الشريف محمد بن علي الحسني
مفكر ومؤرخ رئيس الرابطة العلمية العالمية للأنساب الهاشمية
«من الهجرة إلى الرؤية: كيف أعادت السعودية للطرق النبوية معناها الحضاري»
ليست الهجرة النبوية حدثًا تاريخيًا انقضى، ولا محطة زمنية تُستعاد في الذاكرة فحسب، بل هي فعل حضاري متجدد، أعاد تشكيل العلاقة بين الإنسان والمكان، وبين الإيمان والجغرافيا. فمنذ أن وطئت قدما النبي ﷺ أرض المدينة، تحوّل المكان من مجرد موضع جغرافي إلى فضاء للمعنى، وصارت الأرض شاهدة على الرسالة، لا صامتة عنها.
ومن هذا الفهم العميق، يمكن قراءة المشهد الإنساني الذي شهدته المدينة المنورة مؤخرًا، حين وصلت مجموعة من النساء مشيًا على الأقدام من مكة المكرمة إلى طيبة، في رحلة امتدت أيامًا، لم تكن استعراضًا ولا طقسًا شكليًا، بل سلوكًا روحيًا استعاد معنى الهجرة في بعدها الإيماني، لا في صورتها التاريخية فحسب. كان الوصول إلى بستان المستظل بجوار مسجد قباء أشبه باستدعاء حيّ لأول لحظات الاستقبال التي عاشها الأنصار وهم يفتحون صدورهم وبيوتهم للنبي ﷺ، حيث امتزج التعب بالسكينة، والدمع بالشكر، والفرح بالخشوع.
وهنا تتجلّى دلالة عميقة لا يمكن تجاوزها: فالمكان في الإسلام ليس محايدًا، بل تُضفي عليه القيم معناه، وتمنحه الذاكرة روحه. وهذا ما أدركته الرؤية السعودية المعاصرة حين أعادت الاعتبار للمواقع المرتبطة بالسيرة النبوية، لا بوصفها آثارًا جامدة، بل بوصفها فضاءات حية تُستعاد فيها القيم، وتُروى فيها القصة الكبرى للإسلام بوصفه مشروع إنسان قبل أن يكون تاريخًا.
فالمدينة اليوم لا تُزار بوصفها مكانًا فقط، بل تُعاش بوصفها سردية. ومسجد قباء لم يعد محطة عابرة، بل رمزًا مفتوحًا لمعنى التأسيس الأول، حيث بُني الإسلام على الطهارة، وعلى الجماعة، وعلى فكرة أن العمران يبدأ من القيم قبل الحجر. والبستان المجاور له، حيث تُستعاد لحظات الوصول، لم يعد مجرد موقع أخضر، بل فضاء رمزي يعيد تمثيل لحظة اللقاء الأولى بين المهاجرين والأنصار، بين التعب والاحتواء، بين الغربة والأمان.
وهنا يتجلّى عمق التحول الذي تقوده المملكة: إعادة الاعتبار للجغرافيا النبوية لا باعتبارها مادة للفرجة أو الاستثمار السياحي وحده، بل بوصفها ذاكرة حضارية تُبنى عليها هوية وطنية متصالحة مع تاريخها، منفتحة على العالم، دون أن تتنازل عن روحها.
إن ما جرى اليوم، في صورته الهادئة المؤثرة، يكشف أن الهجرة لم تنتهِ، بل تغيّرت أدواتها. لم تعد هجرة خوف، بل هجرة شوق. لم تعد فرارًا من أذى، بل عودة إلى المعنى. ولم تعد تأسيس دولة، بل إعادة وصل الإنسان بروحه، والمكان برسالته
غير أن بعض الأصوات – بدافع التشدد أو ضيق الفهم – تسارع إلى الاعتراض، متسائلة: هل فعل الصحابة ذلك؟ وهل ساروا على الأقدام؟ وهل اتخذوا من الآثار مواضع استحضار؟ والجواب على ذلك أوضح من أن يُجادل فيه لمن عرف السيرة وعاش مع أخبارها: فقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما معروفًا بتتبعه الدقيق لآثار النبي ﷺ في مكة والمدينة والطريق بينهما، يقف حيث وقف، ويصلي حيث صلى، ويمشي حيث مشى، لا تعبّدًا بالمكان، بل تعظيمًا للأثر واقتداءً بصاحب الأثر.
بل إن سبطي رسول الله ﷺ، الحسن والحسين، كانا يحجّان ماشيين، وتُقاد الرواحل بين أيديهما تواضعًا لله وتعظيمًا للشعيرة، وهو فعل اشتهر عن كبار الصحابة والخلفاء، ولم يُنكر عليهم أحد، لأنهم فهموا أن المشقة المقصودة في العبادة باب من أبواب القرب، وأن السير إلى الله ليس خطوة جسد فحسب، بل منزلة قلب.
ثم إن التاريخ القريب نفسه يشهد أن الناس، إلى ما قبل قرن واحد فقط، لم يكونوا يعرفون أسفارهم إلا مشيًا أو على ظهور الدواب، ولم يكن ذلك موضع استغراب أو إنكار، بل كان هو الأصل في الحج، والعمرة، وطلب العلم، وزيارة المشاهد، والتنقل بين الأمصار. فكيف يُستنكر اليوم ما كان بالأمس سلوك الأمة جمعاء؟
والأعجب من ذلك أن يُنكر هذا الفعل بدعوى “عدم الورود”، بينما ثبت في النص القطعي اتخاذ مقام إبراهيم مصلى، وهو حجر، لا لذاته، بل لما شهده من أثر النبوة، فصار المكان عبادة من حيث المعنى لا من حيث الجماد. وعلى هذا القياس، فإن استحضار طريق الهجرة، أو السير فيه، أو التوقف عند معالمه، ليس ابتداعًا، بل امتداد لفهم الصحابة لمعنى الاتباع.
إن الإشكال الحقيقي ليس في الفعل، بل في تجفيف الدين من روحه، وفصله عن بعده الحضاري والإنساني. فالدين الذي جاء ليهذب الإنسان لا يمكن أن يُختزل في أحكام جامدة تُنزع منها مقاصدها، ولا في قراءة حرفية تعجز عن فهم التاريخ والسياق.ومن هنا، فإن ما نشهده اليوم من إحياء واعٍ لمسار الهجرة، ومن إعادة ربط الناس بجغرافيا النبوة، هو في حقيقته استعادة لمعنى عظيم: أن الطريق إلى الله لا يُقاس بالمسافة، بل بالنية، وأن المكان إذا ارتبط بالوحي صار شاهدًا على الإيمان، لا أثرًا صامتًا.
وهكذا تبقى الهجرة حيّة، لا تُروى في الكتب فقط، بل تُعاش في القلوب، وتُستعاد في الخطوات، وتُقرأ في وجوه السائرين…تمامًا كما أرادها النبي ﷺ: رسالة تمشي، لا ذكرى تُعلّق.

