبك ما يعوقه، فاجتهد في العبادة والدعاء[1]، ومنه السعي في تطهير القلب من الملوثات الفكرية والعواصف الشهوانية.
ثالثاً- الاستعداد النفسي: وهو حديث النفس بعظمة الكتاب وعظمة الله، لاحظ معي: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ ” لماذا كل هذا يا رب، الجواب: “﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾”، فلا بد من الاستعداد لهذا القول الثقيل، والمتأمل في حياتنا يرى أنه كلما عظُمت القضية أو الموضع، كان الاستعداد النفسي لها أهم وأعظم.
2-تعريف:
وهو ما وضعه علماء التفسير واللغة والنحو والبلاغة وعلماء التجويد من معان لمفردات اللغة تعين على فهم القرآن الكريم وتدبره، والاهتمام باللغة العربية واجب وضروري لفهم المعاني المطلوبة، فهي لغة القرآن التي نزل بها، والواجب على من أراد أن يتدبر القرآن الكريم أن يتعلم لغته ليفهم معانيه وطرائقه في التعبير وأساليبه كالحذف والإيجاز والإطناب والتقديم والتأخير والالتفات وغيره من الأغراض البيانية.
وكذلك معرفة معاني الكلمات العربية ومفرداتها، ليعرف المقصود الحقيقي منها، كمعرفة معنى الإيمان والعلم واليقين والظن والصوم والصلاة والحج والزكاة والجهاد والولاء والبراء … وغيرها.
فالواجب على المسلم المتدبر للقرآن أن يكون على قدر من هذه العلوم وإلا جهل الأساس الذي يفهم به القرآن، وكان فهمه متعارضاً بحسب فهمه.
3-تلاوة – ونعني بها القراءة الصحيحة؛ أداءً واستماعاً وحفظاً، وذلك تطبيقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الماهرُ بالقرآن مع السَّفرةِ الكرامِ البرَرَةِ، والذي يقرأ القرآنَ ويتَتَعْتَعُ فيه، وهو عليه شاقٌّ، له أجرانِ))؛ ويلحق بها الترتيل وهو ترك العجلة في القراءة مع التمهل والتأني، وكذلك تحسين الصوت بها فهي أمور تعين على تدبر كلام الله عز وجل وتعطي للعقل حقه من التفكر والتأني في فهم المراد، ولا يخفى دور التكرار لما يتلى من أهمية في استجلاب المعاني الكثيرة، فقد قام رسو الله صلى الله عليه وسلم ليلة يكرر آية(إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) حتى أصبح، وفعل ذلك كثير من الصحابة والتابعون والصالحون من الأمة، ويلحق هذا الجانب: أن يحرص على السؤال عند التلاوة، والاستغفار عند ذكره والاستعاذة عند ورود ذكر العذاب وما شابه، والتلاوة بهذه الضوابط تساعد على التدبر كثيراً.
وعلينا الانتباه إلى ضرورة عدم التمادي في التنغيم والتمطيط في التلاوة فتصبح مقصودة لذاتها ويغيب الغرض المطلوب.
4-تفسير: لتفسير القرآن الكريم شروط وقواعد وضوابط ينبغي الالتزام بها، ولا يتصدى لتفسير القرآن إلا من جمع العلوم اللازمة لهذا العلم، وضرورة الاعتماد على من أعطاه الله هذا العلم والالتزام به ضروري، وعليه فينبغي اختيار كتاب تفسير يكون قريبًا منك؛ من أجل التثبت ومعرفة المجهول، والتأكد من صحة المدلول.
5-تدبر: ويقصد به إعمال الفكر:
التفكير من أعظم النعم الربانية، والتفكير خطوة لاحقة للتلاوة والتفسير، فمن تلا وفسر الآيات لا بد أن يفكر، وإعمال الفكر في تدبر القرآن مجاله واسع وكبير، ولكن ما تنبغي الإشارة إليه:
♦ أواخر الآيات: “﴿ مثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾” البقرة، لماذا قال: ” واسع عليم “؟
الجواب – والله أعلم – أن المقام مقام عطاء، فبيَّن الله أن واسع في عطائه، ومن الطبيعي أنك ستسأل من الذي يستحق الزيادة، فقال: “عليم” بمن يستحق من خارجه ومن داخله.
♦ طرح الأسئلة: وهو باب كبير جدًّا:” ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾”، فمن الجميل أن تسأل مَن هم المتقون؟ فيأتي الجواب: “﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾” ست صفات.
