الوثن
بقلم – محسن الطوخى:
مساقاً كنت إلى الجنوب، كالأشياء القدرية كانت رحلتي، كالحياة والموت، نظًرتْ أمي فى عينيَ وتمتمت: ترحل وما أتيت إلا لنهارين وليلة؟
أشحت بعيني بعيداً: سألتقي بصديق. لم أقل لها شيئاً عن الأشياء القدرية .
…………….
عندما رأى أحد الرفاق عين الوثن الوحيدة، نصف مفتوحة، نصف مغمضة، عاد وحكى، حدد خط الطول، وحدد خط العرض، ولم يدر أن الوثن كان منذ الأمس صائماً، فسمح لعينه الوحيدة، أن تطل – حمراء واهنة – من فرجة بين التلال، فى تلك المرة، عند انبلاج الفجر، أفطر الوثن بمائة رجل، نصفهم من ذوي الدماء الحمراء، ونصفهم من ذوي الدماء الزرقاء، وصحن، وعجن، أطناناً من الصلب القوي، فالوثن، يهوى اللهو بالصلب القوي.
………….
كنتُ قد فارقتُ الرجال، لا أعرف مَنْ منهم سيبقى حياً حتى أعود، والقرابين لم تزل تقدم كل ليلة، والوثن لا يكاد يرتوي، يصحو فى عمق الليل، أما فى النهار فيغفو، يميل برأسه خلف التلال، ويتوارى فى بقع الظل، ينكمش، ويوزع نفسه فى الحفر، ويتمدد فى الوديان، وفى مجاري السيول، وعندما تميل الشمس للغروب، يفتح عينه الحمراء، يلملم نفسه من الحفر، وينهض بجوعه الأبدي، نراه على مدى البصر، هناك، بعيداً عند الأفق، كأطياف سرابٍ خيالية, ونلمح الضوء الباهت، المنعكس فوق ذنبه الشائك، المنفّر، وهو يتسلل متمسحاً بميول التباب المعتمة، تلتقي أعيننا عند مغيب الشمس، وللقرابينَ طقوس نعرفها كلنا، قبضة اليد على الصلب البارد، الضحكة المبتورة، نظرة تتمسح بالمكان، ويبتلع الليل الخطوات الحذرة فى رحلة للمجهول.
…………….
بالأمس فقط، كان ” عبد الصمد ” القربان الأخير، دفء جسدهِ في القلادة المعدنية، كان رفيقي وأنا أعبر الطريق الرملى الملتوى، أطبق كفي على دفء المعدن البارد، بينما تتزاحم فى رأسى الأفكار، هل قدر لى حقاً أن أرى الأهل ؟، الولد، والأب الضرير، والطاحون، والحقول.
……………..
قبل أن أطلق كفه قلت له: كن على حذر.
معزوفة اللسان الطويلة ترَكَزَتْ فى نظرة العين، فالوقت قد أزف. الوثن باق، يؤكد ذلك عزم العين المسددة، لا يدرك الجنوبى أن الوثن باق، سيميل، ينزع شوكة من الطرف المتلكىء.
لو فعلت ذلك ياعبد الصمد، سيستدير الوثن، يلقم يمناك، ثم يطوحها مخضبة، مهتوكة الأنسجة، فهو لا يهتم باللقم الصغيرة،
فكن على حذر .. كن على حذر.
…………………….
صوت القطار الصاخب كان هو الصوت الوحيد الذى رافقني طوال رحلتى إلى الجنوب، أعرف أنى ذاهب للقائه فى بلدته الجنوبية، أعرف أيضاً أنه ليس هناك. ودفءُ القلادة تسرب من يدي. حكى لي “عبد الصمد” فى الليالي القمرية، عن المعدية التى سأستخدمها عندما يصل القطار مع الغروب، حكى لي عن الأرض السمراء، وصفّ أشجار الجازورينا التي تحرس مدخل القرية، قال عنها :
– أربعون شجرة، كل واحدة لي معها حكاية، كل واحدة بينها وبيني سر صغير.
……………….
صحت به: لا تفعل … كُنْ على حذر… خرج الصوت كالفحيح، أما هو فلم يتوقف، صوب بندقيته وأطلق وابلاً من النيران، بينما كنت أجاهد لأرفع صوتي، كانت الغريزة والمران الطويل أقوى أثرا،ً فلم أقترب، ضاع الصوت المجروح، حملته الريح فى الاتجاه الآخر، في اللحظة التالية كان علي أن أنغرس فى الرمال الباردة .
إيه ياعبد الصمد .. كان يجب أن يسبق الفعل تدبير، وها نحن مكشوفو الصدور،
وأنت لم تكد تفيق من فورة الغضب، حتى اكتشفت أن أوان التدبير قد فات،
والأمتار القليلة التى تفصل بيننا، دونها الدم والحديد والنار. وأنا الذي وعيت الدرس، أين أذهب من نظراتك التى لا تفهم؟
ماذا يجدي الصدرَ العاري الصدرُ العاري ؟
……………
منذ فارقَتْ كفُ الرقيبِ كتفي مودعاً، وبين أصابعى قلادة معدنية تحمل رقماً، وفى جيبى صورة الولد، مهوش الشعر، يحملق فى عدسة المصور . سرت البرودة فى أطرافى، سيحملق فيَّ الولدُ بنفس العينين.
…………….
يأتي السعالُ من الداخل، والبيتُ يتصاعد فيه دُخْانُ الفرن، تحاصرني الأعينُ الذاهلة. وقع الخبر الجاثم فوق الأذهان يحلق كطيور البحر، الصرخةُ الملتاعة تذهب وتعود مضفورةٌ بحبال اليأس، والمرأةُ الشابة تحثو طين الأرض، والولدُ الغافلُ يلهو بقلادة.
جئتُ ياصديقي لكى ألقاكَ فى هذه العيون الذاهلة، والولد لم يعد يحبو، غافلكَ وسار على قدمين. لو أقدرُ أن أمضي عمري بسريرةِ طفلٍ لاهٍ، أن أنسى أحزان الأم، والأخت، والجدة.
………………
حين عدتُ إلى بلدتى، ويممتُ شطرَ الحقلِ، شممتُ رائحةَ عرقهِ فى الممرات الضيقة بين الزراعات، وحين أمسكتُ بفأسى، رأيتُ بصمات أصابعه، وحين ملتُ على ماءِ النهر، عكستْ المياه الخالية من الطمى صورته. على مدخل بيتي كان واقي الرأس المموه بالبقع الملونة يعلو فوهة البندقية المستندة إلى الجدار، بالقرب منها كان هو بجسده الضخم متمدداً فى استرخاء، عاقداً ذراعيه فوق صدره، مغمض العينين، يبتسم، شأنه حين يكتشف بعد لجاج أنه على خطأ. حين ملتُ عليه بدهشة، لم يعد هناك، كان مدخل بيتي أيضا قد اختفى، والطريقُ المترب الذى خلفته ورائي غاب فى الظلمة، وكل ماكنت أعتقد أنى أعرفه من معالم بلدتي الهادئة، بتُّ أُدرِكُ أنه شركٌ يستوجب الحذر، وأنى فى اللحظة التالية قد أرى الذيلَ ذا الحرافيش ينسحبُ بخفة، ينعكس على استدارة أجنابه ضوءُ القمرِ الشاحب.psk hg’,on