كشف الصحفي الأمريكي جيفري جولدبرج, رئيس تحرير مجلة “ذا أتلانتيك”, الاثنين, عن خطأ معلوماتي غير مسبوق من قبل مسؤولي إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب, بعد أن تمت إضافته شخصيا إلى مجموعة محادثة ضمت سلسلة من أبرز مسؤولي الإدارة لمناقشة الضربة الأمريكية ضد الحوثيين في اليمن, والتي تم تنفيذها هذا الشهر.
وروى جولدبرج, في مقال موسع, نشر عبر الموقع الإلكتروني للمجلة, قصة إضافته إلى المجموعة مع نائب الرئيس الأمريكي ووزير الخارجية ووزير الدفاع ووزير الخزانة وغيرهم, ما أدى إلى معرفته بشأن الضربة الأمريكية ضد الحوثيين قبل تنفيذها بساعتين, بالإضافة إلى معرفته بالأهداف وطريقة التنفيذ وتفاصيل أخرى, محذرا من أن ما حدث قد يكون انتهاكا للقوانين الأمريكية.
وكتب جولدبرج أنه في تمام الثانية ظهرا بتوقيت الساحل الشرقي للولايات المتحدة, يوم السبت الموافق 15 مارس, أعلنت واشنطن للعالم أنها بدأت في شن ضربات جوية على أهداف تابعة لجماعة الحوثي داخل اليمن, ورغم تفاجؤ العالم بأكمله, إلا أنه جولدبرج كان قد تلقى معلومات عن تلك الضربات قبل ساعتين كاملتين من وقوعها, بحسب تعبيره.
وأوضح جولدبرج أنه في تمام الساعة 11:44 صباحا يوم 15 مارس, تلقى عبر تطبيق “سيجنال” رسالة مباشرة من بيت هيجسيث, وزير الدفاع الأمريكي, تتضمن تفاصيل دقيقة عن الخطة العسكرية, حيث احتوت الرسالة على معلومات حساسة تشمل طبيعة الأهداف, وأنواع الأسلحة المستخدمة, والتوقيتات الدقيقة للضربات. وبدأ جولدبرج القصة منذ بدايتها, موضحا أنه في يوم الثلاثاء الموافق 11 مارس, تلقى طلب اتصال على تطبيق “سيجنال”, المعروف بين الصحفيين والسياسيين بأنه يوفر درجة عالية من الأمان والخصوصية, وجاء هذا الطلب من حساب يحمل اسم مايكل والتز, وهو مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض.
وقال جولدبرج: “رغم معرفتي به شخصيا ولقائي به في أكثر من مناسبة, لم أكن واثقا من أن هذا الحساب يخصه بالفعل, فعلاقة إدارة ترامب بالصحافة, وبشخصي تحديدا, لم تكن يوما ودية, وقد راودني الشك في أن يكون الأمر فخا من جهة تسعى للإيقاع بي أو تشويه سمعتي.. ومع ذلك, قررت قبول طلب الاتصال, على أمل أن يكون التواصل يتعلق بقضايا كبرى مثل أوكرانيا أو الملف النووي الإيراني”.
وتابع جولدبرج: “بعد يومين, وتحديدا يوم الخميس 13 مارس في الساعة الرابعة و28 دقيقة مساء, تلقيت إشعارا بإضافتي إلى مجموعة على تطبيق “سيجنال” يحمل اسمها كلمة مجموعة لجنة رؤساء عملية الحوثي, وعند تصفحي للرسائل, وجدت أول رسالة من مايكل والتز تقول: الفريق؟ نقوم بتشكيل مجموعة لمناقشة المستجدات المتعلقة بالحوثيين, خصوصا خلال الـ72 ساعة القادمة”.
وأوضح الصحفي الأمريكي أن مصطلح “لجنة الرؤساء” يستخدم عادة للإشارة إلى مجموعة من كبار مسؤولي الأمن القومي الأمريكي, مثل وزراء الدفاع والخارجية والخزانة, بالإضافة إلى مدير وكالة الاستخبارات المركزية, مشيرا إلى أنه كصحفي لم تتم دعوته يوما لحضور مثل هذه الاجتماعات, بل ولم يسمع قط عن انعقادها عبر تطبيق محادثة تجاري.