قف معي على الصورة “﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ﴾”، وكأنك تسأل لماذا كل هذا العذاب يا رب؟ وما الأسباب التي أودت بهذا إلى ذلك الجحيم – والعياذ بالله؟
يأتيك بعدها الجواب مباشرة: “﴿ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾.
الاستنباط: الاستنباط في اللغة يُستخدم لكل ما أُخْرِجَ أو أُظْهِرَ بعد خفاءٍ، ونعني به هنا الوصول إلى أمور خفية، نتيجة التأمل والتفكر بعد الملاحظة، تأمل معي في قصة ذي القرنين: ” ﴿ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ﴾” الكهف.
لعلك أدركت أن مَن ظلم بدأ به بالعذاب الدنيوي ثم الأخروي، “نعذبه ثم يرد..”، على عكس المؤمن “الحسنى وسنقول له”، ومنه نستنبط أن الآخرة مقدمة عند المؤمن، والعكس عند غيره.
6-تزكية:
وتعني عرض نفسك على القرآن وملاحظة مدى توافقك مع أوامره ونواهيه، ثم السعي في سد الفجوات، وردم الثغرات من أجل شخصية قرآنية مستجيبة، وإليك هذا المثال:
الآيات | التقييم الذاتي
( العرض) |
التطوير | ملاحظات | |
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ﴾ | ||||
1 | ﴿ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ | |||
2 | ﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ | |||
3 | ﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ | |||
4 | ﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾ | |||
5 | ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الانفال:3] |
كل ما نحتاجه هو التدرب على هذه الخطوات الستة:
- التهيئة.
- تعريف معاني الكلمات القرآنية.
- التلاوة: استماعاٍ وأداءً وحفظاً.
- التفسير: الاطلاع على كتب المفسرين الموثوقة.
- التدبر: باستنباط المعاني المتواردة للذهن من سياق الآيات واستخلاص السلوكيات والأخلاقيات التي تدعو إليها الآيات.
- التزكية: بتزكية النفس والعمل والنية، والأخذ بها لما هو أصلح.
وبعد تَكرار التطبيق ستصبح لدينا مهارة تدبُّر القرآن الكريم بصورة تلقائية؛ فتتحول من ممارسة إلى سلوك.
خاتمة..
القرآن الكريم رسالة الله عز وجل لأهل الأرض أنزله على عبده ورسوله محمداً ﷺ لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، وهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها، وقد رتب الله تعالى الأجور العظيمة على تعلمه وتعليمه وتلاوته، فقد روى الإمام الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) صححه الألباني.
إن الاهتمام بتقويم اللسان والحرص على تجويد القرآن الكريم، فيه خير عظيم وأجر كبير ولكن الأجر الأكمل والأتم أن يحرص المسلم أن يجمع مع تلاوة القرآن الكريم وتدبر آياته: العمل بهذه الرسالة العظيمة.
فيجمع كامل الأجر على التلاوة وتعلمها وتدبر ما يقرأ والعمل بمقتضاها قال ابن مسعود (كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلمهن ونعمل بهن، ونعلمهن، ونعلم حلالهن وحرامهن فأوتينا العلم والعمل).
وقد كان الصالحون من هذه الأمة يحذرون من الانشغال بتعلم تلاوة القرآن الكريم والتوقف على ذلك، واعتقاد أن تكرار الختمات – وهو مطلوب شرعاً – أن ذلك هو العمل بالقرآن الكريم وفي هذه الحالة يقول الحسن البصري رحمه الله: أُنزل القرآن ليُعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملاً.
ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله: إنما أُنزل القرآن ليُعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً قيل وكيف العمل به قال: ليحلوا حلاله، ويحرموا حرامه ويأتمروا بأوامره وينتهوا عن نواهيه ويقفوا عند عجائبه.
وإن من أشد أنواع الحرمان أن يتعلم المسلم قراءة القرآن الكريم ويتلوه آناء الليل وأـطراف النهار ثم لا يعمل بهذه الرسالة ولا يقوم بها حق القيام.
فاحرص أخي المسلم على أن تجمع بين التلاوة والعلم والعمل فلهذا أنزل الله كتابه وجعله رسالته لأهل الأرض ليفوزوا بسعادتي الدنيا والآخرة.
جعلني الله وإياك ممن يقيم حروفه وحدوده، وممن اتبع القرآن فقاده الى رضوان الله والجنة…
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا أرحم الراحمين.