بقلم -أحمد تركي … خبير الشؤون العربية
تفرض الموانئ العُمانيَّة حضورها المتنامي على خريطة التجارة العالميَّة، مستندة إلى موقع جغرافي متفرد، يمنحها القدرة على التحكم في جزء من أهمِّ طُرق الشحن البحري بَيْنَ آسيا وإفريقيا، وهو موقع تخطى كونه ميزة جغرافيَّة جامدة، وأضحى ورقة ضغط استراتيجيَّة في زمن تتسارع فيه التحوُّلات الاقتصاديَّة والسياسيَّة.
في الحقيقة، فإن قدرة عُمان على استقبال خطوط ملاحيَّة كبرى، وتوفير خدمات عالية الكفاءة، يمنحها فرصة لتثبيت أقدامها كمحور عبور لا غنى عنه في حركة التجارة الإقليميَّة. ولعلَّ النتائج الَّتي تحققت في النصف الأول من 2025، بما شمل من ارتفاع لحركة السفن ومناولة الحاويات والبضائع، كُلُّها مؤشرات اقتصاديَّة إيجابيَّة، تؤكد نجاح رؤية واضحة تعدُّ الموانئ العُمانية أحد أهم أعمدة النفوذ الاقتصادي، كما تؤكد أيضاً أنَّ الاستثمار في هذا القِطاع أصبح استثمارًا في أوراق قوَّة سياسيَّة واقتصاديَّة، تدعم قدرة الدولة على التأثير في توازنات الإقليم، وتمنحها مساحة أكبر في صياغة شروط التعامل مع الشركاء الدوليِّين، بما يتجاوز إطار النشاط التجاري التقليدي.
يكشف النُّمو الملحوظ في المؤشرات التشغيليَّة عن نجاح استراتيجي في اختراق أسواق جديدة، واستقطاب خطوط شحن إضافيَّة كانت في السابق تمرُّ عبر موانئ منافسة، فزيادة مناولة الحاويات بنسبة (11.7%)، ونُمو أعداد السفن بنسبة (11.1%)، وارتفاع حجم البضائع المتناولة بنسبة (5.2%)، كُلُّها أرقام تحمل دلالات تتجاوز المعنى اللوجستي لتشير إلى تغيُّر في موازين المنافسة البحريَّة في المنطقة، ما يعكس قدرة السَّلطنة على إعادة توجيه مسارات التجارة نَحْوَ موانئها، ويمنحها نفوذًا أكبر في التفاوض مع مشغِّلي النقل البحري، وشركات الخدمات اللوجستيَّة، ما يعزِّز مكانتها كمحطَّة عبور رئيسة.
ومن خلال هذه النتائج، يُمكِن قراءة مشهد جديد تتشكل فيه الموانئ العُمانيَّة كفاعل إقليمي قادر على فرض واقع جديد في قِطاع النقل البحري، مدعومًا برؤية واضحة تستثمر في الأرقام لتصنع منها قوَّة حقيقيَّة على الأرض.
المؤكد ..أن المشروعات التطويريَّة الجارية الَّتي تقوم بها الجهات المختصة، تأتي كإضافة نوعيَّة تعزِّز من هذا المسار التصاعدي، وأبرز هذه المشاريع، تأهيل خور جراما ومرافئ شنة ومصيرة، مع ما يتضمنه من أعمال تصميم للأرصفة وكواسر الأمواج، ووضع مخططات تنظيميَّة متكاملة، لِتكُونَ أكبر من مشروع بنية أساسيَّة، ويصبح استثمارًا في رفع الجاهزيَّة الاستراتيجيَّة للموانئ. فهذه المشروعات تضع الأساس لتحويل الموانئ إلى منصَّات متعددة الوظائف، قادرة على استيعاب التحوُّلات في صناعة الشحن البحري، سواء من حيثُ أحجام السفن العملاقة أو أنواع البضائع المعقدة، كما أنَّها تفتح المجال أمام أنشطة اقتصاديَّة مرتبطة، مثل الصناعات البحريَّة، وخدمات الصيانة، والتجميع، وإعادة التصدير، بما يزيد من القيمة المضافة محليًّا.
ولا ريب أن هذا التوجُّه يعكس وعيًا بأهميَّة أنْ تكُونَ الموانئ العُمانيَّة مهيَّأة للتعامل مع سيناريوهات مستقبليَّة مختلفة، بما يضمن لها دورًا متقدمًا في الإقليم مهما تغيَّرت ظروف السوق العالميَّة.
وتعكس الخطوات العُمانية نَحْوَ تنويع الخدمات، مثل إنشاء مركز لمعالجة وتخزين الوقود البحري في ميناء شناص، فهمًا عميقًا لمتطلبات تحصين الموانئ ضدَّ تقلُّبات السوق العالميَّة، فالميناء الَّذي يقدِّم خدمات متكاملة، تشمل التموين والصيانة والتخزين، يتفوق على الميناء الَّذي يقتصر دَوْره على المناولة؛ لأنَّه يخلق مصادر دخل مستدامة، ويزيد من ارتباط الزبائن به أو المتعاملين معه على المدى الطويل.
إجمالاً يمكن القول… أن هذه الاستراتيجيَّة تفتح الباب أمام أنشطة صناعيَّة وخدميَّة جديدة، وتمنح الموانئ العُمانيَّة مرونة عالية في مواجهة الأزمات المفاجئة في قِطاع النقل البحري، مثل تقلُّب أسعار الشحن أو الاضطرابات الجيوسياسيَّة، ومن هنا فإنَّ التحرك العُماني في اتِّجاه التنويع لا يستهدف فقط تعزيز الأرقام الحاليَّة، لكنَّه يهدف إلى تأمين مستقبل هذا القِطاع كمحور لوجستي قادر على المنافسة والصمود، لِيظلَّ إحدى أهمِّ أدوات القوَّة الاقتصاديَّة العُمانيَّة في العقود القادمة، ورافعة حقيقيَّة لأهداف رؤية عُمان 2040، وجهود التنويع الاقتصادي المنشود.
التعليقات مغلقة.