وذكر جولدبرج أنه مع تفعيل الاجتماع رسميا, تم إدراج 18 شخصا في المجموعة, من بينهم مسؤولون في مجلس الأمن القومي, وستيف ويتكوف, مفاوض الشرق الأوسط وأوكرانيا, وسوزي وايلز, رئيسة موظفي البيت الأبيض, وشخص يعرف بالحروف “س ح” والذي افترض أنه ستيفن ميلر, مستشار ترامب المقرب, لافتا إلى أنه لم يلتفت أحد إلى وجوده أو سأله عن هويته. وأعرب جولدبرج عن دهشته قائلا: “لم أكن أصدق أن قادة الأمن القومي في الولايات المتحدة يتداولون معلومات بهذه الحساسية عبر تطبيق مثل “سيجنال”, ففكرة أن مستشار الأمن القومي يضيفني إلى مجموعة تحتوي على كبار مسؤولي الدولة, كانت غير قابلة للتصديق, كيف يمكن أن يحدث هذا؟”.
وتابع جولدبرج روايته قائلا: “في صباح اليوم التالي, يوم الجمعة 14 مارس, عادت الرسائل إلى التدفق داخل المجموعة, وفي تمام الساعة 8:22 صباحا, كتب حساب يعرف باسم “جو كنت”, وهو المرشح من قبل ترامب لرئاسة المركز الوطني لمكافحة الإرهاب أنه “لا يوجد أمر عاجل يدفعنا إلى تنفيذ الضربة الآن.. الخيارات المتاحة اليوم ستظل متاحة بعد شهر”.
وبعدها بأربع دقائق, وردت رسالة جديدة من حساب “جون راتكليف”, وزير الاستخبارات الأسبق, تحتوي على إشارات توحي بأنها متصلة بعمليات استخباراتية نشطة, ثم جاءت رسالة من “بيت هيجسيث” عند الساعة 8:27, موجهة إلى نائب الرئيس, تقول: “أفهم مخاوفك ؟ وأؤيد تماما أن ترفع الأمر للرئيس, هناك الكثير من العوامل المعقدة: الاقتصاد, ووقف إطلاق النار في غزة, ومسار السلام في أوكرانيا, لكن المشكلة الأكبر هي أن لا أحد في الشارع الأمريكي يعرف من هم الحوثيون, ولذلك يجب أن نركز رسائلنا على نقطتين: أولا, فشل (الرئيس الأمريكي السابق جو) بايدن; وثانيا, تمويل إيران للحوثيين”.
وبحسب جولدبرج, واصل هيجسيث حديثه قائلا: “الانتظار لبضعة أسابيع لن يغير كثيرا, لكن هناك مخاطرتين: الأولى أن يتم تسريب هذه المعلومات فنبدو مترددين; والثانية أن تبادر إسرائيل بالتحرك أو ينهار وقف إطلاق النار في غزة, فنفقد زمام المبادرة, لكن يمكننا الآن إدارة كل هذا, فنحن مستعدون للتنفيذ, ولو كانت لي الكلمة الأخيرة, كنت سأعطي الضوء الأخضر الآن, هذه ليست مسألة تتعلق بالحوثيين فقط, المسألة تتعلق بأمرين: استعادة حرية الملاحة, وهو مصلحة قومية أساسية; وإعادة فرض الردع الذي قضى عليه بايدن”.
ثم جاءت رسالة طويلة من “مايكل والتز” تحتوي على أرقام تتعلق بالتجارة الدولية, وتحليلات عن ضعف القدرات البحرية الأوروبية, وأشار بوضوح إلى أن الولايات المتحدة وحدها هي القادرة على إعادة فتح الممرات البحرية, تنفيذا لتوجيهات ترامب, وأضاف أن وزارة الدفاع ووزارة الخارجية تعملان على حساب تكلفة العملية, في محاولة لتحميل جزء منها إلى الأوروبيين, وفقا لما ذكره جولدبرج.
وعند الساعة 8:45, كتب نائب الرئيس جيه دي فانس رسالة موجهة إلى هيجسيث يقول فيها: “لو كنت ترى أن علينا التنفيذ, فلننطلق, لكنني أكره أن نتحمل كلفة إنقاذ أوروبا مرة أخرى”, ورد عليه هيجسيث بعد 3 دقائق قائلا: “أتفق تماما مع كراهيتك لركوب أوروبا على ظهرنا, إنه أمر محبط, لكن مايكل على حق: نحن الوحيدون على هذا الكوكب القادرون على تنفيذ هذه المهمة.. السؤال الوحيد هو التوقيت, وأعتقد أن الوقت الآن مناسب, في ضوء توجيهات الرئيس بفتح الممرات البحرية, أنا مع التنفيذ, لكن القرار النهائي لا يزال لدى الرئيس خلال الـ24 ساعة القادمة”.
في هذه اللحظة, دخل “س ح” ؟ الذي المفترض أنه المستشار الرئاسي ستيفن ميلر, قائلا: “كما فهمت, الرئيس أعطى الضوء الأخضر, لكن يجب أن نوضح لأوروبا ما ننتظره منهم مقابل ذلك, ويجب أيضا أن نحدد آلية التنفيذ: مثلا, إذا لم تoسهم أوروبا في التكاليف, فما هي الخطوة التالية؟ إذا نجحت أمريكا في استعادة حرية الملاحة بتكلفة عالية, فلا بد من تحقيق مكسب اقتصادي مقابل ذلك”.
وقال جولدبرج: “بعد قراءتي لهذه السلسلة من الرسائل, أصبحت على يقين شبه تام أن هذه المحادثة واقعية, كانت اللغة والأسلوب وطريقة التفكير تتوافق تماما مع الأشخاص الذين يفترض أنهم كتبوا تلك الرسائل, وإن لم تكن حقيقية, فلا بد أن من كتبها يتمتع بقدرة عالية على المحاكاة وربما استخدم ذكاء صناعيا متقدما لإنتاج هذا المستوى من التقمص”.
وتابع قائلا: “لكنني ظللت حائرا, هل من الممكن أن أكون فعليا داخل مجموعة تناقش خطة عسكرية أمريكية, ولا أحد يلاحظ وجودي؟”.
وأشار جولدبرج إلى أن القصة بلغت ذروتها, صباح السبت الموافق 15 مارس, عندما وصله رسالة جديدة عبر تطبيق “سيجنال” في تمام الساعة 11:44 صباحا, من الحساب المسجل باسم “بيت هيجسيث”, واحتوت على معلومات عملياتية في غاية الحساسية تتعلق بالهجوم الوشيك على الأراضي اليمنية.
وأوضح جولدبرج أنه “للسلامة الأمنية, لن أنقل حرفيا مضمون الرسالة أو نصوص الرسائل اللاحقة لها, إلا أنه يمكنني التأكيد أن المعلومات التي وردت فيها, لو وقعت في يد خصم أو عدو للولايات المتحدة, كان من الممكن أن تستخدم بشكل مباشر لإلحاق الضرر بالقوات الأمريكية, خاصة في منطقة الشرق الأوسط, حيث تقع مسؤولية القيادة المركزية الأمريكية”.
واستطرد قائلا: “ما ورد في تلك الرسالة من تفاصيل كان كافيا لشرح مدى التهور المذهل الذي اتسمت به هذه المحادثة الإلكترونية, حيث تضمنت أسماء الأهداف, وأنواع الأسلحة التي ستستخدم, والترتيب الزمني للضربات, بل وحتى توقيتات التحرك”.
وأشار جولدبرج إلى أن الخطة كانت تقضي ببدء الضربات في تمام الساعة 1:45 بعد الظهر بتوقيت واشنطن, أي بعد ساعتين فقط من إرسال الرسالة, لافتا إلى أنه في تلك اللحظة, جلس يفكر مليا إن كانت هذه المحادثة حقيقية, فلا بد أن تظهر الأخبار قريبا عن قصف جوي على اليمن. وبالفعل, تصفح جولدبرج منصة “إكس” الاجتماعية الساعة 1:55, ليجد التقارير حول الضربة الأمريكية والانفجارات في العاصمة اليمنية صنعاء قد بدأت تتوالى, وعاد التفاعل على مجموعة تطبيق “سيجنال”, حيث بدأ يشيد المسؤولين الأمريكيين بنجاح الضربة والإنجاز العسكري الذي تم تحقيقه.
وأوضح جولدبرج أنه بعد ذلك بدأت تظهر رسائل تقيم العملية من حيث مدى الضرر الذي ألحق بالأهداف, بما في ذلك مقتل شخصية بعينها, لم يتم الكشف عن اسمها, فيما أفادت وزارة الصحة التي تسيطر عليها جماعة الحوثي في صنعاء بأن الضربات أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 53 شخصا.
وأكد جولدبرج أنه في تلك اللحظة, لم يعد لديه شك أن المحادثة حقيقية تماما, وبعدها غادر المجموعة على تطبيق “سيجنال”, وما أدهشه أنه لم يتواصل معه أي شخص ليسأل عن خروجه من المجموعة أو هويته. وأشار جولدبرج إلى أنه في صباح اليوم التالي, أرسل رسائل عبر البريد الإلكتروني إلى كل من والتز, وهيجسيث, وراتكليف, وجابارد, وعدد آخر من المسؤولين الذين ظهروا في المجموعة, كما أرسلت إليهم رسائل مباشرة على تطبيق “سيجنال”, حيث طرح عدة أسئلة عن مدى جدية مجموعة المحادثة وما إذا كانت حقيقية, وكيف كان متواجدا في هذه المجموعة, وكيف من الطبيعي استخدام تطبيق تجاري لمناقشة هذه الأسرار العسكرية.
وذكر جولدبرج أنه بعد ساعتين, وصله رد رسمي من براين هيوز, المتحدث باسم مجلس الأمن القومي, قال فيه: “يبدو أن هذه المحادثة حقيقية, ونحن بصدد مراجعة كيفية إضافة رقم عن طريق الخطأ إلى هذه المجموعة.. هذه المحادثة تعكس تنسيقا سياسيا عميقا ومدروسا بين كبار المسؤولين.. ونجاح العملية ضد الحوثيين يؤكد أنه لم يكن هناك أي تهديد على الجنود أو الأمن القومي”.
وقال جولدبرج إنه بسؤال خبراء القانون والأمن القومي الأمريكيين, حول الواقعة, فإن جميع الخبراء تقريبا أجمعوا على أن استخدام “سيجنال” في مثل هذا السياق قد يoعد انتهاكا لقانون التجسس الأمريكي, الذي ينظم التعامل مع ما يعرف بـ”معلومات الدفاع الوطني”.
وأوضح جولدبرج أنه رغم أن بعض المسؤولين الكبار لديهم صلاحية رفع السرية عن المعلومات, فإنهم أكدوا أن مجرد استخدام وسيلة غير معتمدة مثل “سيجنال” يعد إخلالا صريحا بالإجراءات المعتمدة, خصوصا في حالة مناقشة معلومات لا تزال حساسة, حتى وإن لم تكن مصنفة رسميا على أنها “سرية للغاية”.
وأضاف جولدبرج أن الأمر لا يقف عند حدود الأمن القومي, بل يتجاوز إلى شبهة خرق القوانين الفيدرالية المنظمة لسجلات الحكومة, إذ أظهرت المحادثة أن بعض الرسائل داخل المجموعة كانت مضبوطة لتحذف تلقائيا بعد أسبوع أو بعد أربعة أسابيع, مما يثير تساؤلات جدية حول مدى الالتزام بقانون السجلات الرئاسية.
وأشار جولدبرج إلى المفارقة في استخدام مسؤولي إدارة ترامب تطبيقا إلكترونيا في محادثة حساسة مثل ضربة استراتيجية في أراضي أجنبية, وبين مطالبة ترامب خلال حملته الرئاسية الأولى بسجن المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون بسبب استخدامها بريدا إلكترونيا خاصا لأغراض رسمية حين كانت وزيرة للخارجية.
يذكر أن البيت الأبيض أصدر بيانا, الاثنين, يؤكد فيه الواقعة, مشيرا إلى أن التفاصيل التي تمت مناقشتها في مجموعة المحادثة المذكورة تخص الضربة ضد الحوثيين, لكن دون ذكر أي تفاصيل عن الخطأ الذي أدى لإضافة جولدبرج إلى المجموعة أو التداعيات المحتملة.